Translate

الأربعاء، 17 أغسطس 2011

نزول البركة

محمد محمود ولد سيدي يحي

في المثل الموريتاني تلخيص موجز لعقيدة راسخة تقول إنه "لا فرق بين القلة والكثرة إلا نزول البركة" فكم من كثير لم ينتفع به صاحبه، وكم من قليل نزلت فيه البركة حتى أصبح خيرا كثيرا عم الناس جميعا.
والبركة رحمة يمنحها الله تعالى للأشياء والأماكن والأفراد فتكون أحوالهم إلى إقبال، ونقيضها الشؤم الذي يؤدي إلى زوال النعمة وتنغيصها بانعدام العافية والعياذ بالله.
 و لا نبالغ إذا قلنا إن البركة من مقومات وجود الأشياء في هذا الكون منذ خلقه الله تعالى الذي خلق الأرض في يومين {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} بنص كتابه الكريم.
والبركة في القرآن الكريم مما ينعم الله به على الأمم الصالحة، قال تعالى {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}
وتنزل البركة بالمكان كما بيّن جل وعلا بقوله {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} كما تحل بالزمان { إنا أنزلناه في ليلة مباركة}
كما أن البركة تحل بالعائلة كما قال سبحانه في قصة إبراهيم {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت}
وليس من البدعة ما يعتقده الموريتانيون منذ القدم من أن البركة متعدية من الأب إلى أبنائه، وذلك ما بنوا عليه اعتقادهم في أبناء الصالحين حتى قال مثلهم الشهير "إذا كان ابن الصالحين حمارا فلا تركبه" وذلك من شدة إجلالهم للصلاح والبركة التي تنتقل بين الأجيال، إلا أن ذلك الاعتقاد لم يلبث أن انتهى إلى الاتكالية والبكاء على الأطلال.
 والقصة المسطورة في سورة الكهف عن الغلامين اليتيمين دليل طالما تمسك به أسلافنا في وجه من يسمونهم "المنكرين" قال جل من قائل:{وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك}.
وقد بلغ الأمر ببعض المفسرين إلى القول إن هذا الأب الصالح كان جد الغلامين الأربعين، وبالغ بعضهم فقال إنه الجدّ الأربعون من جهة الأم وربما من الرضاعة، وذلك حتى يؤكدوا معنى قوة مفعول بركة الأجداد في الأبناء.
والصحيح أن للوراثة حظا في كثير من الخصال  إلا أن الله تعالى قضى أن {كل نفس بما كسبت رهينة} ولم يقبل لخليله إبراهيم عليه السلام اطراد البركة في عقبه فقال{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال: إني جاعلك للناس إماما، قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين}
وقد أتى على ساكنة هذه البلاد حين من الدهر كانت فيه البركة قوة روحية تحمي فئات عريضة حتى كادت المكانة الروحية لبركات الأولياء والصالحين أن توازن القوة العسكرية للمجموعات ذات الشوكة.
وإذا كان الأصل في البركة أن تكون معنى دينيا يرتبط بالخير والمعاني الإيجابية فقد طور سلفنا الموريتاني في عصر السيبة مفهوما للبركة السلبية أو الضارة سموه "تزبوت" وهي انتقام  الله لعباده الصالحين إذا مسهم الظلم.
ولا شك أن معنى "تزبوت" ثابت لأن الآية تقول{إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} و الحديث يقول "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب".
 ولعل من أخطاء الكاتب الصحفي المرحوم حبيب ولد محفوظ ما كتبه ذات يوم من أن "تزبوت" كلمة من أصل فرنسي قادم من ثقافة المستعمر الذي كان يعاقب السكان وأنها تركيب مزجي من كلمتي" mis à pied"
وهو ربط خاطئ نتج عن ثقافة المرحوم الفرانكفونية، ولا أدل على بعد ذلك من أن المفهوم قديم والصيغة الصرفية للكلمة صنهاجية أصيلة مما ينفي عنها أية علاقة بالثقافة الأجنبية.
و يشكو كثير من كبار السن الموريتانيين اليوم في حديثه عن تقلب الزمان من انتزاع البركة؛ فرغم أن الوفرة في الملبس والمأكل والغذاء حلت محل الندرة إلا أن الجشع والشكوى في تزايد.
ويعتبر آخرون أن أبناء الصالحين لم تعد البركة تصاحبهم، بل إن الدعاء المستجاب أصبح من القليل النادر
ويعلل بعض الوعاظ والصالحين غياب البركة بكثرة الحرام ودخوله في مختلف جوانب الحياة، ويستدلون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل "يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب وملبسه حرام  وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟!"
ولولا رحمة الله بعباده ورأفته بضعفائهم لزالت البركة من الخليقة ففي الأثر المشهور أنه"لولا شيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع" لما نزل القطر من السماء.
والظاهر أن البركة مرتبطة بالاستقامة وهي لازم من لوازم الإيمان والعمل الصالح، وبانتقاصهما فإنها تتراجع.
ولكن الصحيح أيضا أن ساكنة هذه البلاد تعاهدوا هذا الدين وأدمنوا تلاوة كتاب الله  طيلة أجيال من الزمن حتى ولو خلفت من بعدهم خلوف.
 وفي عصرنا الحاضر سادت ثقافة علمانية تتجاهل الخواص المقدسة للأشياء، وتعتبرها تعاملا سحريا ينبغي استبداله بالنظرة المادية التي لا تهتم بروح الأشياء.
ورغم أن مفاهيم البركة و "تزبوت" ارتبطت بشيء من الخرافة في أذهان العامة إلا أننا في هذه البلاد ننظر إلى وفرة المصادر والخيرات الطبيعية ونستغرب من عدم التوفيق في توظيفها لصالح الإنسان.
لا شك إذن في أننا نعاني من انتزاع البركة وأن ذلك ليس نقمة إلهية وإنما هو بفعل أيدينا بعد أن رضينا بالكسل في الإنتاج والفكر والتديّن، وأصبحنا عالة نتكفّف فتات الأفكار والسلع وحتى الصرعات الدينية الشاذة.
وبانتظار أن نتحول من ثقافة أبناء الصالحين إلى أن نكون صالحين قولا وعملا سيظل عزاؤنا الوحيد هو أن الله تعالى " يستحيي أن ينتزع البركة من موضع وضعها فيه".



الاثنين، 1 أغسطس 2011

هبة المحظرة


محمد محمود ولد سيدي يحي

روى الرحالة الاستعماري "رنيه كاييه" أو ما يعرف محليا ب"ولد كيج النصراني" معاناة عجيبة من تظاهره بشعائر الإسلام وادعائه العلم الشرعي بين أبناء المحاظر عندما زار البلاد في القرن التاسع عشر.
ويذكر بشكل مضحك كيف صادف قدومه إلى محاظر لبراكنه إطلالة شهر رمضان المبارك، حيث فوجئ بأن عليه أن يصوم في موسم صيف قائظ، وما تسبب له فيه ذلك من ألم شديد رغم أنه  كان يسترق الشراب كلما اختفى عن أعين الناس.
وسقط كاييه مريضا تحت تأثير إسهال حادّ، ليكتشف متأخرا أن ضرورة المرض تبيح له الإفطار!
وحملت ملاحظات المستشرق الساخرة حنقا شديدا على الانضباط الديني والمستوى المعرفي لهؤلاء البدو الأجلاف الذين سموا بهذا الدين سموّا كان بالنسبة له اعتزازا بالذات يصل إلى درجة الكبر لأنه يهدد رسالة الاستعمار التي سافر الرجل يمهّد لها الطريق.
لقد تعجب معظم الرحالة الغربيين -رغم تحاملهم الشديد- من اعتزاز البدو بدينهم وثقتهم بأنفسهم، وكان انتشار التعليم بين أبناء الصحراء الكبرى بسبب المحظرة أمرا لافتا للانتباه في مذكراتهم.
وفي العالم الإسلامي كانت المحظرة مؤسسة تعليمية حرة وبدائية الوسائل، ولكن خريجي هذه المؤسسة كانوا محط إعجاب، ووصلوا إلى منافسة جامعات دينية حضرية عريقة كالأزهر والزيتونة والقرويين.
 عندما تفتحون الصفحات الأولى من كتاب "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني الذي يعتبر أشهر كتب البلاغة العربية ستجدون أنه مصحّح بمراجعة علامتي المنقول والمعقول الشيخين محمد عبده والشيخ محمد محمود ولد التلاميد الشنقيطي، ونفس الملاحظة تجدونها على نسخ القاموس المحيط للفيروزابادي.
لم يكن إذن من المستغرب أن يبعث السلطان عبد الحميد في طلب الشيخ الشنقيطي ويكلفه بجرد المخطوطات العربية في إسبانيا، ولا أن يتشوّق ملك السويد لرؤية عالم اللغة العربية وحافظة الشعر الجاهلي في مؤتمر دولي.
إنه شيخ عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي خلده في سيرته الذاتية الرائعة "الأيام" تحت اسم الشيخ الشنقيطي الذي أثبت من مروياته في الشعر الجاهلي مائة بيت على صرف "عمر" خلافا لما يعتقده النحاة منذ سيبويه إلى ابن مالك!!
يعرض الشيخ "آبّ ولد اخطور" في رحلته للحجّ إلى بيت الله الحرام جانبا من تنوع تلك الثقافة المحظرية في منتصف القرن العشرين، وكيف دارت مناظراته حول البلاغة والمنطق والأصول، واحتفى به العلماء طيلة الرحلة التي استمرت برّا من بلادنا إلى السودان عبورا إلى الحجاز.
