محمد محمود ولد سيدي يحي
روى الشهيد القائد صدام حسين رحمه الله محدثا عن نخوة الموريتانيين أن الرئيس المرحوم المختار ولد داداه، شهد مؤتمرا تنافست فيه الدول الإفريقية على المساعدات العربية، فما كان منه إلا أن خرج من قاعة المؤتمر ليتلقى مكالمة هاتفية، ثم عاد ليقول للحاضرين إن موريتانيا تتنازل عن حصتها من هذه المساعدات لأن أخبارا طيبة من البلاد بشرت بهطول الأمطار.
موقف من السبعينيات يذكرنا أن موريتانيا مازالت إلى اليوم تنتظر أخبار الغيث النافع وتستبشر بها في كل مكان، وأن حياة الرعي والبداوة بقيت رغم برامج التنمية والتحديث، عماد حياة الأغلبية في الأرياف.
وحدهم السياسيون مشغولون بالانتخابات والشفافية، بينما يكاد الموضوع يكون ثانويا في الداخل الموريتاني، حيث يسأل الناس أولا عن أخبار الغيث، ويناقشون أسعار الأعلاف في فترة هي الأصعب في حياة قطعانهم، ويستكمل الحديث عندما يطول بأخبار السياسة تماما كما يتلهى الغربيون بأخبار الدوري الرياضي.
"المال شقيق النفس" حكمة قديمة، ويتندر الموريتانيون بأن البقر وهو محبوب الرعاة الموريتانيين من مختلف المجموعات اللغوية، يتندرون بأنه "كان معبودا" لدى أسلافهم الوثنيين.
لا يعرف مؤرخو الحضارة قرابة مؤكدة بين سكان الصحراء من الموريتانيين وبين حضارة الهندوس التي تقدس البقر، اللهم إلا ما يروى من أسطورة إفريقش بن صيفي الذي غزا مشارق الأرض ومغاربها وأسكن بعضا من جنده بإفريقية التي أخذت منه تسميتها.
وعلى العموم عانى رعاة البقر من الجفاف ما لم يعانه أهل الإبل والشاء لأنه حيوان أليف مستقر لا يصبر على الجوع والعطش والرحيل لمسافات بعيدة.
ويتذكر جيل السبعينيات ضربة الجفاف القاسية عندما نفقت آلاف الأنعام وفقد بعض الرعاة عقولهم حتى خلدتهم الأغنية الشعبية الشهيرة:
يا هل لبقر عنكم جنّوا
لقد كانت عتبة الجفاف أول بوابة يعبرها البدوي الموريتاني نحو الحداثة حينما اضطر الناس لهجرة الأرياف إلى المدن؛ مما جعل الدولة التي ظلت حتى ذلك العهد مجرد كائن هامشي تواجه مجتمعا بأكمله لم تتعود أن يلجأ إليها.
بقيت مخيلة الراعي تلاحق الموريتانيين الذين ترمز البداوة إلى كل شيء جميل في حياتهم وتحتفظ بصورة العصر الذهبي في ذكرياتهم حتى كأنهم يحكون أبيات الأعرابية التي سئمت حياة القصور في كنف الخليفة فقالت:
وما ذنب أعرابية قذفت بها
صروف النوى من حيث لم تك ظنت
تمنّت أحاديث الرعاة وخيمة
بنجد فلم يقدر لها ما تمنّت
وما أن عادت موجة الرطوبة نسبيا وتراجع الجفاف حتى تسابق علية القوم إلى الاستثمار في الثروة الحيوانية وتخصيص الأموال الطائلة للتنافس في امتلاك قطعان الإبل والبقر.
ولكنه دائما وأبدا أسلوب البدو في الاستثمار الذي لا يغير شروط الإنتاج، ويحسب المباهاة والتفاخر أكثر مما يعتني بالمردودية الاقتصادية والإنتاجية .
رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون
وها نحن نبحر كما كان أجدادنا يبحرون
كما خلد الشاعر الكبير أحمد ولد عبد القادر"تغريبة" الجفاف الموريتانية في رائعته "السفين" خلال الثمانينيات.
فنحن على العهد سلفيون في الرعي لا نغير أساليب الإنتاج ، ونترك ثروتنا الكبرى الوحيدة التي تحقق لنا الاكتفاء الغذائي، وتوفر لنصف السكان مداخيلهم السنوية عبر التصدير إلى دول الجوار، نتركها تحت رحمة التقلبات المناخية.
نفس المحنة والقلق ينتاب نصف الموريتانيين الذين يعتمدون على الحيوانات الأليفة منذ الشهر الرابع من كل عام، رحيل نحو الجنوب، وعبور للحدود بحثا عن المرعى.
رحلة سيزيفية في " نجّامة" لا تنتهي، ويزداد القلق عند الرعاة أيام تساقط الأمطار الأولى حيث تظهر الأمراض ويموت ضعاف القطيع.
تدخلت الدولة الموريتانية طيلة العقود المنصرمة، وأنشئت وزارات للتنمية الريفية والزراعة والبيطرة، وأنفقت عشرات المليارات لتذهب سدى دون طائل.
حتى الأعلاف التي أصبح الجميع مضطرا للجوء إليها، لا تتوفر بالمقادير الكافية، ولم تستطع السياسة الصناعية أن تجعلها أولوية حقيقية.
وحدها رحمة الله هي التي تسع الجميع وبشائر الغيث التي هبت من هنا وهناك تعيد الأمل إلى النفوس، فالدولة والسياسة بالنسبة للأرياف والبوادي عبء لم يقم بمجهود حقيقي لتحويل نمط الحياة هناك إلى أشكال عصرية مشابهة لما عليه الحال في البلدان المتقدمة.
متى يتوقف نزيف السياسة وتلتفت الطبقة العليا من المجتمع إلى هموم العامة والفقراء؟ إلى متى يسود جدل لا يمس التنمية ومشاكل الوطن الحقيقية؟
اعلموا أيها السادة أن لنا هموما أخرى وأحاديث غير أحاديثكم هذه التي ينبغي أن تعرض على "علم الرجال"
!!