محمد محمود ولد سيدي يحي
كتبت إليّ -هداك الله- تسألني عن أمر الوزارة وما يجب توفره في المرء من الشروط حتى يكون أهلا للتوق إليها والطمع في تسنّم ذروتها، وما يحتاجه في نفسه وأهله من الأمارات حتى ينال رضى ولي الأمر و يكون مثل الحسن بن سهل مع المأمون ولسان الدين بن الخطيب في بلاط بني الأحمر.
وقلت جعلنا الله وإياك من أهل الحظوة في الدارين أن مما يزهدك في هذا المنصب العظيم الذي يتسابق إليه الناس في هذا الزمان ما لحقه من غبار الديموقراطية التي رمت به حتى صار مطمعا لمن هب ودب، ودخل في عداد أحلام العامة من السوقة والدهماء التي ظل إلى عهد قريب مما لا تطمح إليه.
وذكرت في كلامك ما درج عليه أسلاف هذه الأمة منذ ابن المقفع ومرورا بفقهاء الآداب السلطانية وانتهاء بالعلامة عبد الرحمن بن خلدون الذي جعل هذا المضمار علما أفرده في مقدمته العجيبة، وعرجت في ذلك على كتاب "الإشارة في تدبير الإمارة" للإمام الحضرمي المرادي دفين عاصمة المرابطين، وقلت: إنما أريدها إشارة في تدبير الوزارة لأن الدساتير العصرية فصلت أمر الإمامة العظمى تفصيلا لأنها مما يكثر الخلاف حوله في أمور السياسة، ولكنها لم تجعل للوزراء من العناية ما يساوي مشقة مهامهم؛ فكأنهم "لحم الرقبة مأكول ومذموم".
وسقت في حججك التي بثثتها في كتابك ما لا يعدّ ولا يحصى مما يتعرّض له أعضاء الحكومات من أصناف المتاعب ممن فوقهم ومن تحتهم، وخصوصا ما ابتلاهم الله به من أمر هذه الهيئات التشريعية التي يسمونها البرلمان، وكيف يحتاجون إلى ما يقطعون به عنهم ألسنة الخلق من متفيهقي الصحافة الذين لا تقوى أقلامهم إلا من لحوم المسئولين وأكل غيبتهم...إلى غير ذلك مما أطلت فيه وفصّلت.
ولقد قلت في نفسي بعد تصفّح كتابك إنك ربما أخطأت في العنوان أو أرسلت رسالتك إلى فلان وعلان من أهل هذا الشان.. وعزمت على تجاهل مطلبك، ولكنك عدت إلى المراسلة وأمعنت في المجادلة.
فما كان مني إلا أن بتّ على الاستخارة لعل الله يلهمني أمر رشد يعزّ فيه أهل الطاعة ويذلّ فيه أهل المعصية، ويكون من باب كرامات الصالحين ممن وهبهم الله علوما من غير دراسة ولا تجربة كما وقع لكثير من أولياء الله بهذه الصحراء المباركة، وقد علمت المثل القائل"خذوا الحكمة من أفواه المجانين، واطلبوا العلم ولو في الصين"
فقلت وعلى الله المتّكل:
اعلم هيأك الله للتعيين وجعلك به من الفائزين أن علماء اللغة العربية اختلفوا في أصل الوزارة هل هي من الأزر أم من الوزر.
وقال أهل التحقيق إنها تبدأ شدّا لأزر وليّ الأمر، ولكنها كثيرا ما تنقلب وزرا على صاحبها إذا لم يحسن صحبة السلطان ويتأدب الآداب المطلوبة في قضاء حوائج العامة، واسترضاء المنتخبين من فرق البرلمان، وغيرهم من متربّصي الصحافة.
وقد قال بعض من ينتسبون إلى العلم أن الوزارة الشرعية محصورة في القرابات واستدلّوا لذلك بقوله تعالى على لسان كليم الله موسى عليه السلام {واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي}، ونسي هؤلاء أن ذلك من خصوصيات الوزارة في أمور الدين وتبليغ الوحي. أما في شؤون السياسة فإن الوزارة تكليف لا تشريف يهبه ولي الأمر لمن شاء من رعيته شريطة الولاء التام والطاعة في المنشط والمكره.
ولا عبرة بما يدعو إليه الغربيون من حكومات التأليف والائتلاف التي تتكون من أعضاء لا يجمعهم مشرب واحد ولا يأتمرون بأمر وليّ الأمر وحده؛ فتراهم يعودون لأحزابهم ويستشيرونهم في كل صغيرة وكبيرة لأنه مناف لما نصّ عليه صاحب المقدمة من انفراد السلطان بالمجد، ولأن فيه من الوثنية السياسية ما لا يوافق عقائد الموحدين.
وقد نمى إلى علمك ما نصّ عليه دستور هذه البلاد الذي جمع الأمر كله بيد وليّ الأمر ولم يعط الوزراء إلا بمقدار ما ينفذون التوجيهات السامية ورسائل التكليف، فلا يغرنك ما يقال مما يقصد به تأليف زعماء الأحزاب وغيرهم لأن رضى الناس غاية لا تدرك و{لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم} وخليق بهؤلاء أن يكون الحكم جواز مداراتهم بما ليس في حقيقة الأمر لأنهم كالفرس والمرأة وغيرها من لوازم البيت التي أجاز الفقهاء الكذب عليها استرضاء وتأليفا.
ونحمد الله على أن أمر المذهبية الحزبية لم يخالط شغاف قلوب ساكنة هذه الصحراء فيسهل أن يعين الوزير عن حزب فينتقل عنه إلى غيره، أو يكون من مؤمني آل فرعون يكتم إيمانه ولا يلبث أن يعلن ذلك، وفي ذلك قال الشاعر مضمنا بيت سلفه:
نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحبّ إلا للوزير الأول
ولا يجهل مثلك ما جرى على ألسنة الناس في بلادنا من أن "الحكومة لا تكسو أحدا ثوبا إلا خلعته عنه" وهم يعبرون عن ذلك بالسروال وهو محل ستر عورة الرجل، فكأنهم بذلك ينصحون القادم باتخاذ ملابس داخلية يستعد بها لما هو لابدّ نازل به من زوال النعمة حتى لا تنكشف عوراته للناس.
وقد جرى عرف الموريتانيين أن ما يستر عورة المسئولين عند أنصارهم هو مقدار ما جروه من نفع مباشر عليهم من أعطيات عينية أو إقطاعات عقارية أو وساطات نافذة، أما ما يتشدق به الغربيون من أمر الشفافية فإنه نقيض ستر العورة في الأحكام السلطانية الموريتانية، وعلى من يعتمد عليه أن يحفر قبره السياسي بيده اللهم إلا إذا بدّلت الأرض غير الأرض وتغيرت العقليات في لمح البصر وما ذلك على الله بعزيز.
أما بقية هذا العلم فإنه نفيس وهو من المضنون به على غير أهله لأن فيه من أسرار الحروف والعجائب ما لا يجوز إفشاؤه على الملأ والله المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق