محمد محمود ولد سيدي يحي
في المثل الموريتاني تلخيص موجز لعقيدة راسخة تقول إنه "لا فرق بين القلة والكثرة إلا نزول البركة" فكم من كثير لم ينتفع به صاحبه، وكم من قليل نزلت فيه البركة حتى أصبح خيرا كثيرا عم الناس جميعا.
والبركة رحمة يمنحها الله تعالى للأشياء والأماكن والأفراد فتكون أحوالهم إلى إقبال، ونقيضها الشؤم الذي يؤدي إلى زوال النعمة وتنغيصها بانعدام العافية والعياذ بالله.
و لا نبالغ إذا قلنا إن البركة من مقومات وجود الأشياء في هذا الكون منذ خلقه الله تعالى الذي خلق الأرض في يومين {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} بنص كتابه الكريم.
والبركة في القرآن الكريم مما ينعم الله به على الأمم الصالحة، قال تعالى {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}
وتنزل البركة بالمكان كما بيّن جل وعلا بقوله {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} كما تحل بالزمان { إنا أنزلناه في ليلة مباركة}
كما أن البركة تحل بالعائلة كما قال سبحانه في قصة إبراهيم {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت}
وليس من البدعة ما يعتقده الموريتانيون منذ القدم من أن البركة متعدية من الأب إلى أبنائه، وذلك ما بنوا عليه اعتقادهم في أبناء الصالحين حتى قال مثلهم الشهير "إذا كان ابن الصالحين حمارا فلا تركبه" وذلك من شدة إجلالهم للصلاح والبركة التي تنتقل بين الأجيال، إلا أن ذلك الاعتقاد لم يلبث أن انتهى إلى الاتكالية والبكاء على الأطلال.
والقصة المسطورة في سورة الكهف عن الغلامين اليتيمين دليل طالما تمسك به أسلافنا في وجه من يسمونهم "المنكرين" قال جل من قائل:{وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك}.
وقد بلغ الأمر ببعض المفسرين إلى القول إن هذا الأب الصالح كان جد الغلامين الأربعين، وبالغ بعضهم فقال إنه الجدّ الأربعون من جهة الأم وربما من الرضاعة، وذلك حتى يؤكدوا معنى قوة مفعول بركة الأجداد في الأبناء.
والصحيح أن للوراثة حظا في كثير من الخصال إلا أن الله تعالى قضى أن {كل نفس بما كسبت رهينة} ولم يقبل لخليله إبراهيم عليه السلام اطراد البركة في عقبه فقال{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال: إني جاعلك للناس إماما، قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين}
وقد أتى على ساكنة هذه البلاد حين من الدهر كانت فيه البركة قوة روحية تحمي فئات عريضة حتى كادت المكانة الروحية لبركات الأولياء والصالحين أن توازن القوة العسكرية للمجموعات ذات الشوكة.
وإذا كان الأصل في البركة أن تكون معنى دينيا يرتبط بالخير والمعاني الإيجابية فقد طور سلفنا الموريتاني في عصر السيبة مفهوما للبركة السلبية أو الضارة سموه "تزبوت" وهي انتقام الله لعباده الصالحين إذا مسهم الظلم.
ولا شك أن معنى "تزبوت" ثابت لأن الآية تقول{إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} و الحديث يقول "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب".
ولعل من أخطاء الكاتب الصحفي المرحوم حبيب ولد محفوظ ما كتبه ذات يوم من أن "تزبوت" كلمة من أصل فرنسي قادم من ثقافة المستعمر الذي كان يعاقب السكان وأنها تركيب مزجي من كلمتي" mis à pied"
وهو ربط خاطئ نتج عن ثقافة المرحوم الفرانكفونية، ولا أدل على بعد ذلك من أن المفهوم قديم والصيغة الصرفية للكلمة صنهاجية أصيلة مما ينفي عنها أية علاقة بالثقافة الأجنبية.
و يشكو كثير من كبار السن الموريتانيين اليوم في حديثه عن تقلب الزمان من انتزاع البركة؛ فرغم أن الوفرة في الملبس والمأكل والغذاء حلت محل الندرة إلا أن الجشع والشكوى في تزايد.
ويعتبر آخرون أن أبناء الصالحين لم تعد البركة تصاحبهم، بل إن الدعاء المستجاب أصبح من القليل النادر
ويعلل بعض الوعاظ والصالحين غياب البركة بكثرة الحرام ودخوله في مختلف جوانب الحياة، ويستدلون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل "يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟!"
ولولا رحمة الله بعباده ورأفته بضعفائهم لزالت البركة من الخليقة ففي الأثر المشهور أنه"لولا شيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع" لما نزل القطر من السماء.
والظاهر أن البركة مرتبطة بالاستقامة وهي لازم من لوازم الإيمان والعمل الصالح، وبانتقاصهما فإنها تتراجع.
ولكن الصحيح أيضا أن ساكنة هذه البلاد تعاهدوا هذا الدين وأدمنوا تلاوة كتاب الله طيلة أجيال من الزمن حتى ولو خلفت من بعدهم خلوف.
وفي عصرنا الحاضر سادت ثقافة علمانية تتجاهل الخواص المقدسة للأشياء، وتعتبرها تعاملا سحريا ينبغي استبداله بالنظرة المادية التي لا تهتم بروح الأشياء.
ورغم أن مفاهيم البركة و "تزبوت" ارتبطت بشيء من الخرافة في أذهان العامة إلا أننا في هذه البلاد ننظر إلى وفرة المصادر والخيرات الطبيعية ونستغرب من عدم التوفيق في توظيفها لصالح الإنسان.
لا شك إذن في أننا نعاني من انتزاع البركة وأن ذلك ليس نقمة إلهية وإنما هو بفعل أيدينا بعد أن رضينا بالكسل في الإنتاج والفكر والتديّن، وأصبحنا عالة نتكفّف فتات الأفكار والسلع وحتى الصرعات الدينية الشاذة.
وبانتظار أن نتحول من ثقافة أبناء الصالحين إلى أن نكون صالحين قولا وعملا سيظل عزاؤنا الوحيد هو أن الله تعالى " يستحيي أن ينتزع البركة من موضع وضعها فيه".