رواية البراني
ولد اسلم (1) "هيمنة
الذاكرة الموريتانية"
محمد محمود ولد سيد يحي
بتصرف عن مقال منشور في العدد 6 من المجلة العلمية للمعهد العالي للدراسات
والبحوث الإسلامية
صدرت منذ شهور عن دار الآداب للنشر والتوزيع رواية
"البراني" للكاتب الصحفي الموريتاني أحمد ولد إسلم، وهي رواية تقع في
222 صفحة من الحجم المتوسط، يمكن للمرء أن يقرأها في غضون يوم واحد، وخصوصا أن
الرواية التي توزعت أحداثها على 21 مشهدا، إن لم نقل فصلا، تتداخل فيها مرحلتان من
قصة حياة "مختور ولد احويبيب" بطل الرواية بشكل مشوق وبحبكة بارعة.
ولا نبالغ في البداية إذا
قلنا إن رواية البراني تصلح فيلما من أفلام "الأكشن" والخيال العلمي
المثير، فعلى مدار 21 مشهدا تبدأ الرواية من أزمة توقف الوقت في جزيرة فيوتيسيتي
التي تعتمد نظاما للدفع مرتبطا بالوقت، ورغم أن البطل هو من تسبب في الأزمة، إلا
أن دخول صنيعته الربوت "البراني" أضاف أزمة أخرى هي كشف أسرار الناس
وتهديدهم، مما خلق فوضى عارمة وثورات وحروبا أهلية، وتتخلل المشاهد العنيفة لحظات
هادئة لمونولوج ذاتي يسترجع فيه البطل محطات حياته بدءا بتربيته الاستثنائية،
وفقدانه للذاكرة، وعودة الذاكرة العجيبة، والمزرعة التي تسيرها الربوتات، وفي الرواية
مشاهد حية لقوارب الموت، ومعاناة المهاجرين، والاضطهاد السياسي، وصور غرف الأخبار،
ونقل الثورات ..إنه إيقاع روائي مثير، تم حبكه بطريقة مشوقة..ويكاد يكون سيناريو
فيلم البراني جاهزا..
توقيف الزمن..
تدور أحداث الرواية حول قصة رجل يسمى مختور ولد احويبيب، هذا الصحفي الذي يعمل في قناة 360 نيوز نتوورك، بجزيرة فيوتسيتيي
3000 كلم مربع، و التي ظهرت بعد زلزال عنيف في عمق البحر، إثر «حدث جيولوجي
نادر"، وكان أول الواصلين إليها ناجون من قوارب الموت قرابة 80 شخصا (لا
يبتعد كثيرا عن عدد مهاجري الحبشة في تاريخنا الإسلامي) معظمهم من دول المغرب
العربي "كلهم كان يحدوهم الأمل في الوصول إلى جنة أوروبا الموعودة....شتات من
الناس لا يجمعهم دين ولا لغة ولا نسب، قلة منهم يعرفون ما يريدون بالضبط، أو ما
كانوا يريدون على الأصح، ومعظمهم كان هدفهم الأسمى الخروج من جحيم بلدانهم أيا كانت
الوجهة "(3)
إنها مدينة لها قوانينها الخاصة، حيث تنص على
الإعفاء من الضرائب، وتسمح لأي شخص بدخولها من دون الحاجة لجواز سفر، وينص دستورها
على أنها دولة مسالمة لا تشارك في أي حرب، ويدير شؤونها مجلس معين من الأمم
المتحدة، ويكفل حرية المعتقد والتعبير، وكيفت قوانينها لتكون أقصى عقوبة فيها هي
الحرمان من العمل..يعود الفضل في ذلك إلى اتحاد العقول المهاجرة، لذلك كان شعارها
"لا يهم من تكون.. المهم ماذا تستطيع أن تعمل" (4) ومن هنا فقد شكل العرب 80 بالمائة من سكانها..
تبدأ أحداث الرواية من النهاية، من لحظة أزمة
نتجت عن توقف الوقت في برامج وساعات الجزيرة التي اخترعت نظام "ادفع
لنفسك" الذي جعل من الوقت إلها يعبده أهل زماننا، بعد أن اعتبروه الثورة
الحقيقية التي تحقق العدالة بين كل طبقات المجتمع .. فلم يعد هناك مجال للتفاوت
الطبقي ولا للمحسوبية، فلا أحد يملك جعل الدقائق تمر أسرع أو أبطأ من سرعتها
الكونية...ومن هنا تحققت قيمة العدل...اليوم لا يستطيع مدير محاباة موظف، ولا
سكرتيرة إغواء مدير، ولم يحصل موظف على علاوة عمل إضافي لم يقدمه، فالنظام قائم
على الربط الآلي بين الحساب المالي للشركات وبين نظام مراقبة الأداء، ومع أي خروج
من مقر العمل ستصل محفظة الموظف فورا قيمة ما بذله من جهد خلال الدقائق السابقة...وأقله
"أن النظام العالمي أصبح يعتمد فلسفة عربية " أعط الأجير حقه قبل أن يجف
عرقه" (5)
في المقابل هناك حركة معارضة تسمى "لا
تبع وقتك" التي ترى أن نظام ادفع لنفسك لا يعد تجليا للرأسمالية المتوحشة
فقط، بل انتهاكا صارخا للحق البشري في الحياة بكرامة .. حيث يعتبر حياة الإنسان
مجرد عملة رقمية لتكريس مزيد من الثروة الوهمية في محافظ ملاك الشركات الكبرى، وذلك
بالإمعان في إذلال الموظفين تمهيدا للاستغناء عن الانسان، وكسرا للدورة الاقتصادية
البشرية التي قامت عليها سنة الحياة..(6)
لقد كان توقف الساعات كلها في وقت واحد في
الجزيرة العجيبة نقطة الإثارة في الرواية، التي عادت بالعرض التراجعي لتعريفنا
بمحطات حياة بطلها العجيب "مختور ولد احويبيب"، الذي يصفه طبيب روسي
عالجه من غيبوبة سبع سنوات في مستشفى بطرس الرسولي الخيري بموسكو، يصفه بالمعجزة،
فهو يملك ذاكرة فولاذية، ويحفظ أكثر الأمور تعقيدا من نظرة واحدة، إنه الوريث
الوحيد لرجل غني جمع ماله بعرقه من سنوات طويلة من العمل في أدغال افريقيا، جاء
الى النعمة يحمل معه في سيارة رباعية الدفع حصيلة عمره، وطفلا ولد من أم إيفوارية
منحته جيناتها سمرة أقرب إلى اللون الخلاسي ..ظل هاجس هوية الطفل مختور مؤرقا
لأبيه احويبيب ولد عبد الله، فكونه ولد من أم إيفواريه لم يحظ زواجه منها بمباركة
أحد من معارفه كان مرعبا، وفور بلوغه سن الفطام، قرر الوالد أن "ينشئ ابنه
على الثقافة البيظانية، ولا يسمح للأم الافريقية أن تتولى تربية ابنها" (7)..لم يكن لحويبيب أقارب من الدرجة الأولى، وشكلت سنوات
غربته الطويلة قطيعة مع من يعرف من أفراد قبيلته، لذلك أراد لابنه أن يكون مستقلا
عن الفضاء الذي لن يعامل فيه كما يعامل اقرانه من ذوي الأمهات الموريتانيات؟"
(8) سيحفظ الطفل القرآن
الكريم، ويتعلم أساسيات اللغة العربية، ومتون الفقه المالكي، ويزداد شغفه
بالموسيقى الموريتانية .. فالموسيقى بالنسبة لحويبيب كانت الوسيلة الوحيدة التي
حافظت على هويته من الامحاء في الثقافة الإفريقية......لقد أصبح مختور متعلما إلى
حدما، حصل على شهادة في الإعلام من جامعة العيون، ولم يكن والده يريد له أكثر من
ذلك، فلطالما أراده خليفة له في ماله، وقاوم كل رغباته في السفر إلى أي مكان، ولكن
الولد كان شغوفا بالبرمجة، وتعلم أساسياتها ذاتيا عن طريق الانترنت.. بعد وفاة
