Translate

الاثنين، 12 نوفمبر 2012

د.محمد المحجوب ولد بيّه "المقاومة السوننكية" أو تصحيح التاريخ






 محمد محمود ولد سيدي يحي


شكّل صدور كتاب الدكتور محمد المحجوب ولد بيّه "المقاومة السوننكيه للاستعمار في كيدي ماغه"  إضافة هامة إلى المكتبة الوطنية.

ويبدو أن الوزير والسفير السابق قرر أن يمثل استثناء لقاعدة سيئة جرى بها العمل في بلادنا، وهي أن يقتصر تناول تاريخ وثقافة كل مجموعة عرقية في البلاد على أبنائها، وذلك ما جعل الحوار الوطني والتعارف الثقافي بين مكونات هذا الوطن ضحية لمونولوج ذاتي منغلق رسخه إهمال الباحثين والمثقفين، واستغلته الانتهازية السياسية أبشع استغلال.

ويتناول الكتاب الذي نشرته مكتبة القرنين15/21 وثيقة نادرة كتبها أحد الإداريين الفرنسيين يسمى غوستاف أودان سنة 1908 يستعرض فيها مشايخ المحاظر والطرق الصوفية في كيدي ماغه ومواقفهم من الاستعمار الفرنسي.

وتوضح الوثيقة مستوى الرفض الكبير لدى القيادات الدينية في مجتمع السوننكه للاستعمار الفرنسي حيث أن 103 من الشيوخ من أصل 135 شيخا كانوا مناهضين للوجود الفرنسي، وجاءت ملاحظات الإداري حولهم دالة حيث  وصفهم بالأعداء وأوصى بمراقبتهم مراقبة مشددة.

وتعرض الوثيقة للتصرفات الوحشية للجيش الغازي الذي لجأ إلى إحراق القرى والمكتبات مما جعل شيوخ المحاظر في المنطقة يلجأون لإخفاء كتبهم.

ورغم أن الدراسة التي قام بها الدكتور محمد المحجوب للوثيقة كانت موجزة، إلا أنه ساهم بمجهود قيّم في تعريف قراء العربية بالمجتمع السوننكي، ورصد محطات مقاومته للاستعمار الفرنسي، وهنا تبرز أسماء بارزة مثل براما ديانكو، وديريكو فوليل، وفودي إسمايمه الذي أصبح اسمه يمثل في كل أنحاء بلاد السوننكه التمرد والجهاد ضد الفرنسيين، وما إن بدأت دعوته تؤتي أكلها في الزوايا السوننكه حتى ألقى الفرنسيون عليه القبض وحكموا عليه بالسجن10 سنوات، وتم نفيه إلى ساحل العاج سنة 1911 حيث ظل هناك حتى استشهد.

 وقد عقب الدكتور امبوستا جاكانا على الدراسة بالقول "إن تناول مقاومة علماء ومحاظر السوننكى لدخول الاستعمار يحمل من وجهة نظري معنى خاصا؛ هو تصحيح التاريخ، فأكاد أقول إن أكثر آلام موريتانيا ناتجة إما عن الجهل بالتاريخ وإما عن تفسيره تفسيرا متحيزا، إننا لا نجد مجاهدا أو عالما سوننكيا مذكورا في مقرراتنا المدرسية أو الجامعية ما عدا ممادو لامين ادرامى، مع أن أبحاث الدكتور المحجوب ولد بيّه أثبتت أنهم كثيرون جدا.. كما يفند الكاتب حكما مسبقا آخر هو الاعتقاد بأن طلاب السوننكى وحتى البولار والبمباره الذين يرتادون المحاظر كانوا "حالات معزولة"

ويخلص الدكتور جاكانا للقول "إن المؤلف د. محمد المحجوب ولد بيّه باتخاذه من كيدي ماغه موضوع دراسته يضفي على المنطقة بعدا رمزيا يجعل منها فضاء للتمازج والتكامل بين الموريتانيين، ففي كيديماغه نجد فضلا عن السوننكى جميع مكونات البلد تتعايش في وئام وانسجام رغم صروف السياسة العابرة، والحقيقة أن موريتانيا ذاتها بموقعها الجغرافي هي محصلة لمكوناتها الثقافية والبشرية العربية الصنهاجية الزنجية والإفريقية المتمسكة أيّما تمسك بإسلامها الموحّد الجامع، وموريتانيا قوية بهذا الاتحاد والتمازج، لنتذكر جميعا تلك النماذج مثل واراجابي وآمدو جني مجاهدي التكرور، وحرب شرببه، واعل ولد الأمير محمد لحبيب والأميرة جنبت، والآزير تلك اللغة المزيج بين السوننكية والصنهاجية.."

وقد أشفع الدكتور محمد المحجوب ولد بيّه تحقيقه للوثيقة وترجمته لها إلى اللغة العربية بوثيقة أخرى هي خطاب السيد جاورا صار أمام المجلس الفرنسي الكبير حول تعليم اللغة العربية سنة 1949، حيث طالب السلطات الفرنسية بدعم تدريس اللغة العربية في موريتانيا، ومما قاله هذا الإطار السوننكي في ذلك الوقت المبكر: "شئنا أم أبينا سيظل الموريتاني دائما يسعى إلى تحسين مستواه في لغته العربية من دون أن يعني ذلك أنه يكن رغبة خفية في أن يصبح تابعا لدولة من الدول العربية، إن تمسكه يظل قويا في نطاق ما يسمح له به دستور الجمهورية الرابعة بعادات وتقاليد أسلافه القديمة ومعتقداته الدينية ومن ثم بشخصيته الخاصة.."

وفي خاتمة الكتاب يقول الدكتور محمد المحجوب بتواضعه المعروف "لقد تبينت خلال دراستي لهذه الوثيقة عدة أمور؛ أولها قصور معرفتي بتاريخنا الوطني رغم أن وعيي بأهمية دراسته والاعتناء به كان مبكرا، وكان هذا الإدراك يتجلى كلما اكتشفت معلومة جديدة ترسخ إيماني بثراء وعراقة شعبنا، ومما آسف عليه أنني قد لا أكون استثناء بين الموريتانيين؛ فنحن جميعا بحاجة ملحة لمعرفة تاريخنا وجهاد آبائنا وأجدادنا ومقاومتهم للغزو الأجنبي، وإن كنا نعرف عنه القليل فغالبا ما يكون عن الجانب المسلح أما الجانب الثقافي منه فقليلا ما أوليناه أهمية؛ فكيف إذا كان الجهاد الذي قام به أهل كيديماغه"

ويعتبر كتاب الدكتور محمد المحجوب ولد بيه إضافة ثقافية وعملا وطنيا بامتياز ينتمي إلى تاريخ الرجل ونضاله في الحركة الوطنية الديمقراطية الذي رسم لنا جوانب ممتعة منه في كتابه الشيق "أتذكر" والذي صدر سنة 2004، وحوى مشاهد من الحراك السياسي والفكري لموريتانيا السبعينيات.

وقد قرر الدكتور محمد المحجوب أن يستكمل الفكرة الرئيسية للكتاب في عمل أكثر شمولية تحت عنوان " موريتانيا جذور وجسور؛ المقاومة السوننكية للاستعمار في كيديماغه" وهو العمل الذي فاز مؤخرا بجائزة شنقيط للآداب للعام الحالي.

وقد علق  الباحث السفير محمد سعيد ولد همدي في تقديمه لكتاب الدكتور محمد المحجوب ولد بيّه قائلا "أنا على يقين يا صديقي السفير ولد بيّه، أنكم في آخر خدمتكم الطويلة، ستستطيعون من خلال عملكم في اليونسكو ملتقى الاعتقادات والثقافات والحضارات التي تباعد بينها المسافات الشاسعة وشتى السدود، أن تساهموا في توعية الذاكرات والهويات الوطنية الموريتانية الأربع بحقيقة اتحادها في المشرب والعاطفة، بل إنها في الحقيقة توائم وكتابكم "موريتانيا جذور وجسور" يمثل بلا شك قاعدة لذلك وخطوة أولى في سبيله، والخطوات الأولى هي الأكثر أهمية"

ولا شك في أن التركيز على العمل الأكاديمي لمد جسور الوحدة الوطنية بين المكونات العرقية والثقافية للدولة الموريتانية عمل رفيع ما زال في حاجة إلى جهود كبيرة، وقد كنت طالبت قبل سنوات في كتاب "المجتمع الفضفاض" باعتماد مقرر دراسي في المرحلة الإعدادية  يسمى "الثقافة الوطنية" يتعرف فيه الطلاب على مبادئ وعبارات من جميع لغاتنا الوطنية، ويتم فيه التعريف بالمرويات الشعبية والأمثال والعادات المتنوعة في هذا البلد، لأن "التعارف" هو بوابة المحبة والترابط العميق؛ كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}

الاثنين، 14 مايو 2012

كيمياء السعادة


محمد محمود ولد سيدي يحي

كان من طرائف حياة الطلاب أيام المنحة والدراسة بالخارج أنهم اجتمعوا على عادتهم للمناظرة والنقاش إحدى المرات فقال قائل منهم: كيف تعرّفون السعادة؟ فتبارى الجميع يعددون أنواع المطالب والأحلام الخصبة التي امتلأت بها أذهانهم، وكان من بينهم شابّ غريب الأطوار متميز العادات والأفكار، فلما انتهى إليه الكلام قال:
 السعادة أيها الأحباب؛ هي أن أنتهي من تناول الطعام في صينيتي بمطعم الجامعة يوم يقدم الدجاج، فأنظر إلى الطابور فإذا هو قليل فأعيد الكرة فأحصل على صينية ثانية، فانفجر الحاضرون بالضحك.
 وقد احتفظ الطلاب في ذلك القطر بكلمة السعادة تعبيرا عن كل من يعيد الكرة فيتناول وجبة ثانية في مطعم الجامعة.
يقول المثل الحساني "لا يوجد من هو أكبر من حاجته"، والمتأمل في حياة الطلاب و ما يعانونه من الصبر والانتظار في طابور المطعم الجامعي الذي يستقبل الآلاف منهم في ساعات قلائل يعلم كم هي سعادة عظيمة أن يشبع الطالب من وجبة يفضلها، وقديما استهجن نقادنا القدامى على أمير شعراء الجاهلية امرئ القيس قوله عن غنمه:
فتملأ بيتنا أقطا وسمنا
وحسبك من غنى شبع وريّ
وفضلوا عليه قوله:
ولكنما أسعى لمجد مؤثّل
 وقد يدرك المجد المؤثّل أمثالي
ولكن النقاد يحكمون على المعاني معزولة عن سياقها، ويظلمون الناس ويبخسونهم أشياءهم، وقد علموا قصة الملك الذي باع نصف ملكه في شربة ماء، فلما حبس عنه البول باع نصفها الباقي في تيسير خروج البول!!
غير أن أمر السعادة أمر عظيم حارت فيه عقول ذوي الألباب، ومازال ميدانا مفتوحا لم يصل البشر فيه إلى فصل الخطاب.
وإذا كان حكماء المسلمين القدامى من أمثال أبي نصر الفارابي وأبي علي بن سينا وأبي بكر بن باجه، قد رأوا السعادة  في  تأمل الأفكار المجردة  وانصراف الذهن إليها، فإن حكيم شعراء العربية أحمد بن الحسين المتنبي فطن قبلهم إلى أن تمام الوعي ووضوح الأفكار قد يكون مدخلا من مداخل الشقاء والعناء، وخصوصا لمن يمنعه سوء الحال من تحقيق عظيم الآمال حيث قال:
 وذو العقل يشقى في الحياة بعقله                                                                                                  
 وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
  إلا أن احتساب فضائل الجهل ونعيم الغفلة على طريقة المتنبي مقصور على من سدّ الله شهيتهم للمعرفة وطلاب المعالي، وهي أمور نسبية تختلف باختلاف التربية وعادات المحيط.
