محمد محمود ولد سيدي يحي
تضمّنت إحدى ورقات البردي التي تعود إلى الألف الأول قبل الميلاد نصّا باللغة المصرية القديمة يحمل شكوى من فلاح مصري يستغرب سلوك الشباب في زمانه، ويقول إنهم خالفوا الأعراف ولم يعودوا يأبهون لشيء مما يحرص عليه آباؤهم.
ولو أننا أصغينا اليوم إلى الآباء في هذا الركن القصيّ من إفريقيا لوجدناهم يحملون نفس مشاعر الحسرة والاستغراب تجاه سلوك أبنائهم، فصراع الأجيال سنة كونية واختلاف الخلف عن السلف من طبائع العمران البشري والاجتماع الإنساني على حد تعبير عبد الرحمن ابن خلدون.
ولعل من ينظر إلى طموحات مواليد التسعينيات وأواخر الثمانينيات من شبابنا وشاباتنا في موريتانيا اليوم سيفاجأ بأن حجم الاختلاف يبدو كبيرا وزاوية الاهتمام تكاد تكون مغايرة، ليس فقط مقارنة مع جيل الاستقلال وإنما بالنسبة إلى مواليد الستينيات والسبعينيات.
ومتابعة القنوات الفضائية التي يشاهدها هؤلاء تؤكد أن الذوق مختلف عن الجيل الذي يكبرهم مباشرة، فبرامج البث الرياضي، والأفلام العنيفة تستأثر باهتمام الفتيان المراهقين، بينما تتفق فئة المراهقات على حفظ أحدث أغاني الفيديو كليبس التي تبثها القنوات الفنية، وتقصي أخبار الفنانين وسيرة الحياة اليومية لما يعرف بنجوم"استار أكاديمي" والمسلسلات المدبلجة.
والطريف في عمومية هذه الثقافة هو عدم تفريقها بين مراهقي ومراهقات الأحياء الغنية وتلك الفقيرة؛ فالجميع يتبادلون الحديث حول عالم المغامرات الافتراضية، وترتفع أصواتهم بالجدال حول أبطالهم المفضلين في فناء المدارس العمومية والخصوصية التي تجمعهم.
وفي فئة البالغين وطلاب الجامعة نجد مستوى من الاهتمام بالشأن العمومي على مستوى النقاشات، إلا أن ثقافة الموضة والصعود السريع الذي خلقته اقتصاديات "اتبتيب" رسخت معارف متداولة حول ماركات السيارات الفارهة، والهواتف النقالة الملونة، مما جعل موضوع التأشيرات والهجرة إلى الخارج والغنى السريع يسيطر جانب كبير من طموحات تلك الفئة.
ومن هنا نجد أن التحصيل الدراسي والهمّ المعرفي مما لا يحظى باهتمام يذكر لدى الغالبية العظمى من هؤلاء، ولا أدل على ذلك من انحسار عادة القراءة بين المراهقين، اللهم إلا بعض المجلات الفنية، وربما بعض صفحات الويب الخفيفة.
في الثمانينيات كان كثير من المراهقين يطالعون قصص الألغاز ويقبلون على المراكز الثقافية ويتركز طموحهم في التفوق المدرسي، ولذلك ينخرطون في الحركات الأيديولوجية والعمل السياسي مبكرا، وتحتل المناظرات الفكرية والتعليق على الأحداث الإقليمية والدولية جانبا مهما من أحاديثهم، ولكن الأمر مختلف جذريا بالنسبة للفئات العمرية المشابهة في نواكشوط الألفية الثالثة.
ولا شك في أن برامج الفضائيات وتدفق المعلومات على الشبكة العنكبوتية قد شهدت طفرة خلال العشرية الأخيرة جعلت ثقافة الجميع كبارا وصغارا تتكيف معها بشكل لم يكن مطروحا على شباب ثمانينيات وتسعينيات القرن المنصرم.
