محمد محمود ولد سيد يحي/ خبير اجتماعي
تعاني مقاربة ترقية وتحرير المرأة في العالم
من أخطاء شنيعة نابعة من اعتمادها على سياسات وحلول نمطية جاهزة، ونحاول في هذه
الورقة أن نوضح الخصوصية الاجتماعية لمكانة المرأة الموريتانية الناطقة بالحسانية،
مقارنة بالمرأة العربية والإسلامية عموما، وذلك لكي نرتب عليها اقتراحا لأولويات
تشريعية ومؤسسية مناسبة..
يقول
عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو في كتابه الشهير "الهيمنة
الذكورية" إن مكانة المرأة في المجتمعات المتوسطية تحكمها عقلية هيمنة المذكر
على المؤنث، وهي هيمنة أصبحت لا شعورا جمعيا، ورأسمالا رمزيا راسخا في ثقافات المنطقة،
ومن خلال دراسته لنموذج المرأة القبائلية، يصل بورديو إلى أن الهيمنة الذكورية
ترسخت في "الهابتوس" “السجية” عبر اللغة والنظرة الشاملة إلى نظام الكون والأشياء، ومن هنا فإن
المؤنث هو الرخو والسلبي الضعيف، والمذكر هو الصلب الإيجابي الذي يرمز إلى القوة
(1)، وحتى بعد النهضة الغربية المعاصرة وتيارات النسوية وحقوق الإنسان، فإن هذه
العقلية ما زالت تحشر المرأة في الأعمال التابعة، وتقدم الصورة النمطية للمرأة السلعة
رمز الإعلان والاستهلاك، والمرأة السكرتيرة مثلا، بينما تظهر نادرا في صورة
المديرة والقائدة..
ومن
هنا فقد خلصت "مارغريت ميد" التي أرادت في دراستها عن "المراهقة في
ساموا" أن توضح أن المجتمع هو من يصنع الفوارق بين الجنسين، وخلصت بعد فترة الى
"أن النساء أقل شأنا من الرجال في أي مجتمع معروف، أما البحث عن ثقافة ذات
مساواة حقيقية بين الجنسين، ناهيك عن المجتمع الأمومي فقد برهن على أنه لا طائل من
ورائه (2)
وبينما يعتقد مؤسس علم الاجتماع الفرنسي المعاصر
أميل دوركيم في كتابه "تقسيم العمل الاجتماعي" أن أول تقسيم عمل ساد في
المجتمعات البدائية كان هو التمييز بين الرجال والنساء والكبار والصغار، فإن زعيم
التيار الراديكالي في علم الاجتماع " كارل ماركس" اعتبر أن أول تقسيم
عمل في تاريخ البشرية كان بين الذهني والعضلي، أو ما سماه علماء الإناسة التمييز
بين الثقافة والطبيعة، وكانت المرأة نظرا لارتباطها بالأدوار الموسعة للإنجاب من
عالم الطبيعة، بينما اعتبرالرجل هو صانع الثقافة بمفهومها الرمزي.
يسمي علماء الاجتماع البنية العائلية السائدة
في المنطقة العربية الإسلامية بالبنية الأبوية " البطريركية" (3)
وهو نمط عائلي يسود فيه الرجال على النساء
وتتمتع فيه المرأة بمكانة منخفضة داخل العائلة، مما يجعل دخولها للمجال العام
الاقتصادي والسياسي عرضة لعراقيل جمة.
فهل تنتمي العائلة الموريتانية للنمط الأبوي
الذي يعكس الهيمنة الذكورية الخالصة كما وصفها بورديو؟
تقدم ملاحظات ابن بطوطة في رحلته إلى ولاتة
في القرن الرابع عشر الميلادي تقييما مختلفا، حيث أطلق عبارته الشهيرة عن أهل
ايولاتن "أن نساءهم أعظم شأنا من الرجال" (4)، فالتقاليد الصنهاجية ذات
الرواسب الأمومية ظلت قوية رغم دخول الإسلام، ومكانة الخال وتوريث ابن الأخت سيظل
معروفا حتى القرن السادس عشر، كما تشهد عليه رسالة اللمتوني إلى السيوطي في فترة
متأخرة..
ويعتقد "ابيير بونت" في دراسته
الفريدة ل"روايات الأصول البيظانية"، حول إعادة تشكل المجتمع الموريتاني
بعد السيطرة الحسانية، أن روايات مشهورة جاءت لتفسر تحول المجتمع إلى النمط الأبوي(5)،
مع ازدياد ترسخ الإسلام العالم، بالتزامن انتشار المحظرة بعد انهيار حواضر السودان
الغربي..
ومع
ذلك ستعرف العائلة الموريتانية نمطا هجينا بين الأبوية والأمومية يسمح بارتفاع
مكانة المرأة بشكل نسبي مختلف عن النمط العربي الأبوي،
وسعيا
لتقريب التصنيف العلمي للعائلة الموريتانية، كنت قد اقترحت في كتاب "المجتمع
الفضفاض"، اختيار مصطلح "العائلة مركزية الأم" وهو نمط يؤكد على
أولوية العلاقة بين الأم والطفل والأخوة (الأخوال) بينما ينتظر من العلاقة الزوجية
أن تكون أقل تماسكا" (6)
إن ندرة تعدد الزوجات لدى الناطقين بالحسانية
مقارنة بالموريتانيين من أبناء الضفة تعود الى تلك الرواسب والتقاليد، والتي
يرسخها الشرط المشهور في عقود الزواج الموريتانية "لا سابقة ولا لاحقة، وإن
فعل شيئا من ذلك فأمرها بيدها"، وتشهد له طقوس الاحتفال بالطلاق، وكثرته، والعادات
الموريتانية التي تقبل الزواج بالمطلقة الذي يعتبر أمرا نادرا في المجتمعات
العربية الأخرى، حيث أكد إحصاء 2013 أن نسبة 20 بالمائة من المطلقات يتزوجن مرة
ثانية..
وقد بلغ من رفض بعض الأوساط في المجتمع
القديم للتعدد أن من يقوم به يتعرض للتعنيف، وهنا نتذكر أبيات الشاعر الكبير الشيخ
سيد محمد ولد الشيخ سيديا (من شعراء القرن التاسع عشر):
أمن فعل أمر في الشريعة جائز
يروم اهتضامي بينكم كل عاجز
وكان
بكم جند البغاة يهابني
فصال علي اليوم جند العجائز
فصرت كأني قد أتيت ببدعة
وفاحشة من نحو فعلة ماعز
إن مكانة المرأة الموريتانية المرتفعة في
المجال العائلي أمر لا تخطئه العين، ولعله من الأسباب المباشرة لقدرة المرأة
الموريتانية على اقتحام المجال العام السياسي والاقتصادي مبكرا دون كبير مقاومة،
على عكس نظيراتها من النساء في المنطقة العربية والإسلامية.
تقول المؤشرات الإحصائية التي أكدها التعداد
العام للسكان سنة 2000، و2013 إن نسبة تفوق 36 بالمائة من العائلات الموريتانية تعيلها
نساء (7)، وليس سبب ذلك هو الهجرة والترمل وحسب وربما كان لانتشار الطلاق دور كبير
في الأمر..
ولعل
قصة التساهل في الطلاق تقليد صنهاجي راسخ، فقد نقل المؤرخون عن شيخ المرابطين عبد
الله بن ياسين أنه كان يتزوج ويطلق بمعدل يكاد يكون شهريا(8)، حتى سمى بعض
المؤرخين دولة المرابطين "دولة الفقهاء والنساء"، وما قصة انتقال السلطة
بين أبي بكر بن عمر ويوسف بن تاشفين عبر السيدة زينب النفزاوية إلا دليل على حضور
المرأة القوي حتى في المجال السياسي منذ القدم.
ومع ذلك لا يمكننا إلا أن نقر بأن الارتفاع
النسبي لمكانة المرأة في العائلة الموريتانية خلق مشاكل اجتماعية ربما تبدو مضاعفة
عن نظيراتها في بعض الأحيان.
لقد كان الطلاق مقبولا والتكفل بالأطفال مسؤولية
الأخوال في العائلة الصنهاجية الكبيرة، وكان طلب النفقة من المطلق معرة في بعض
الأوساط، ولكن الانتقال الى العائلة النووية الصغيرة وتعقد المتطلبات المادية، فرض
تغيرات اجتماعية عميقة..
فأكثر من نصف المشاكل المعروضة على مصالح
النزاعات الأسرية اليوم هي مشاكل نفقة الأطفال، وبدلا من مقولة أن شتم الزوجة أو آبائها
طلاق في القديم، أصبح الضرب والعنف الزوجي ملاحظا في الإحصائيات الرسمية بنسبة 16
بالمائة من الشكايات المطروحة،
أما زواج السر الذي أصبح حديث كل بيت في
المدن الكبرى فإنه يؤشر على تراجع كبرياء المرأة الصنهاجية تحت ضغط احتياجات
المجتمع الاستهلاكي، كما لاحظ ذلك مرة عالم الاجتماع الكبير عبد الودود ولد
الشيخ..
لقد
شاركت المرأة الموريتانية في الحياة العامة مبكرا، وكانت سباقة مقارنة بنظيراتها
في المجال العربي والإسلامي إلى تبوئ مكانة مرتفعة نسبيا، فقد ترشحت لنيل الرئاسة، وشاركت بنسبة
معتبرة في البرلمان والمجالس البلدية والجهوية، وتقلدت وظائف سياسية ودبلوماسية
رفيعة، وذلك بفعل سياسات التمييز الإيجابي التي تنتهجها الدولة، رغم أنها ظلت
دائما في حدود الربع والثلث، وهي نسبتها في الوظيفة العمومية، إلا أن تمثيلها في
وظائف الدولة ظل هامشيا، حيث يوجد ما يزيد على 80 بالمائة من النساء الموظفات في
فئات "ج" و"د" من الوظيفة العمومية وهي الفئات الدنيا (9)،
ورغم مشاركة المرأة الموريتانية في التجارة والخدمات، فإنها ظلت على مستوى
المقاولات الصغيرة والتعاونيات النسوية في الغالب، ولم تصل إلى الاستثمار بمستوى
الرساميل الكبيرة...
يمكننا من خلال تلك العجالة أن نقول إن لدى
المرأة الموريتانية تراثا من الحضور في العائلة والمجتمع، وهو ما فرض عليها مشاكل
اجتماعية من نوع مختلف، فما هو الإطار القانوني المناسب لمواجهة المشاكل الخاصة
بالمرأة الموريتانية؟
لا شك
في أن أي معالجة قانونية لقضايا المرأة والمجتمع الموريتاني خارج الشريعة
الإسلامية التي نص الدستور الموريتاني في ديباجته على أنها المرجع الوحيد للقوانين
الموريتانية، سيكون من باب تركيب الأعضاء الأجنبية التي سيرفضها جسم المجتمع
والثقافة، أو سيظل كماليات ترف لا تلامس الواقع.
ولا يعني ذلك أن مجمل الترسانة الأممية في
مجال حقوق الانسان والمرأة غريبة على الإسلام، فكما يقول العلامة الشيخ عبد الله
بن بيه، إن مقاصد الشريعة الكبرى هي مما أجمع عليه عقلاء البشر، والإسلام يقبل كل
ما يحفظ كرامة الإنسان بغض النظر عن دينه ولونه .. وتراثنا الفقهي زاخر بالحلول
الإبداعية للمشاكل التي تواجه الأمة...
ولنا في التاريخ القريب للبلاد مثال ناصع
عندما وقف العلامة المرحوم محمد سالم ولد عدود مع إصدار مدونة الأحوال الشخصية،
وتم اعتماد أقوال فقهية تحد من سلطان ولي المرأة البالغة في إجبارها على الزواج
بمن شاء، إضافة لنصوص أخرى تشجع توثيق الزواج والطلاق، فقد رأى هذا النص الهام
النور بعد أن ظل يتردد في الدهاليز طيلة ثلاثة عقود..
ويحاول
البعض اليوم استكمال بعض النواقص في مدونة الأحوال الشخصية سعيا لتعزيز حقوق
المطلقات، وقد ساهمت مدونة الطفل وقانون الصحة الإنجابية في تحقيق تقدم هام في
محاربة الممارسات الضارة بالمرأة والبنت، ومازال النقص ملاحظا في مجال مكافحة
العنف ضد المرأة والفتاة، وتحديد عقوبات واضحة لمواجهة ظواهر الاغتصاب والعنف
الزوجي التي تنامت في السنوات الأخيرة، حيث سجلت أكثر من 1000 حالة اغتصاب او تحرش
جنسي لدى المصالح الطبية في نواكشوط خلال سنة واحدة عام 2021.
وإذا كانت بلادنا قد صادقت على الاتفاقيات
الدولية في مجال إلغاء التمييز ضد المرأة، وحقوق الطفل، فإنها كانت حريصة على
التحفظ على كل ما من شأنه مخالفة الشريعة الإسلامية.
إن مشكلة المنظومة القانونية الدولية
الملاحظة هي محاولتها القفز على الخصوصيات الدينية والحضارية للبلدان..
ويأتي التناقض الأكبر في الاتفاقيات الدولية
بين إقرارها بأهمية حماية الأسرة وخصوصا في مجال حقوق الطفل لأنه لا توجد مؤسسة
بديلة لنمو سليم للطفل خارج الأسرة من جهة، وبين السعي لتحرير المرأة وترقيتها
الاقتصادية والاجتماعية.
إن
أولوية استقرار الأسرة وحمايتها جعلت مفهوم قوامة الرجل في البيت مفهوما تنظيميا
ضروريا في المدونة الفقهية الإسلامية، بينما تسعى المدونة الغربية لفرض مقاربة
للمساواة بين الجنسين تجعل التنافس بين الرجل والمرأة بديلا للتكامل بينهما.
لقد تحولت بلادنا منذ بعض الوقت من مفهوم
"شؤون المرأة" إلى مفهوم "العمل الاجتماعي والطفولة الاسرة"
وهذا انحياز واضح للمرجعية الحضارية للمجتمع
وصفته الإسلامية، ولكن ينبغي أن نؤكد في الختام أن شريعة الإسلام واسعة، ومذهبنا
المالكي من أكثر المذاهب الفقهية مرونة ومراعاة للعرف والمصالح المرسلة، وإن أي
مدونات قانونية تبغي النجاعة والفاعلية ومخاطبة الناس بلغتهم ينبغي أن تراعي
ثراثنا الفقهي وخصوصياتنا الاجتماعية والثقافية.
_____________
هوامش:
1-بورديو (بيار): الهيمنة الذكورية، ترجمة
سليمان قعفراني، المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص 29
2ـ
روزالدو(ميشيل)، لامفير(لولويز): المرأة والثقافة والمجتمع، ترجمة هيفاء هاشم،
منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1976
بحث شيري اوتنر، هل الانثى بالنسبة للذكر
كالطبيعة بالنسبة للثقافة، ص113
3-حطب (زهير): تطور بنى الأسرة العربية، معهد
الانماء العربي، لبنان، ط1، 1976 ، ص159
4-ابن
بطوطة، رحلة ابن بطوطة المسماة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الاسفار ط
1966، ص442-443
5- بونت (ابيير):
روايات أصول المجتمعات البيظانية ـ ترجمة محمد بواعليبة ـ دار جسور للنشرـ 2015،
ص525
6-محمد محمود ولد سيد يحي، المجتمع الفضفاض
(ملاحظات سوسيو نقدية حول المرأة والسلطة والثقافة في المجتمع الموريتاني المعاصر)
، مؤسسة الثقة للمعلوماتية، 2002، ص54
7-المكتب الوطني للسكان، الإحصاء العام
للسكان والمساكن 2013، خصائص الأسر وأرباب الأسر، 2015
8-أبو عبيد البكري، المسالك والممالك، ، دار
الكتب العلمية بلبنان، ج 2 ص 864
9-المكتب الوطني للسكان، الإحصاء العام
للسكان والمساكن 2013، الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للمرأة، 2015