Translate

الاثنين، 27 يونيو 2011

سجل تجاري للحجابين


محمد محمود ولد سيدي يحي

سمعت مرة سيدتين من أوساطنا الشعبية تتحدثان عن معاناة إحداهن من انحراف ابنها وسلوكه سبيل السرقة و"التلصص"، وقد انتهى الحديث بنصيحة للأم المنزعجة بالتوجه إلى أحد الحجابين ليقوم بما يسمى" تقييد اليد"،
وعندما سألت عن تقييد اليد قالوا هو "حجاب" يكف يد السارق فيصبح مستقيما.
ويروي العامة قصصا يومية حول "التظهار" ودور "الحجابين" المهرة في وضع مغناطيس سري يجذب السارق إلى حيث يسلم طواعية ما قام  بأخذه عنوة واختلاسا، والمؤمنون بها عن ظهر غيب خلق كثير.
وينجح بعض أذكياء الحجابين في إرهاب السارق حين يهدده بأنه سيتعرض للانتفاخ في بطنه أو يده إذا هو لم يسارع إلى الاعتراف.
أما أن تصادف شخصا كان مجنونا وتم علاجه على أيدي "الحجابين" وشفي باقتناع من أهله فذلك أمر شائع في هذه البلاد، فمكانة الحجابين أهل السر"المخدّمين" ما زالت محفوظة في قلوب فئات كثيرة من الموريتانيين.
وقد لعب كثير من أصحاب هذه المهن على الالتباس القائم في أذهان العامة بين البركة والكرامات والخوارق التي يجوز أن يختص الله بها من يشاء من عباده الصالحين، وبين أسرار الحروف والجداول المسماة عندهم بالحكمة "الكحلة".
وقد شكل ميراث مجتمع السيبة الموريتاني القديم  خلفية مؤسسة كانت فيها الفئات الممتهنة للعلم بحاجة  إلى سلاح  تواجه به ذوي الشوكة من المجموعات المحاربة، وهو ما عرف عند القوم بثقافة "تزبوت" التي قامت في الأصل على فكرة الانتقام الإلهي من الظلمة.
وبغض النظر عن ذلك الجدل الفقهي القديم حول جواز استخدام السحر لمعالجة المسحورين فيما يسمونه"النشرة" فإن علماء البلاد متفقون على التمييز بين الرقية الشرعية التي هي دعاء وضراعة إلى الله تعالى وبين تلك الأعمال التي تنتمي إلى إحدى الموبقات التي تواترت النصوص على تحريم تعاطيها وحتى تصديقها كما في الحديث "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" أو كما قال.
والثابت تاريخيا عبر تجارب الديانات السماوية هو العداوة بين السحرة والكهان وبين المؤمنين لأن هؤلاء يقيمون علاقات غامضة بين العقائد الوثنية وبين الشعائر الدينية الصحيحة، بينما تقوم المناسك الدينية الصحيحة على التوحيد والممارسات التعبدية الواضحة كما بينتها النصوص.
ولا يستطيع المرء أن يجزم بنسبة الممارسات التي يتبعها الحجابون عندنا إلى أي من الأصناف نظرا لذلك الخلط المتعمد الذي يجعل الحدود هلامية بين الرقية والبركة والممارسات التي تشبه السحر، ويبقى الفارق الوحيد هو سمت الممارسين واستقامتهم على اتباع السنة والشريعة.
ويدلّ الإقبال الشديد الذي تشهده أبواب الحجابين على ظاهرة تستعصي على الفهم في ظل انتشار التعليم في صفوف فئات عريضة من المجتمع، وتزايد منابر الدعوة والتثقيف الديني في البلاد.
ولا يقتصر التزاحم عند أبواب "الحجابين" على النساء والأميين بل تروج شائعات في المدينة حول علاقات قوية تربط سوق الدجل بشخصيات من علية القوم وكبار الموظفين، وهو ما يستغله "الحجابون" أحيانا للدعاية وترويج بضاعتهم بين الناس.
صحيح أن تزايد المقبلين على خدمات مستشفى الأمراض النفسية والعصبية دليل على يأس الناس من ألاعيب " الحجابين" ودجل بعضهم، ولكن كثيرا من العائدين إلى "الأسباب الظاهرة " يقضون وقتا طويلا في اتباع الوعود الكاذبة قبل أن يقرروا الخروج من النفق المظلم. ولعل في ذلك دليلا واضحا على أن الاختصاصيين في العلوم النفسية والاجتماعية ما زالوا دون تلك المكانة التي تربع عليها " الحجابون" في عقول الموريتانيين منذ عقود.
وتشير دراسات اجتماعية غربية إلى أن المجتمعات المتقدّمة تشهد بدورها نكوصا باتجاه العودة إلى المعتقدات الخرافية والسحرية، ويعيدون ذلك إلى ما يسمونه الاغتراب أو حيرة الأفراد في ظل تفكك القيم العائلية والظمأ العاطفي الشديد.
وفي مجتمعنا الذي مازال ينعم بدفء العائلة والحميمية القرابية تبدو ظاهرة اللجوء إلى الحجابين وممتهني الدجل
تعبيرا عن مشكلة مختلفة ربما كان القلق على المصير وغموض المستقبل من عواملها الرئيسية.
ويسود اعتقاد لدى البعض بأن ممتهني "لحجاب" أصبحوا سلعة غالية في المنطقة العربية، ومن هنا فإن التغاضي عنهم في مصلحة البلاد ماداموا يدرون مبالغ محترمة من العملات الصعبة.
وانطلاقا من هذه النظرة المالية البحتة إلى عالم الأسرار والطلاسم من حقنا أن نطالب على الأقل بإنشاء نظام للسجل التجاري الخاص بهؤلاء يمكن البلاد من جني ضرائب تعود على خزينة الدولة بالفائدة، وتستعيد بعضا مما أنفقه آلاف المخدوعين على {ما يضرهم ولا ينفعهم}.
ويمكن استغلال الطاقات المزعومة لممتهني "لحجاب" بتوظيفهم في أجهزة الأمن حتى تنكشف قدراتهم الحقيقية في كشف المجرمين وتتبع مخابئهم.
 أما الذين يدعون علاج العنوسة والعقم فإن مصالح الشؤون الأسرية ومصحات الأمراض التناسلية قادرة على امتحانهم وكشف الدجالين من أصحاب البركات والكرامات من بينهم.
والتوجه الصحيح الذي ينبغي على السلطات العمومية في الجمهورية الإسلامية الموريتانية أن تقوم به في مواجهة انتشار ظاهرة الدجل وتسويق الخرافات هو تقوية المنابر الدينية التي تنشر العقيدة الصحيحة التي توجه الناس للاعتقاد في الله وحده، ونشر ثقافة العلم والمعرفة التي تقدم الأسباب الظاهرة والمعروفة على كل ما هو غامض وغريب.

الاثنين، 6 يونيو 2011

قيامة "الهول" البيظاني

محمد محمود ولد سيدي يحي
www.el-bahith.blogspot.com
يرفض عام 2011 أن يمرّ دون أن يحمل كل علامات القيامة الصغرى، فعلاوة على زلزال اليابان والزلزال السياسي العربي، والانهيارات الاقتصادية المتتالية في العالم المتقدم، كان حظ أمة البيظان هو أن تخسر رمزا من رموزها يجتمع حوله كل الناطقين بالحسانية من النيجر إلى موريتانيا ومن "كنار السنغال" إلى اكليميم في المغرب، إنها كوكب الطرب البيظاني المرحومة "ديم بنت آب"
يقول بعض أهل العلم "إن قيامة ابن آدم يوم موته"، ولاشك أن رحيل الفنانة ديم بنت آب عن عالم الغناء " البيظاني" كسوف كبير وقيامة صغرى كما تنبأ بذلك الأديب المرحوم باب ولد هدار عندما قال في مدحها قبل أكثر من عقدين:
مولات الهول إلى انكال
الهول الحك أو قيمي
يالقيام في الهول يال- 
-قيام قيم ديم
جمعت ديم ما لم يجمعه فنان موريتاني؛ جمال الصوت الفريد وقدرة هائلة على اللعب على أوتار القلوب عبر آردينها المعجز، واستطاعت أن تحتل واسطة العقد في سماء الطرب بعد أن حملت معها أحسن ما في مدارس الحوض وتكانت والكبلة.
كنت أقول دائما إن في نغمة ديم نبرة متصوفة لا يفقهها إلا من تصوّف في الهول الموريتاني، وقديما كان المتصوّفة أهل سماع، لأن الموسيقى في روحها أشواق مبهمة نحو الغيب، وقد نشأت على الأرجح في جو الترانيم الدينية في "زبر الأولين".
وكان من عجيب ذوقها المرهف اختيارها مدرسة المرحومة "فاطم بنت عوّه" في آردين، وحرصها على تسجيل أشرطة خاصة مع أكثر من تطرب له ديم "أمّ اختي بنت النانه"، ولقد سجّلت ديم رحمها الله شريطا فريدا لا يعرفه إلا متصوّفة الهول بعنوان "لحمار" أي التقليد، تحاكي فيه المرحومة "فاطم بينت عوّه" وأتت فيه بما لا يفهمه إلا من أوتي مزمارا من مزامير آل داوود.
المرحومة "ديم" كانت "مهلهل" الطرب الموريتاني الأصيل، الذي خرج به من المحلية إلى  المهرجانات الدولية، وحولته من مجرد التغني بأمجاد الأمراء والقبائل إلى "ريشة للفن" تسمو إلى مصاف الموسيقى العالمية، تعانق هموم المضطهدين في جنوب إفريقيا وفلسطين " ياربّ لابّارتيد تطيه اطياح امتين"، وتؤسس روح الوطنية "نختر عن كل أوطان، وطني موريتان".
رحلت ديم في قمة مجدها وعطائها، كأنما اختارت أن تعتزل في الوقت الذي يعتزل فيه كبار النجوم قبل أن تردهم دورة الحياة إلى أرذل العمر الفني، ولكن ميزة الفن هي أنه لا يهرم ولا يموت حتى أن كارل ماركس تعجّب وهو صاحب المادية التاريخية كيف نستمتع إلى اليوم بإبداعات الإغريق والفراعنة، ومن هنا فإن كوكب الفن البيظاني سيظل ساطعا في عليائه، لا يستطيع أن يطويه لحد أو جدث، وستشهد روائع "الحزام الأخضر" و"عيد المولود" و" الدعاية" و"البلاغات" وغيرها على كلمة التوحيد التي كررتها ديم بحنجرتها الذهبية، لتدخل مع الموحدين في جنة عرضها السموات والأرض، وستقف ديم في عرصات الجنة تطرب السامعين كما أطربتهم في الدنيا "حسن ظنّ بالله تعالى"، ولسان حالنا وحالها يقول كما قال عمر الخيام:
إن كنت قد قصّرت في طاعتك
 فإنني أطمع في رحمتك
 وإنما يشفع لي أنني
 قد بتّ لا أشرك في وحدتك
قال تعالى{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، اللهم اغفر لديم بنت آبّ وارحمها وتب علينا وعليها إنك أنت التواب الرحيم.