 وفي البلاد المقدسة  كان تكريس الشناقطة علما للمعرفة الدينية إلى اليوم رغم ما ألحقه خلوف بذلك اللقب بعدما تغيرت حال الدنيا وهجر الأحفاد مآثر الآباء.
 وغير بعيد ما زال الشيخ عبد الله بن بيّه حفظه الله يمسك لواء العلم الشنقيطي، الذي  وجد المسلمون الأوروبيون في تأصيله المالكي لنوازلهم منزعا يعبّر عن روح اعتدال إسلامي طالما افتقدوه في كثير ممن يتصدون للإفتاء في هذه الأيام.    
وإذا كان بعض فقهاء المحظرة أفتوا بجواز التعامل مع المستعمر وفضلوا سلطته على فوضى عصر السيبة؛ فإن المحظرة وقفت حصنا منيعا دون تغلغل ثقافة المستعمر وحمت الهوية من المسخ الحضاري، حتى أن قرى عديدة في هذه البلاد ظلت ترفض المدرسة الحديثة إلى عهد قريب لأنها ارتبطت في أذهان ساكنتها بتسويق ثقافة المستعمر التي تقضي على آخر حصون الذات والهوية الإسلامية التي تأسس عليها المجتمع الموريتاني.
 لقد وحّدت المحظرة لغة المخاطبة والكتابة بين جميع أبناء هذه البلاد على اختلاف لغاتهم المحلية، ومازالت المخطوطات التي تركها علماء منطقة "فوتا" وغيرها شاهدة على أن الحرف القرآني كان أول حرف دونت به البولارية و السوننكية و الولفية.
و عندما قرر القائمون على الأمر ذات مرة - في صحوة ضمير- أن يعيدوا الانفتاح مابين الإدارة واللغة العربية كان آلاف الأطر من خريجي المحظرة جاهزين لتولي مناصب التدريس والقضاء دونما حاجة إلى تكاليف البعثات الباهظة.
لقد وصف المؤرخ اليوناني هيرودوتس مصر بأنها هبة النيل، ويمكننا أن نقول إن هوية شعب موريتانيا ومناعته الثقافية هبة المحظرة، ولكن المصريين بنوا سدا عاليا للاستفادة من النيل وتجنب آثار الجفاف والفيضانات.
 فماذا قدمنا نحن للمحظرة التي كانت أم الحضارة الموريتانية؟
 هاهو العالم من حولنا قد ارتفعت أصواته بحثا عن الإسلام الصحيح الذي يبتعد عن زيغ المغالين وتحريف الجاهلين، وهاهي بلاد الإسلام  تتعرض لنوبة ارتكاس وردة دينية عنيفة تذكر بعهد الحشاشين والقرامطة.
فماذا فعلنا حتى نمكن المحظرة اليوم من مواصلة دورها التاريخي في حفظ المناعة الحضارية والدينية لمجتمع يعاني من بوائق العولمة.
أين هي أساليب التحفيظ والأنظام والنصوص الجاهزة من واقع ثقافي يمور بمختلف "الصرعات" الفكرية؟
وهل يمكن أن ندّعي الحفاظ على ميراث الأجداد إذا كنا مجرد "كائنات تراثية" بدلا من أن نكون "كائنات لديها تراث" على حد تعبير المفكر الكبير محمد عابد الجابري؟
إن الفتى من يقول ها أنذا
ليس الفتى من يقول كان أبي!