وقد اختلف فلاسفة اليونان في أمر السعادة، فانقسموا فريقين قاد أولهما تلاميذ "أبيقور" الذين زعموا أن سعادة المرء تقبل القياس من خلال كمّ اللّذات التي يحصل الإنسان عليها وعدد الآلام التي يتجنبها، بينما اختار الفريق الثاني الذي قاده فلاسفة الرواقية ربط السعادة بالشعور الذاتي وإحساس الإنسان الشخصي بما يعيشه ويواجهه؛ فكم من شخص يكابد شظف العيش في نظرنا بينما يرى في ذلك عملا عظيما أو أداء واجب يمدحه الناس فينقلب ما نراه من عذاب ومشقة خارجية إلى سعادة وسرور غامر، وذلك هو حال المريد في خدمة الشيخ والمدافع عن حياض الوطن والقبيلة وهو يبذل ماله ونفسه في الذود عن أمته أو قبيلته.
ولعل هذا المذهب الثاني هو ما رجحه أسلافنا من المتصوفة الذين اعتبروا مطالب اللذة والجسد فانية زائلة، فقضوا بمجاهدتها وعدم الانسياق وراءها، ووصفوا سعادة تحصل بين جوانحهم لو علم بها الملوك لسيّروا الجيوش لمقاتلتهم عليها، وقد كانت مقامات السائرين لمعرفة الله تعالى عند القوم نوعا من "كيمياء السعادة" حسب تعبير حجة الإسلام أبي حامد الغزالي في إحدى رسائله الشهيرة.
ولا جدال في أن السعادة لم تعد اليوم جدلا فكريا فلسفيا بين الفلاسفة والحكماء لأنها تحولت مع الروح الدنيوية السائدة لدى البشر إلى مطلب لا يفكر الناس في تأجيله ليوم الدين على طريقة المؤمنين.
وقد لعبت الصورة التي يعمل على تجميلها المخرجون والألاعيب البصرية للإشهار والإعلان دور إذكاء أحلام الناس في ظل ثقافة العولمة التي لا تدّخر جهدا لسلب القلوب والجيوب في الحصول على سعادة أرضية ملموسة في مجتمع الرفاه والاستهلاك.
وتكفّلت الديموقراطيات العصرية بإشاعة خطاب سياسي ديماغوجي يدّعي العمل على إسعاد الناس وتحقيق أحلامهم التي أذكتها ثقافة الصوت والصورة.
وربما كان معظم أشكال الشقاء التي عكستها الأمراض النفسية التي يعاني منها حسب آخر الإحصائيات ثلث سكان المعمورة وبلادنا من ضمنهم، ربما كانت دليلا على شقاء الوعي الذي يعانيه ملايين الذين أصبحت الأشياء الجميلة والمريحة تتكرر على مسامعهم وأبصارهم كل يوم دون أن يكون في مقدورهم الحصول عليها.
"كن جميلا ترى الوجود جميلا"
تلك حكمة كررها الشعراء بأساليب مختلفة، ولم نعدم من السياسيين من يرددها على طريقة من قال:"إن الإنسان يمكن أن يكون وزيرا في عينه"، إلا أن هذه الفكرة الليبرالية المحافظة التي تعوّل على تغيير إحساس الناس تجاه واقعهم بدلا من تغيير هذا الواقع لم تعد قادرة على الثبات وتزييف وعي الجماهير التي أصبح بإمكانها رؤية التناقض بين القول والفعل للذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.
ولو سألنا كثيرا من الأفراد عبر العالم عن السعادة لقالوا إنها البيت المريح والصحة الجيدة والدخل الوافر والنجاح الاجتماعي.. إلى آخر القائمة، ولكن توحيد طموحات الناس عبر أرجاء القرية الكونية يجعل مهمة تجميل البؤس والفاقة عملا أصعب من ذي قبل بكثير.
إن على السياسيين والباحثين عن الربح عبر العالم أن يكونوا أكثر حيطة وحذرا في ظل وعي بشري وطموحات تتجه نحو التشابه، وبانتظار أن تجد الإنسانية سبيلا إلى التشارك بدلا من التنافس، لا نملك إلا التأسف على تراجع عدد الزاهدين الذين يرددون البيت العربي الشهير:
 ولست أرى السعادة جمع مال
 ولكنّ التقيّ هو السعيد



الأحد، 19 فبراير 2012

شباب في مهبّ العولمة

محمد محمود ولد سيدي يحي
تضمّنت إحدى ورقات البردي التي تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد نصّا باللغة المصرية القديمة يحمل شكوى من فلاح مصري يستغرب سلوك الشباب في زمانه، ويقول إنهم خالفوا الأعراف ولم يعودوا يأبهون لشيء مما يحرص عليه آباؤهم.
 ولو أننا أصغينا اليوم إلى الآباء في هذا الركن القصيّ من إفريقيا لوجدناهم يحملون نفس مشاعر الحسرة والاستغراب تجاه سلوك أبنائهم، فصراع الأجيال سنة كونية واختلاف الخلف عن السلف من طبائع العمران البشري والاجتماع الإنساني على حد تعبير عبد الرحمن ابن خلدون.
ولعل من ينظر إلى طموحات مواليد التسعينيات وأواخر الثمانينيات من شبابنا وشاباتنا في موريتانيا اليوم سيفاجأ بأن حجم الاختلاف يبدو كبيرا وزاوية الاهتمام تكاد تكون مغايرة، ليس فقط مقارنة مع جيل الاستقلال وإنما بالنسبة إلى مواليد الستينيات والسبعينيات.
ومتابعة القنوات الفضائية التي يشاهدها هؤلاء تؤكد أن الذوق مختلف عن الجيل الذي يكبرهم مباشرة، فبرامج البث الرياضي، والأفلام العنيفة تستأثر باهتمام الفتيان المراهقين، بينما تتفق فئة المراهقات على حفظ أحدث أغاني الفيديو كليبس التي تبثها القنوات الفنية، وتقصي أخبار الفنانين وسيرة الحياة اليومية لما يعرف بنجوم"استار أكاديمي" والمسلسلات المدبلجة.
والطريف في عمومية هذه الثقافة هو عدم تفريقها بين مراهقي ومراهقات الأحياء الغنية وتلك الفقيرة؛ فالجميع يتبادلون الحديث حول عالم المغامرات الافتراضية، وترتفع أصواتهم بالجدال حول أبطالهم المفضلين في فناء المدارس العمومية والخصوصية التي تجمعهم.
وفي فئة البالغين وطلاب الجامعة نجد مستوى من الاهتمام بالشأن العمومي على مستوى النقاشات، إلا أن ثقافة الموضة والصعود السريع الذي خلقته اقتصاديات "اتبتيب" رسخت معارف متداولة حول ماركات السيارات الفارهة، والهواتف النقالة الملونة، مما جعل موضوع التأشيرات والهجرة إلى الخارج والغنى السريع يسيطر جانب كبير من طموحات تلك الفئة.
ومن هنا نجد أن التحصيل الدراسي والهمّ المعرفي مما لا يحظى باهتمام يذكر لدى الغالبية العظمى من هؤلاء، ولا أدل على ذلك من انحسار عادة القراءة بين المراهقين، اللهم إلا بعض المجلات الفنية، وربما بعض صفحات الويب الخفيفة.
في الثمانينيات كان كثير من المراهقين يطالعون قصص الألغاز ويقبلون على المراكز الثقافية ويتركز طموحهم في التفوق المدرسي، ولذلك ينخرطون في الحركات الأيديولوجية والعمل السياسي مبكرا، وتحتل المناظرات الفكرية والتعليق على الأحداث الإقليمية والدولية جانبا مهما من أحاديثهم، ولكن الأمر مختلف جذريا بالنسبة للفئات العمرية المشابهة في نواكشوط الألفية الثالثة.
ولا شك في أن برامج الفضائيات وتدفق المعلومات على الشبكة العنكبوتية قد شهدت طفرة خلال العشرية الأخيرة جعلت ثقافة الجميع كبارا وصغارا تتكيف معها بشكل لم يكن مطروحا على شباب ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم.
