محمد محمود ولد سيدي يحي
مرّ العيد بأيامه بسلام وأمان واستطاع الكثيرون أن يستمتعوا بهذه الفرصة التي شرعها الدين الحنيف في صلة الأرحام وتبادل الزيارات والتسامح.
إلا أن مجموعة ليست بالقليلة من الموريتانيين لم تجد للعيد مذاقا لأنها قضت أيامه في مراوغة مع ممتهني التسوّل والتطفّل الذين يعتبرون الأعياد والمناسبات فرصا لا تضيّع لتصيّد الذين كانوا يتقونهم تحت ذرائع المشاغل ودوامة العمل، وذلك تحت عناوين عصرية تسمى"اندوينه" وملحقاتها.
لقد كتب أستاذنا محمد فال ولد عبد اللطيف رسالة طريفة في أحوال "الكوس" ونوادر الكواسين، ودوّن الأستاذ يحي ولد سيد المصطف دستورا حول" نوادي الثقلاء ومدارس الإزعاج" وجاء نظم الشيخ حمدن ولد التاه للثقلاء على معظم صور التطفّل التي تعاني منها فئات كثيرة من سكان المدن الموريتانية.
إلا أن مجتمع الإحراج الموريتاني لم يعد اليوم مقصورا على فئات محدودة، لأن الكثيرين لا يجدون غضاضة في ممارسة هذا السلوك الذي يجافي الذوق وظرافة سكان الحضر.
صحيح أن الكوس في معناه الذي ساد أيام الثمانينيات قد تراجع في ظاهره إلى حدّما، إلا أن "الطّمعة والطّلبة" بفتح الطاء شهدتا ازدهارا وتفنّنا لم يسبق له مثيل.
إنك لا تعدم في شوارع نواكشوط شابّا فارع القامة ممشوق العضلات شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر يستوقفك ويناديك باسمك وربما بكنيتك، ويسألك عن أحوالك وربما عن بعض أقاربك وقبيلتكم الموقرة ثم يختم المقدمة الطللية التي تخلب لبّك بأنه في حاجة ماسة لمبلغ ألف أو خمسمائة أوقية للوصول إلى كذا أو تدارك الأمر الفلاني قبل فوات أوانه، هذا ناهيك عن هذه الحسناء التي لا توحي هيئتها بسوء الحال و تطلب جميع الواقفين بقاعة الانتظار من الرجال أن يساعدوها بثمن التاكسي لأنها في عجلة من أمرها.
أما الذين يزورون من غير موعد ويفرضون عليك برامجهم الخاصّة فإنهم لن يقبلوا منك عذرا إذا استأذنتهم في الانصراف إلى زاوية من البيت لاستكمال بعض الأعمال الضرورية، وسيغضبون منك وينشرون عنك قالة السوء لأنك قررت مواصلة رحلتك التي وجدوك خارجا إليها..
ومنهم من يتحيّن الفرص المحرجة فلا يطرح عليك حاجته إلا بين الناس حتى إذا اعتذرت إليه استشهد الحاضرين على بخلك وجعلها سبّة الدهر التي يعيّرك بها في المجالس، وربما اختارت هذه الفتاة الطفيلية لحظة وجودك بين أصهارك أو زيارتك لخطيبتك لتطلب حيث لا يمكن ردّ طلبها فتسارع شراء لعرضك إلى تلبية المطلب مهما كلّف الثمن، ولسان حالك يردد الحديث المشهور"إنا نهش لقوم وقلوبنا تلعنهم"
والمصيبة التي ما بعدها مصيبة هي أن من ينفقون أموالهم وأوقاتهم تحت طائلة الإحراج محرومون من الثواب والأجر عند الله لأنهم ينفقون أموالهم رئاء الناس وهم كارهون فمثلهم "كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا"
وأسوأ الناس حظّا في هذه البلاد من كان لأهله شرف وفضل وورث عن آبائه بعض الأتباع والموالي والمريدين، فهؤلاء في حسرة دائمة وضائقة متواصلة لأن الحال انقلب عليهم، فبعد أن كان من حوله يحبون أهل بيته لبركتهم أو جاههم ويتبرعون لهم بالصدقات والهدايا أصبحوا اليوم عالة يطالبون بردّ الجميل، ومن ضعفاء الإيمان ممن خاف الذل بعد العز من دفعته الضرورة إلى الخوض في المال العام حتى يواجه متطلبات جماعته من المؤلفة قلوبهم فكان ممن باع دينه بدنياه والعياذ بالله.
ولعل الطامة الكبرى أن معظم معاناة التسول مقتصر على محدودي الدخل من صغار الموظفين وسكان الأحياء الشعبية لأن هؤلاء ممن يسهل الوصول إليهم، أما سكان الأحياء الراقية في نواكشوط فقد اعتصموا ببعد المسكن وعلو أسواره وشراسة كلاب الحراسة عن هؤلاء المتطفلين.
ولولا أن السياسة ومطالب الديموقراطية أعادت جسر الطريق بين الأغنياء الموسرين والفقراء المعسرين بحثا عن الأصوات لكانت حبال العلاقة بين الفريقين قد تصرّمت منذ بعض الوقت.
ولقد لاحظ البعض مؤخرا إقبال بعض الموظفين وعمال الإدارات العمومية على مكاتب العمل ومداومتهم ومواظبتهم على الحضور منذ الصباح الباكر وحتى انتهاء الدوام دون ظاهر عمل يؤدونه فلما سئلوا عن علة ذلك تعللوا بالفرار من إحراجات الطامعين وثقلاء الزوار، وهذه فائدة تذكر ر غم أن مردودها على الأداء الإداري ضعيف، ولا يسلم الحال من إزعاجات مشابهة من بعض ذوي المهن التابعة كعمال السكرتاريا والبوابين والفراشين الذين لا يفوتون فرصة استلام راتب أو تشجيع أو علاوة إلا وطالبوك بضريبة الجوار والمصاحبة، مما يجعل بعض لموظفين بين أمرين أحلاهما مرّ.
قد يقول قائل إن فئات كثيرة من الموريتانيين تعاني من الفقر، وما هذا التسول والإحراج إلا نتيجة مباشرة لذلك، ولكن الغريب هو أن من يتسولون من هذه الطبقة لا يتسمون بالفقر المدقع وغالبا ما اقتصرت حاجاتهم على بعض الكماليات كبطاقة الهاتف أو ساعة المعصم وغير ذلك، إضافة إلى أن حياة معظم الموريتانيين لم تتعود على الرفاهية والنعيم، ولم تكن مذلة المسألة مقبولة إلا لفئات محدودة.
لا شك أن التمدن والتحضر ينبغي أن لا يكون عنوانا للبخل وعدم العطف على المحتاجين والضعفاء، ولكن هذا الاستغلال الاستنزافي لتضامننا ومروءتنا التقليدية يوشك أن يقضي على ما تبقى منهما في هذا العصر المادي.
إننا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بالاعتماد على النفس وتربية أبنائنا على تقاليد الظرافة والتخفف من خشونة الحياة البدوية وعدم مراعاة برامج الآخرين ومشاغلهم، وإذا كنا بحاجة إلى تعزيز الإنفاق والعمل الخيري، فإن علينا أن نستعد لثقافة الفردية وحياة العولمة فبعد قليل لن يعود الإحراج هو أقصر وسيلة لقضاء الحاجات وسلب الجيوب.