الأربعاء، 1 يونيو 2011

أكاديمية النجوم الموريتانية

محمد محمود ولد سيدي يحي
خطر لي ونحن على أبواب انفتاح إعلامي في مجال السمعيات البصرية، أن يكون أول تحدّ يواجهنا هو استعادة جمهور الشباب من أبنائنا وبناتنا الذين فتنتهم القنوات الفضائية الفنية عبر العالم.
 وجرني التفكير إلى رفض تلك المحاولات التي جربتها إذاعة الشباب والقناة الثانية للتلفزيون الموريتاني بتقديم نسخ مكررة من الأغاني والفيديو كليبات التي درجت تلك القنوات العربية والعالمية على تقديمها.
فالتقليد كثيرا ما يكون مشوّها ومتأخرا إضافة إلى ما يعنيه من استسلام لنموذج قيمي وأخلاقي غريب على مجتمعنا، وكان الأجدر بالإعلام الوطني أن يحاول إبداع نماذج موريتانية لا تسقط في وحل الفجور والخلاعة التي تسوقها تلك المحطات إلى أجيال غضة لم تتأسس شخصياتها بعد.
ماذا لو فكّرنا في إنشاء قناة فضائية تقدم لشبابنا نموذج النجومية والنجاح على الطريقة الموريتانية؟
ولا بأس هنا أن نخرج من تقليد غربي تلقفه إخواننا من عرب المشرق يحصر النجومية في الفنّ  كالغناء والتمثيل وعرض الأزياء الذي تحفل به قنوات" استار أكاديمي المعروفة".
ويمكن أن تقسم السنة إلى ثلاثة فصول يخصص الأول منها للنجومية الاقتصادية والنجاح في ميدان الشطارة و"التبتيب" ويخصص الثاني للنجومية السياسية ويكون آخرها متناسبا مع موسم الخريف ومخصصا للنجومية في مجال الفن والغناء والكوميديا.
ولا نقصد هنا ببرنامج النجومية الاقتصادية والتجارية النجاح في خلق مؤسسات منتجة أو حتى فن الترويج والإعلان لتقريب السلعة من المستهلكين، وذلك لأن شرط النجاح التجاري في هذه البلاد هو الاحتكار والمضاربات وقوة الجاه وصحبة ذوي السلطان وهذه أمور من المضنون بها على غير أهلها.
ومن هنا كان حريّا ببرنامج النجومية أن يقتصر على الشطارة وفن"التبتيب" وهو بوابة الاغتناء السريع عن طريق السمسرة، كما يشهد لذلك صعود فئات كثيرة من الشبان من خلال تسويق السيارات وما يسمى بال"بورصات"، ومضاربات القطع الأرضية، وبيع العملات في السوق السوداء، وحتى تيسير تأشيرات الدول الغربية وتزوير الوثائق الوطنية بمختلف أنواعها.
ويفضل للمترشحين لهذه المسابقة أن يكونوا من الفتيان ذوي القامات الفارعة والذين يحرصون على حسن الهندام ولا بد أن يتعرّضوا لامتحانات في التظاهر بما ليس عندهم، وإيهام أهل الطبقات الميسورة من المجتمع بالانتساب إليهم.
 ويتأهل للنجومية من ينجح في إقامة علاقات سريعة مع الموظفين العموميين بالقطاعات التي تعنيه من عمال البنوك والجمارك والولاة والحكام، ولا يحصل على الدرجة الكبرى والعلامة المميزة إلا من أوتي ملكوت الكذب والخيال الواسع وإشاعة الرشوة وجر الصالحين من العمال والمستخدمين العموميين إليها.
أما مسابقة النجومية السياسية على الطريقة الموريتانية فإنها خفيفة المئونة من حيث الهندام والشكل، فالأصل أن النجاح السياسي في هذه البلاد ممالا علاقة له بالبسطة في الجسم والعلم، وليس على من يتأهل للنجومية أن يكون خطيبا مفوها، لأن الطلاقة  والفصاحة من مهمة الأتباع والحاشية، والنجومية والقبول لا تتبع المهارات الفردية والبراعة السياسية، ولكنها تابعة لوهم النجاح نظرا لاعتقاد العامة في المقولة الشهيرة "لا تعاد منصورا".
وقد درج الناس عندنا على أن بيعة أهل الحل والعقد وأصحاب الشوكة كافية ليعلم العامة أن الشخص المتقدم في مضمار السياسة مظنّة النجاح، ولهذا فلا حاجة له بتحسين سيرته الذاتية، ولا  تنفعه سابقة البلاء والنضال في قضايا العامة، ولا يحسم الأمر كونه من عائلة معروفة بالفضل والبركة أو بالهيبة والمروءات، ولا تصدق عليه النظرية الخلدونية في قوة العصبية لأن مجرد مباركة الأقوياء تجلب له الأنصار والقبائل والشعراء والخطباء.
ولهذا فإن عموم تمارين النجومية في هذا المجال مقصور على التقرب من ذوي السلطان والشوكة، وإرضاء جميع الجهات الأمنية الوطنية والأجنبية، وكسب ثقة الشركاء والممولين الدوليين والشركات متعددة الجنسية، ولا ضير في استخدام القرعة بهذه المسابقة لأن ارتباطها بالحظ والصدفة شديد.
وتختلف أكاديمية النجوم في ميدان الغناء والطرب في بلادنا عما جرت عليه أعراف أهل الأرض، فالجمهور الذي يقبل ترشحه سيكون محصورا في دائرة أبناء العائلات الموسيقية التي ورثت فنها كابرا عن كابر.
ولا يشترط في المتأهل للنجومية كتابة الألحان باللغة الموسيقية العالمية، ويمكنه أن يختار كلمات أغنيته من ألفية ابن مالك أو أي نظم أو بيت شعر يقع عليه.
 ولا طائل من وراء محاكاة أكاديميات الآخرين بهذا الشأن في جمع المترشحين بمبنى واحد، وامتحان شخصياتهم وقدرتهم على الألفة الاجتماعية، لأن الأصل أن النجومية الفنية تقتضي التحاسد عندنا.
ويمكن أن تكون لجنة التحكيم من غير الوسط الفني لأن أحدا من القوم لن يقبل أن يصدر حكما قادحا في صوت فنان من عائلة معروفة مادام الحكم منسحبا على تراثها الفني العريق.
وسيقتصر مضمار التسابق على جمال الصوت وقدرة الفنان على الإتيان بال"ردّات" كما ينبغي مع بعض من "حوص الأشوار الزمنية".
 وبمقدور فنانينا أن يتمتعوا بفرص متساوية بغض النظر عن القامة والرشاقة وغيرها من الشروط التي عهدناها في أكاديميات النجوم العربية والعالمية لأنه من باب لزوم مالا يلزم في ثقافتنا المحلية.
وقد تفلح بعض قنواتنا في استصدار فتوى من فتاوي الضرورات بجواز  استعانة المرشحين للنجومية الفنية بحاشية من المخنثين تطبّل لهم  وتكيل الشتائم والسباب لأعدائهم وحاسديهم.
ولو نجح القيّمون على هذه القنوات في ترجمتها الفورية إلى اللغات العالمية كالإنجليزية والإسبانية والصينية فإنها ستصبح محط اهتمام جمهور عالمي نظرا لغرابتها كما تجلب قنوات السيرك المشاهدين.
 وعندها ستكون قنوات النجومية الموريتانية مصدرا للإعلان والعملة الصعبة وجلب السياح إلى بلاد العجائب والله أعلم.
  

الجنة المحرمة

محمد محمود ولد سيدي يحي
يستيقظ آلاف الشبان عبر العالم  ولكنهم لا يلبثون أن يستغرقوا في أحلام اليقظة؛ صور تترى ومغامرات توصل في النهاية إلى "الجنة المحرمة".
نضال كبير يخوضه الشباب الإفريقي، وسعي حثيث للوصول إلى الشواطئ الأوروبية والغربية عموما.
ولا شك أن الحيل التي يبدعها هؤلاء لنيل بغيتهم تنم أحيانا عن  أساليب إبداعية وعبقرية، فمنهم من يصبر على العيش أياما وليالي في حاوية للبضائع، ومنهم من يختبئ في كيس بين الأسماك، أو قرب محرك السفينة.
وفي أحيان كثيرة تتطلب الرحلة إلى بلاد السعادة توفير أموال لا بأس بها، يتم إنفاقها على المهربين عبر الشواطئ والحدود، وفي أعماق البحار.
 قوافل تترى ومخاطر لا تنتهي عند احتمالات اعتراض خفر السواحل الغربية التي أصبحت تجند الجيوش لإيقاف زحف "البرابرة" القادمين من كل مكان؛ لأن قراصنة البحر كثيرا ما يغدرون بالمهاجرين السريين في عرض البحر، وتروي قصص الناجين كيف يلقى بالمشاكسين في بحر الظلمات ليكونوا لقمة سائغة للحيتان.
وكثيرا ما كان الغرق في بحر لجي يغشاه موج مصير قوارب الموت التي تحمل هؤلاء إلى ظلمة القبر ووحشته قبل أن ينعموا بأنوار المدن الغربية وشوارعها الفسيحة.
ما يستغربه العالم  هو إصرار الشباب على المغامرة بالنفس والمال ومكابدة مخاطر مؤكدة رغم أن  سماء البحر ملئت حرسا شديدا وشهبا.
ولكن الغرابة تزول عندما يختبر المرء ما تتعرض له هذه الأجيال من حملات الإغراء والإغواء، ففي ظل الفضائيات وحضارة الموجة الثالثة يشاهد الناس يوميا بالصوت والصورة مفاتن العالم المتقدم التي تعرض عليه بكرة وأصيلا.
مجتمع الوفرة الذي يمكنك أن تعمل فيه كما تشاء وتقول ما تريد وتستمتع كما تحبّ، في مدن تراقب شوارعها بالكاميرات، وتعالج أمراضها بأشعة الليزر.
وفي المقابل تعمل حالة الإفقار العام والتصحر السياسي والاجتماعي والثقافي على فك الارتباط الطبيعي بين الإنسان ومحيطه، لأن جميع المؤشرات تقف سدا منيعا بين الشباب وبين الحلم بالنجاح أو تحقيق جزء يسير من الآمال العريضة على أرض الوطن.
ولا تبدو خطط التنمية ومحاربة الفقر التي يطبّل لها الغربيون إلا مهدئات لا تلبث أن يزول مفعولها سريعا، لتعود "أوجاع الإفاقة على التاريخ العاصف" على حد تعبير توفيق بكار.
قالوا لهم: اجلسوا في بلدانكم والبسوا أزياءكم الشعبية وارقصوا لنا وسوف نزوركم بين الفينة والأخرى سائحين لمشاهدة عالمكم البدائي  الغرائبي، وحتى لا تفسدوا علينا بيئتكم الطبيعية وتراثكم الذي سنصنّفه تراثا عالميا سنزودكم بقروض صغيرة ونجعلكم تعيشون على مبادرات "مدرة للدخل".
حاولوا أن تنظموا إنجابكم وتعدلوا قليلا من صورة هرمكم السكاني ليصبح متوازنا بين الشباب والكهول، غير أن ثالوث المرض والجوع والجهل يحرم تلك الوصفات التي تقدم كل مرة من أن تؤتي أكلها.
فالشباب بطبيعتهم "صادقون ومتحمسون" ويريدون أن يحظوا بالعمل في القطاع المصنف، ويقتربوا من رؤوس الأموال العملاقة التي كدستها الشركات متعددة الجنسيات هناك، ولا يمكن إقناعهم بالفتات مادامت روائح الأطعمة الشهية تزكم أنوفهم في العدوة الشمالية من البحر.
لقد تحدث فيلسوف التاريخ "أرنولد توينبي" عن خطر الهوامش على الحضارات، ولا دليل على أن ما فعله الهكسوس والوندال والمغول ذات مرة في حضارات الماضي غير قابل للتكرار في عالمنا اليوم.
إن أسراب المهاجرين السريين الذين يتحدون جميع الإجراءات التي تقام هنا وهناك لصدهم عن هذه الجنة المحرمة تعبير حقيقي عن أن رياح العولمة تأتي بما لا تشتهيه سفينة الأقوياء.
ويخشى أن يكون زمن الحلول الترقيعية لتثبيت البشر والرمال الزاحفة قد ولّى، كما أن الأساليب الاستعمارية التقليدية في استغفال الشعوب والانفراد بمباهج الحياة دونها لم تعد قابلة للاستمرار.
وعما قريب سينتشر فقراء العالم الثالث في تلك الشوارع الفسيحة وسترتمي على جنباتها قاذوراتهم وأوساخهم وأوبئتهم التي ترافقهم.
 ولن يكون بمقدور أصحاب الجنة أن يقولوا {لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين}، لأن آلاف خفر السواحل وحرس الحدود لا يستطيعون إيقاف سيل الملايين الذين يتدافعون للوصول إلى تلك الشواطئ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم في سبيل ذلك.
لا بد إذن من تجاوز الحلول المؤقتة، ومعالجة القضية من جذورها ومراجعة التوزيع الظالم للخيرات بين شعوب الأرض، وإلا فإن موسم الهجرة إلى الشمال سيشهد على "تغريبة هلالية" جديدة، وربما كانت أعمالنا السيئة سببا مباشرا في تحقيق نبوءة الكتب الدينية عن هجوم ياجوج وماجوج {وهم من كل حدب ينسلون}.
 وعندها سينشد لسان الحال على أطلال حضارتنا التي {أخذت زخرفها وظن أهلها أنهم قادرون عليها} مع الشاعر نزار قباني:
 واليوم لا نار ولا جنة
هذا جزاء الكفر يا كافر.