المخرج الزميل أحمد حبيبي كتب حينذاك عمودا في جريدة الشعب تحت عنوان "شبابنا أبناء فلان" وكان ينتقد على أترابه ترددهم في ولوج مجال التمثيل والفن والمسرح، لأن كثافة الموروث العائلي تمنعهم من الإقبال على مهن لم يتقبلها المجتمع بعد، ولكن الإحراجات التي كانت تواجه جيل الثمانينيات، أصبحت غائبة من أذهان معظم شبابنا اليوم الذين يحلمون بالمشاركة في أكاديميات النجوم وربما عروض الأزياء في المشرق والمغرب.
وقد تكون هذه حسنة من حسنات العولمة التي بدأت تقضي على ميراث القبيلة والعائلة وأساطيرها التي يعتقد البعض أنها تكبّل الموريتانيين، ولكن هؤلاء سيعودون للبكاء على ذلك الزمان الذي كان فيه للشباب نسب معروف لأن أصعب جيل على الانضباط هو جيل المشردين المجردين من كل انتماء.
عامل أساسي  كان له الدور الحاسم في إفقار ثقافة المراهقين وافتقادها إلى ما يشدها إلى الأمور العامة، هو هذا الارتباك الشديد  الذي تعرضت له المنظومة التربوية خلال العقد الماضي، وضآلة البرامج والأنشطة المنظمة التي تتوجه لملء الفراغ الذي تعاني منه شريحة كبيرة في مدينة مختنقة تنعدم فيها المنتديات والساحات العمومية ومركبات رعاية الشباب الفاعلة.
من المنطقي جدا أن نتحدث إذن عن ارتفاع نسبة انحراف الأحداث وسقوطهم ضحية للجرائم المنظمة والأفكار الغريبة، ولعل تنامي ظاهرة الاغتصاب وتعاطي المخدرات مما يعكس صحة البيت الشهير:
 إن الفراغ والشباب والجده
 مفسدة للمرء أي مفسده
لا يتعلق الأمر بالدفاع عن القول المأثور"آباؤكم خير من أبنائكم إلى يوم القيامة"، مادام الحلم بإعادة شباب اليوم إلى تقليد حياة آبائهم كالحلم بعودة الشباب لمن غزاه الشيب، والموقف الصحيح هو أن نقول مع القرآن الكريم عن الجيل القديم {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}
ولكن تحديات العولمة تقتضي إخراج جموع اليافعين واليافعات من دوامة العوالم الافتراضية إلى تحقيق مغامرات مقبولة وناجحة تستغرق طاقاتهم الخلاقة،  وتوظف حيويتهم المتدفقة.
إن أخطر ما يواجه شباب هذه الأيام ليس تذوقهم للأغاني الراقصة وافتتانهم بعالم السرعة، ولكنه خضوعهم لرحمة المعلبات الفكرية والثقافية التي تقدمها حضارة الإعلان بألوان زاهية تسلب الألباب.
إن التحدي الأكبر هو الاحتفاظ بجذوة الإنتاجية والإبداعية العصامية تجاه عالم ينحو إلى التنميط، ومن ثم فإن المناعة الأخلاقية تجاه مغريات الانحراف وراء الأفكار الغريبة حتى ولو لبست ثوب القداسة والاحترام تحتاج أكثر من وقفة مع الأجيال الجديدة.
من غير المقبول أن نحمل الأسرة وحدها مسئولية رعاية النشء، ولا بد أن تكون برامج رعاية الشباب جهدا مشتركا يخطط له المسجد والإعلام والفن والرياضة والمدرسة والأندية الصيفية.
سيكون علينا أن نزدرد حقيقة اختلاف جيل الأبناء في الهوايات والاهتمامات مع جيل الآباء، لأنها سنة الحياة، ولكن من سنن الله في خلقه أن نطمئن على مستقبل هؤلاء لأننا نرى فيه استمرارا لذواتنا لا نملك أن نفرط فيه.