محمد محمود ولد سيدي يحي
سمعت مرة سيدتين من أوساطنا الشعبية تتحدثان عن معاناة إحداهن من انحراف ابنها وسلوكه سبيل السرقة و"التلصص"، وقد انتهى الحديث بنصيحة للأم المنزعجة بالتوجه إلى أحد الحجابين ليقوم بما يسمى" تقييد اليد"،
وعندما سألت عن تقييد اليد قالوا هو "حجاب" يكف يد السارق فيصبح مستقيما.
ويروي العامة قصصا يومية حول "التظهار" ودور "الحجابين" المهرة في وضع مغناطيس سري يجذب السارق إلى حيث يسلم طواعية ما قام بأخذه عنوة واختلاسا، والمؤمنون بها عن ظهر غيب خلق كثير.
وينجح بعض أذكياء الحجابين في إرهاب السارق حين يهدده بأنه سيتعرض للانتفاخ في بطنه أو يده إذا هو لم يسارع إلى الاعتراف.
أما أن تصادف شخصا كان مجنونا وتم علاجه على أيدي "الحجابين" وشفي باقتناع من أهله فذلك أمر شائع في هذه البلاد، فمكانة الحجابين أهل السر"المخدّمين" ما زالت محفوظة في قلوب فئات كثيرة من الموريتانيين.
وقد لعب كثير من أصحاب هذه المهن على الالتباس القائم في أذهان العامة بين البركة والكرامات والخوارق التي يجوز أن يختص الله بها من يشاء من عباده الصالحين، وبين أسرار الحروف والجداول المسماة عندهم بالحكمة "الكحلة".
وقد شكل ميراث مجتمع السيبة الموريتاني القديم خلفية مؤسسة كانت فيها الفئات الممتهنة للعلم بحاجة إلى سلاح تواجه به ذوي الشوكة من المجموعات المحاربة، وهو ما عرف عند القوم بثقافة "تزبوت" التي قامت في الأصل على فكرة الانتقام الإلهي من الظلمة.
وبغض النظر عن ذلك الجدل الفقهي القديم حول جواز استخدام السحر لمعالجة المسحورين فيما يسمونه"النشرة" فإن علماء البلاد متفقون على التمييز بين الرقية الشرعية التي هي دعاء وضراعة إلى الله تعالى وبين تلك الأعمال التي تنتمي إلى إحدى الموبقات التي تواترت النصوص على تحريم تعاطيها وحتى تصديقها كما في الحديث "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" أو كما قال.
والثابت تاريخيا عبر تجارب الديانات السماوية هو العداوة بين السحرة والكهان وبين المؤمنين لأن هؤلاء يقيمون علاقات غامضة بين العقائد الوثنية وبين الشعائر الدينية الصحيحة، بينما تقوم المناسك الدينية الصحيحة على التوحيد والممارسات التعبدية الواضحة كما بينتها النصوص.
ولا يستطيع المرء أن يجزم بنسبة الممارسات التي يتبعها الحجابون عندنا إلى أي من الأصناف نظرا لذلك الخلط المتعمد الذي يجعل الحدود هلامية بين الرقية والبركة والممارسات التي تشبه السحر، ويبقى الفارق الوحيد هو سمت الممارسين واستقامتهم على اتباع السنة والشريعة.
ويدلّ الإقبال الشديد الذي تشهده أبواب الحجابين على ظاهرة تستعصي على الفهم في ظل انتشار التعليم في صفوف فئات عريضة من المجتمع، وتزايد منابر الدعوة والتثقيف الديني في البلاد.
ولا يقتصر التزاحم عند أبواب "الحجابين" على النساء والأميين بل تروج شائعات في المدينة حول علاقات قوية تربط سوق الدجل بشخصيات من علية القوم وكبار الموظفين، وهو ما يستغله "الحجابون" أحيانا للدعاية وترويج بضاعتهم بين الناس.
صحيح أن تزايد المقبلين على خدمات مستشفى الأمراض النفسية والعصبية دليل على يأس الناس من ألاعيب " الحجابين" ودجل بعضهم، ولكن كثيرا من العائدين إلى "الأسباب الظاهرة " يقضون وقتا طويلا في اتباع الوعود الكاذبة قبل أن يقرروا الخروج من النفق المظلم. ولعل في ذلك دليلا واضحا على أن الاختصاصيين في العلوم النفسية والاجتماعية ما زالوا دون تلك المكانة التي تربع عليها " الحجابون" في عقول الموريتانيين منذ عقود.
وتشير دراسات اجتماعية غربية إلى أن المجتمعات المتقدّمة تشهد بدورها نكوصا باتجاه العودة إلى المعتقدات الخرافية والسحرية، ويعيدون ذلك إلى ما يسمونه الاغتراب أو حيرة الأفراد في ظل تفكك القيم العائلية والظمأ العاطفي الشديد.
وفي مجتمعنا الذي مازال ينعم بدفء العائلة والحميمية القرابية تبدو ظاهرة اللجوء إلى الحجابين وممتهني الدجل
تعبيرا عن مشكلة مختلفة ربما كان القلق على المصير وغموض المستقبل من عواملها الرئيسية.
ويسود اعتقاد لدى البعض بأن ممتهني "لحجاب" أصبحوا سلعة غالية في المنطقة العربية، ومن هنا فإن التغاضي عنهم في مصلحة البلاد ماداموا يدرون مبالغ محترمة من العملات الصعبة.
وانطلاقا من هذه النظرة المالية البحتة إلى عالم الأسرار والطلاسم من حقنا أن نطالب على الأقل بإنشاء نظام للسجل التجاري الخاص بهؤلاء يمكن البلاد من جني ضرائب تعود على خزينة الدولة بالفائدة، وتستعيد بعضا مما أنفقه آلاف المخدوعين على {ما يضرهم ولا ينفعهم}.
ويمكن استغلال الطاقات المزعومة لممتهني "لحجاب" بتوظيفهم في أجهزة الأمن حتى تنكشف قدراتهم الحقيقية في كشف المجرمين وتتبع مخابئهم.
أما الذين يدعون علاج العنوسة والعقم فإن مصالح الشؤون الأسرية ومصحات الأمراض التناسلية قادرة على امتحانهم وكشف الدجالين من أصحاب البركات والكرامات من بينهم.
والتوجه الصحيح الذي ينبغي على السلطات العمومية في الجمهورية الإسلامية الموريتانية أن تقوم به في مواجهة انتشار ظاهرة الدجل وتسويق الخرافات هو تقوية المنابر الدينية التي تنشر العقيدة الصحيحة التي توجه الناس للاعتقاد في الله وحده، ونشر ثقافة العلم والمعرفة التي تقدم الأسباب الظاهرة والمعروفة على كل ما هو غامض وغريب.