المخرج الزميل أحمد حبيبي كتب حينذاك عمودا في جريدة الشعب تحت عنوان "شبابنا أبناء فلان" وكان ينتقد على أترابه ترددهم في ولوج مجال التمثيل والفن والمسرح، لأن كثافة الموروث العائلي تمنعهم من الإقبال على مهن لم يتقبلها المجتمع بعد، ولكن الإحراجات التي كانت تواجه جيل الثمانينيات، أصبحت غائبة من أذهان معظم شبابنا اليوم الذين يحلمون بالمشاركة في أكاديميات النجوم وربما عروض الأزياء في المشرق والمغرب.
وقد تكون هذه حسنة من حسنات العولمة التي بدأت تقضي على ميراث القبيلة والعائلة وأساطيرها التي يعتقد البعض أنها تكبّل الموريتانيين، ولكن هؤلاء سيعودون للبكاء على ذلك الزمان الذي كان فيه للشباب نسب معروف لأن أصعب جيل على الانضباط هو جيل المشردين المجردين من كل انتماء.
عامل أساسي كان له الدور الحاسم في إفقار ثقافة المراهقين وافتقادها إلى ما يشدها إلى الأمور العامة، هو هذا الارتباك الشديد الذي تعرضت له المنظومة التربوية خلال العقد الماضي، وضآلة البرامج والأنشطة المنظمة التي تتوجه لملء الفراغ الذي تعاني منه شريحة كبيرة في مدينة مختنقة تنعدم فيها المنتديات والساحات العمومية ومركبات رعاية الشباب الفاعلة.
من المنطقي جدا أن نتحدث إذن عن ارتفاع نسبة انحراف الأحداث وسقوطهم ضحية للجرائم المنظمة والأفكار الغريبة، ولعل تنامي ظاهرة الاغتصاب وتعاطي المخدرات مما يعكس صحة البيت الشهير:
إن الفراغ والشباب والجده
مفسدة للمرء أي مفسده
لا يتعلق الأمر بالدفاع عن القول المأثور"آباؤكم خير من أبنائكم إلى يوم القيامة"، مادام الحلم بإعادة شباب اليوم إلى تقليد حياة آبائهم كالحلم بعودة الشباب لمن غزاه الشيب، والموقف الصحيح هو أن نقول مع القرآن الكريم عن الجيل القديم {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون}
ولكن تحديات العولمة تقتضي إخراج جموع اليافعين واليافعات من دوامة العوالم الافتراضية إلى تحقيق مغامرات مقبولة وناجحة تستغرق طاقاتهم الخلاقة، وتوظف حيويتهم المتدفقة.
إن أخطر ما يواجه شباب هذه الأيام ليس تذوقهم للأغاني الراقصة وافتتانهم بعالم السرعة، ولكنه خضوعهم لرحمة المعلبات الفكرية والثقافية التي تقدمها حضارة الإعلان بألوان زاهية تسلب الألباب.
إن التحدي الأكبر هو الاحتفاظ بجذوة الإنتاجية والإبداعية العصامية تجاه عالم ينحو إلى التنميط، ومن ثم فإن المناعة الأخلاقية تجاه مغريات الانحراف وراء الأفكار الغريبة حتى ولو لبست ثوب القداسة والاحترام تحتاج أكثر من وقفة مع الأجيال الجديدة.
من غير المقبول أن نحمل الأسرة وحدها مسئولية رعاية النشء، ولا بد أن تكون برامج رعاية الشباب جهدا مشتركا يخطط له المسجد والإعلام والفن والرياضة والمدرسة والأندية الصيفية.
سيكون علينا أن نزدرد حقيقة اختلاف جيل الأبناء في الهوايات والاهتمامات مع جيل الآباء، لأنها سنة الحياة، ولكن من سنن الله في خلقه أن نطمئن على مستقبل هؤلاء لأننا نرى فيه استمرارا لذواتنا لا نملك أن نفرط فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق