محمد
محمود ولد سيدي يحي
شكّل صدور كتاب الدكتور محمد المحجوب ولد بيّه
"المقاومة السوننكيه للاستعمار في كيدي ماغه" إضافة هامة إلى المكتبة الوطنية.
ويبدو أن الوزير والسفير السابق قرر أن يمثل استثناء لقاعدة
سيئة جرى بها العمل في بلادنا، وهي أن يقتصر تناول تاريخ وثقافة كل مجموعة عرقية
في البلاد على أبنائها، وذلك ما جعل الحوار الوطني والتعارف الثقافي بين مكونات
هذا الوطن ضحية لمونولوج ذاتي منغلق رسخه إهمال الباحثين والمثقفين، واستغلته
الانتهازية السياسية أبشع استغلال.
ويتناول الكتاب الذي نشرته مكتبة القرنين15/21 وثيقة نادرة
كتبها أحد الإداريين الفرنسيين يسمى غوستاف أودان سنة 1908 يستعرض فيها مشايخ
المحاظر والطرق الصوفية في كيدي ماغه ومواقفهم من الاستعمار الفرنسي.
وتوضح الوثيقة مستوى الرفض الكبير لدى القيادات الدينية
في مجتمع السوننكه للاستعمار الفرنسي حيث أن 103 من الشيوخ من أصل 135 شيخا كانوا
مناهضين للوجود الفرنسي، وجاءت ملاحظات الإداري حولهم دالة حيث وصفهم بالأعداء وأوصى بمراقبتهم مراقبة مشددة.
وتعرض الوثيقة للتصرفات الوحشية للجيش الغازي الذي لجأ إلى
إحراق القرى والمكتبات مما جعل شيوخ المحاظر في المنطقة يلجأون لإخفاء كتبهم.
ورغم أن الدراسة التي قام بها الدكتور محمد المحجوب للوثيقة
كانت موجزة، إلا أنه ساهم بمجهود قيّم في تعريف قراء العربية بالمجتمع السوننكي،
ورصد محطات مقاومته للاستعمار الفرنسي، وهنا تبرز أسماء بارزة مثل براما ديانكو،
وديريكو فوليل، وفودي إسمايمه الذي أصبح اسمه يمثل في كل أنحاء بلاد السوننكه
التمرد والجهاد ضد الفرنسيين، وما إن بدأت دعوته تؤتي أكلها في الزوايا السوننكه
حتى ألقى الفرنسيون عليه القبض وحكموا عليه بالسجن10 سنوات، وتم نفيه إلى ساحل
العاج سنة 1911 حيث ظل هناك حتى استشهد.
وقد عقب الدكتور
امبوستا جاكانا على الدراسة بالقول "إن تناول مقاومة علماء ومحاظر السوننكى
لدخول الاستعمار يحمل من وجهة نظري معنى خاصا؛ هو تصحيح التاريخ، فأكاد أقول إن
أكثر آلام موريتانيا ناتجة إما عن الجهل بالتاريخ وإما عن تفسيره تفسيرا متحيزا،
إننا لا نجد مجاهدا أو عالما سوننكيا مذكورا في مقرراتنا المدرسية أو الجامعية ما
عدا ممادو لامين ادرامى، مع أن أبحاث الدكتور المحجوب ولد بيّه أثبتت أنهم كثيرون
جدا.. كما يفند الكاتب حكما مسبقا آخر هو الاعتقاد بأن طلاب السوننكى وحتى البولار
والبمباره الذين يرتادون المحاظر كانوا "حالات معزولة"
ويخلص الدكتور جاكانا للقول "إن المؤلف د. محمد
المحجوب ولد بيّه باتخاذه من كيدي ماغه موضوع دراسته يضفي على المنطقة بعدا رمزيا
يجعل منها فضاء للتمازج والتكامل بين الموريتانيين، ففي كيديماغه نجد فضلا عن السوننكى
جميع مكونات البلد تتعايش في وئام وانسجام رغم صروف السياسة العابرة، والحقيقة أن
موريتانيا ذاتها بموقعها الجغرافي هي محصلة لمكوناتها الثقافية والبشرية العربية
الصنهاجية الزنجية والإفريقية المتمسكة أيّما تمسك بإسلامها الموحّد الجامع، وموريتانيا
قوية بهذا الاتحاد والتمازج، لنتذكر جميعا تلك النماذج مثل واراجابي وآمدو جني
مجاهدي التكرور، وحرب شرببه، واعل ولد الأمير محمد لحبيب والأميرة جنبت، والآزير
تلك اللغة المزيج بين السوننكية والصنهاجية.."
وقد أشفع الدكتور محمد المحجوب ولد بيّه تحقيقه للوثيقة
وترجمته لها إلى اللغة العربية بوثيقة أخرى هي خطاب السيد جاورا صار أمام المجلس
الفرنسي الكبير حول تعليم اللغة العربية سنة 1949، حيث طالب السلطات الفرنسية بدعم
تدريس اللغة العربية في موريتانيا، ومما قاله هذا الإطار السوننكي في ذلك الوقت
المبكر: "شئنا أم أبينا سيظل الموريتاني دائما يسعى إلى تحسين مستواه في لغته
العربية من دون أن يعني ذلك أنه يكن رغبة خفية في أن يصبح تابعا لدولة من الدول
العربية، إن تمسكه يظل قويا في نطاق ما يسمح له به دستور الجمهورية الرابعة بعادات
وتقاليد أسلافه القديمة ومعتقداته الدينية ومن ثم بشخصيته الخاصة.."
وفي خاتمة الكتاب يقول الدكتور محمد المحجوب بتواضعه
المعروف "لقد تبينت خلال دراستي لهذه الوثيقة عدة أمور؛ أولها قصور معرفتي
بتاريخنا الوطني رغم أن وعيي بأهمية دراسته والاعتناء به كان مبكرا، وكان هذا
الإدراك يتجلى كلما اكتشفت معلومة جديدة ترسخ إيماني بثراء وعراقة شعبنا، ومما آسف
عليه أنني قد لا أكون استثناء بين الموريتانيين؛ فنحن جميعا بحاجة ملحة لمعرفة تاريخنا
وجهاد آبائنا وأجدادنا ومقاومتهم للغزو الأجنبي، وإن كنا نعرف عنه القليل فغالبا
ما يكون عن الجانب المسلح أما الجانب الثقافي منه فقليلا ما أوليناه أهمية؛ فكيف
إذا كان الجهاد الذي قام به أهل كيديماغه"
ويعتبر كتاب الدكتور محمد المحجوب ولد بيه إضافة ثقافية
وعملا وطنيا بامتياز ينتمي إلى تاريخ الرجل ونضاله في الحركة الوطنية الديمقراطية
الذي رسم لنا جوانب ممتعة منه في كتابه الشيق "أتذكر" والذي صدر سنة
2004، وحوى مشاهد من الحراك السياسي والفكري لموريتانيا السبعينيات.
وقد قرر الدكتور محمد المحجوب أن يستكمل الفكرة الرئيسية
للكتاب في عمل أكثر شمولية تحت عنوان " موريتانيا جذور وجسور؛ المقاومة
السوننكية للاستعمار في كيديماغه" وهو العمل الذي فاز مؤخرا بجائزة شنقيط
للآداب للعام الحالي.
وقد علق الباحث
السفير محمد سعيد ولد همدي في تقديمه لكتاب الدكتور محمد المحجوب ولد بيّه قائلا
"أنا على يقين يا صديقي السفير ولد بيّه، أنكم في آخر خدمتكم الطويلة،
ستستطيعون من خلال عملكم في اليونسكو ملتقى الاعتقادات والثقافات والحضارات التي
تباعد بينها المسافات الشاسعة وشتى السدود، أن تساهموا في توعية الذاكرات والهويات
الوطنية الموريتانية الأربع بحقيقة اتحادها في المشرب والعاطفة، بل إنها في
الحقيقة توائم وكتابكم "موريتانيا جذور وجسور" يمثل بلا شك قاعدة لذلك
وخطوة أولى في سبيله، والخطوات الأولى هي الأكثر أهمية"
ولا شك في أن التركيز على العمل الأكاديمي لمد جسور الوحدة
الوطنية بين المكونات العرقية والثقافية للدولة الموريتانية عمل رفيع ما زال في
حاجة إلى جهود كبيرة، وقد كنت طالبت قبل سنوات في كتاب "المجتمع الفضفاض"
باعتماد مقرر دراسي في المرحلة الإعدادية
يسمى "الثقافة الوطنية" يتعرف فيه الطلاب على مبادئ وعبارات من
جميع لغاتنا الوطنية، ويتم فيه التعريف بالمرويات الشعبية والأمثال والعادات
المتنوعة في هذا البلد، لأن "التعارف" هو بوابة المحبة والترابط العميق؛
كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}