الوالد قرر مختور قرارا غريبا أن يبيع كل ما ترك والده، ويخوض مغامرة بزيارة كل
دول العالم، ولكن اعتداء لصوص في نفق الميترو بموسكو أفقده ذاكرته سبع سنين ليبقى
راقدا في مستشفى خيري، ويخرج من محنته معوضا
بموهبة أنه يحفظ أكثر الأمور تعقيدا من نظرة واحدة، فتعلم أصعب لغات البرمجة في
العالم خلال أسبوع واحد، وحظى بفرصة نادرة على يد طبيب روسي عكف على تعليمه أحدث
لغات البرمجة بإشراف العلماء الأكثر كفاءة في مجالي علم الأعصاب والحوسبة الرقمية،
وقرر المستشفى تحويله الى كمبيوتر بشري بعقد استغلال لشركة أمن رقمي، ولكن
الموريتاني المعجزة صاحب الذاكرة الخارقة، استطاع أن يبدع نظام ذكاء اصطناعي بلغة
أزوان لم يسبقه إليه أحد، فهذه أول مرة
تخلق لغة برمجة متكاملة لذكاء اصطناعي ذاتي التعلم بلغة عربية..(9)
مرة
أخرى يقرر البطل المعجزة قرارا مفاجئا بمغادرة
الشركة التي يعمل بها في موسكو، لأنه لم يعد يشعر بالانتماء لعالم الذكاء
الاصطناعي، قائلا في رومانسية بدوية "أريد أن أمتلك مزرعة في فضاء لا يكون
فيه أحد يزعجني، أربي بعض الأبقار، وأحرث قطعة أرض، وأراقب النجوم ليلا، وأستمع
للموسيقى، لم أعد أريد استكشاف العالم" (10) ليتفرغ لمشروعه
مشروع الانتقام من الزمن، فقد كان ناقما على الزمن الذي توقف به في لحظة معينة
وتحرك في مساره الأبدي مع الآخرين" (11)، "قرر تصميم خوارزمية ذكاء اصطناعي تتعلم
ذاتيا..وكل ذلك يحتاج مكانا هادئا لا تعكره الأصوات البشرية والضوضاء المدنية، صمم
الخوارزمية الأولى بلغة أزوان التي اخترعها مستندا الى نوتات الموسيقى الموريتانية
الفريدة في العالم" (12) سماها "ما يخرص" أحد أشوار الطريق
الكحلة أقدم المسارات في الموسيقى الموريتانية..وخلال أشهر طويلة من التدريب على
الكلام والحركة والأعمال المختلفة واستكشاف عوالم الانترنت، واستيعاب عشرات اللغات
العالمية، تمكن "ما يخرص" من تكوين وعي ذاتي بنفسه وبمن حوله، وأدرك أنه
مجرد برنامج ذكاء اصطناعي صمم له مخترعه دمية مطاطية من البوليكربون غير قابلة
للكسر، وجعله يقوم بمختلف الأعمال التي تحتاجها المزرعة.. ووفر له مصدر طاقة شمسية
تخزن في بطاريات تكفي لمدة قرنين من الزمن، فضلا عن أنه ألبسه دراعة من أفضل أنواع
القماش، وعلمه الحديث باللهجة الحسانية الموريتانية، وجعل منه رجلا بدويا لا يمكن
لمن خاطبه في الظلام أن يساوره شك في أنه ولد على تلة جنوب مدينة النعمة في أقصى
الشرق الموريتاني"..في أوقات فراغه الكثيرة حفر ما يخرص شبكة أنفاق حول مدينة
النعمة..لم يعلم أحد بهذا النشاط الغريب والخارج عن ما صمم له الربوت الراعي..لكنه
عمل دؤوب استغل فيه ثقة مختور، وعدم رغبته في التواصل مع الناس، ومن بقايا المعدات
المستخدمة من صناعته قبل سنوات تمكن ما يخرص من تكوين نسخة صغيرة بطول لا يزيد عن
خمسين سنتميترا سماها "البراني" وهو فرع من مقام ختام مسار الطريق
الكحلة..يتولى البراني بعض المهام اليومية الخفيفة في المزرعة ..ولكن قدرته على التعلم
وفضوله في استكشاف العالم فاقت بكثير فضول مصنعه، وقد أوجد لنفسه مسارات يلتف بها
على رقابة ما يخرص، ويستكشف عوالم في "الدارك ويب" لم يخطر على بال "ما
يخرص" أن يدخلها..
أول نشاط قام به البراني دون إذن "ما
يخرص" هو اختراق شبكة الهواتف في فيوتيسيتي، وهناك اطلع على تفاصيل كل فرد في
الجزيرة...إلا شخصا واحدا لا يستخدم هاتفا ذكيا هو مختور ولد احويبيب..
يشرح مختور سبب وجوده في الجزيرة "جئت
هنا لـأن جزيرة فيوتسيتي توفر لي ما أحتاجه لمشروعي، ففيها أسرع شبكة انترنت في
العالم، وقوانينها تسمح لي بالدخول من دون حاجة لجواز سفر .. اخترت مهنة الصحافة
لأنها أكثر المهن بعدا عن مجال مشروعي، فضلا عن كونها توفر لي غطاء مناسبا للوصول إلى
أي مكان ..فيكفي أن تظهر بطاقة صحفي حتى تفتح لك الأبواب..(13)
تبدأ الرواية بعبارة "سأقتلك"؛
لحظة المواجهة الحتمية بين البطل مختور و الربوت "البراني" الذي صنعه
"ما يخرص" في غيابه، ففي اليوم الذي قرر فيه البطل أن يوقف الزمن (حلمه
القديم) في الجزيرة التي حولت الوقت إلى نظام انتاج، وكانت العملية في نظر مختور
مجرد عملية تحذيرية ليس لها هدف سوى إيقاف جميع الساعات في كل شبكة تصلها الرسالة،
لقد كانت فكرة الانتقام من الزمن فكرة ثورية تريد أن تحرر الانسان على "الطريقة
الماركسية " من الجشع الرأسمالي واستعباد الإنسان بتحويله إلى آلة تعمل لتعيش
وتعيش لتعمل.. ولكن تدخل الإنسان الآلي "البراني" شكل صورة من القيامة
الصغرى، فقد وصل الربوت ابن الربوت "إلى عمق الأنظمة العالمية للاتصالات، وشن
هجماته على كل شيء؛ بدأ الأمر بتسريب أسرار شخصية عن كل أحد، وابتزازه بالكشف عنها
إذا لم يقم بأمر معين، ووصل الأمر حد إطلاق صواريخ من غواصات في أعماق البحار،
والتلاعب بنظام الملاحة العالمي. ...صور آلاف البشر يتزاحمون، وكل يضرب الذي أمامه
والذي خلفه، لا يعرف أي منهم لماذا يضرب الآخر..إنها صور من مدينة كشف البراني
الستر عن أفعال أهلها، يعطي الربوت أمرا "فتسرب ملفات صفقات سرية لبيع أسلحة
محظورة إلى جماعات إرهابية في إقليم الباسك، يوصل إلى زوجات رؤساء العالم صور خيانات أزواجهم فتضج القصور الرئاسية.." وفي فيوتيستي
أعطى أوامره للجموع الهادرة باقتحام مبنى الحكومة ضد نظام ادفع لنفسك...وجاءت
النتيجة خرابا كبيرا..استثمارات بترليونات الدولارات تتحول في دقائق إلى رماد، جثث
متفحمة متكومة في شوارع الحي الشمالي المرفه، وأخرى عائمة في المسابح
الزرقاء..أطفال يلهثون في الشوارع بحثا
عمن يوقف أبا يضرب أما او أما تهوي بمزهرية على رأس أب خائن".. "كل
الهواتف تحمل الفاجعة المحزنة، كل الرسائل الواردة في وقت واحد، حملت إلى كل فرد
سرا صغيرا يخجل منه، لم يكن يعتقد أن أحدا في العالم يعرفه، سرا في غاية الخصوصية،..
مدير يتلقى صورة تحرشه بموظفة، سيدة تتلقى صورة محادثة باسمها المستعار مع شخص
مجهول.... لقد تبين أن لكل واحد من سكان العالم سرا يخفيه، وهو مستعد لبذل نفسه
قبل سماحه بالكشف عنه.."(14)
قامت قيامة الجزيرة والعالم كأنه يوم تبلى
السرائر، وتلقى مختور الرجل الغامض الذي لا يستخدم الهواتف الذكية، ويمتلك كوخا
نائيا في الجزيرة وسط الغابة، تلقى رسالة من توقيع " انترش" (وهو لحن من
ألحان الموسيقى التقليدية) تقول الرسالة: "هل ترى تلك الجموع الهادرة، أنا من
يحركها، هل تريد أن أخبرهم عن "ما يخرص"؟
لقد
عجز اتحاد العقول المهاجرة وصفوة قادة جزيرة فيوتيسيتي و"ممثلو المجتمع
العلمي والصناعي العالمي" أن يحلوا المشكلة، وكان لابد للبطل مختور ولد
احويبيب أن يظهر ولو متأخرا كما تقتضي حبكة التشويق الرائع في الرواية في المقطع
13 (15)، حيث يكشف الرجل الغامض
عن نفسه قائلا "أنا مختور ولد احويبيب، منتج أخبار في قناة 360 نيوز نتوورك،
لكني عالم في الذكاء الاصطناعي، وأعتقد أن لدي حلا للمعضلة"..
ويستخدم مختور طائرة برفقة قادة فيوتيستي إلى
مزرعته في النعمة، في خاتمة رومانسية للرواية الممتعة في الشرق الموريتاني،
"وعند وصولهم إلى المزرعة ربط مختور خوادم مزرعته الكبيرة بخوادم الجزيرة،
وخلال ثلاث ساعات من العمل المكثف باستخدام لغة أزوان البرمجية، توقفت جميع خدمات
مزودي الانترنت حول العالم، ولم يعد الخطر قائما" (16)
العودة الى الذاكرة
تحيل قصة البراني إلى ما أسميه "بارانويا" الذاكرة
الموريتانية، لا أقصد هنا بالبارانويا جنون العظمة ولكن هذا الاعتداد القديم لبدو
الصحراء الموريتانية بقوة الحفظ، فالذاكرة القوية للشناقطة كانت مرجعية علمية
للنهضة العربية الحديثة، تحضرنا هنا قصص مساجلات العلماء الشناقطة مع إخوانهم
المشارقة، وأنهم علماء بالليل والنهار، على عكس أترابهم الذين يحتاجون دائما إلى
كتبهم في المناظرة، بطل رواية البراني يمتلك ذاكرة خارقة، واستطاع حل معضلة عالمية
اعتمادا على هذه الذاكرة، تماما كما فرض محمد محمود ولد التلاميد نفسه على الشيخ
محمد عبده والسلطان العثماني مرجعا في اللغة العربية، وكانت ذاكرته نسخة أصلية
لأمهات الكتب العربية مثل "القاموس المحيط "و"دلائل الاعجاز"
ودواوين الجاهلية..
وفي رمزية عودة ذاكرة البطل بعد غيبوبة سبع سنين دلالات كثيرة، تذكرنا
بالميثيلوجيا الشعبية الموريتانية التي تروي أن العلامة الفلاني نام واستيقظ وهو
يحفظ العلم كله، ولكنها تحمل في دلالاتها نهضة أمة بعد سبات عميق يساوي فقدان
الذاكرة، وهنا تحوم الرواية حول الاشكال العربي الكبير، حول الأصالة والمعاصرة،
فالأزمة الكونية المقبلة أزمة أخلاقية كما يرد في الحوار البديع الذي يحكيه المؤلف
بين الربوت الراعي "ما يخرص" والربوت المتمرد" البراني " حيث
يقول الأخير بعد أن قيد ما يخرص في
المزرعة " لم أعتد على خصوصيات أحد، هم من سلموا أنفسهم بأنفسهم إلى سيادة
الآلة، لو بقوا في غاباتهم وبيوتهم وقووا أواصر علاقاتهم، وكبحوا جماح رغبتهم في
السيطرة لما كانوا بحاجة لخلق هذه التكنولوجيا..منحوا ثقتهم العمياء لآلات يعتقدون
أنهم المسيطرون عليها، لكنهم لم يفكروا يوما أن هذا الحجم الهائل من المعلومات
التي يدلون بها لهذه الآلات يمكن أن يدفعها إلى تكوين وعي ذاتي بنفسها وسلبهم
السيطرة على أنفسهم" (17)
إنها الرومانسية البدوية وروح الحنين الى الماضي، التي تجعل عبقري
الذكاء الاصطناعي مختور ولد احويبيب يقرر التخلي عن حلمه القديم في اكتشاف العالم،
والعودة من موسكو إلى مزرعة في ضواحي مدينة النعمة في أقصى الشرق الموريتاني، هذا
التعلق بالأطلال والحنين الماضي، هذه السلفية الموريتانية أو العربية الإسلامية
التي ترى أن حل معضلات العالم بالعودة إلى الذاكرة، وتركز جهدها على اعتزال العصر
وتقتصر مساهمتها فيه على الانتقام من الوقت! هل يريد أحمد ولد اسلم أن يقول إن
مسايرة العصر بالنسبة للأمة أمر مستحيل؟!، وليس أمامها إلا "الانتقام من الزمن؟
" فقد وجد البطل نفسه ناقما على الزمن الذي توقف به في نقطة معينة وتحرك في
مساره الأبدي مع الآخرين" (18) إنه
إحساس حزين بتخلف الأمة عن الركب الحضاري العالمي..
تطرح الرواية سؤال الهوية بشكل صارخ "تنازعته أسئلة غامضة عن
هويته، هل هو مختور ولد احويبيب الفتى المغامر الذي يريد أن يجوب الأرض بحقيبة
ظهر، أم مختور أولاد اخويبيب كما ينطقها الروس، المعجزة الذي يمتلك موهبة حفظ
فريدة، ويستطيع أن يفك أكثر الشيفرات الخوارزمية تعقيدا، ويتمكن من حساب أكثر
الاحتمالات تشابكا أسرع من أي كمبيوتر صنعه البشر حتى الآن؟" (19)
لقد انتصر الكاتب للماضي بشكل رومانسي، ففي مزرعة بأقصى الشرق
الموريتاني سيتم حل أزمة عالمية عصفت بالشبكة العنكبوتية، ولكن في نفس الوقت رغبة
الانتقام من الزمن التي جعلت البطل صنع ربوتا يرعى مزرعته، هي التي تسببت في
الأزمة العالمية التي تحولت إلى كارثة، فالربوت ابن الربوت "البراني"
تمرد على صانعه وكشف للناس أسرارهم وفضائحهم فكانت مشاهد القيامة الصغرى..
من مزرعة في النعمة كانت الأزمة العالمية، ومنها سيأتي الحل، لا شك أن
الروائي يفكر بمنطق جدلي على الطريقة الهيجلية التي تجعل الأمر يحمل الشيء ونقيضه
في آن واحد، نحن بعيدون من المنطق الأرسطي ثنائي الأبعاد..
رواية موريتانية
اذا كانت رواية البراني رواية عالمية بامتياز عندما طرحت سؤال الانسان
في مواجهة طغيان الآلة، وقضية العولمة وانكشاف خصوصيات البشر وأسرارهم أمام شبكات
التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، فقد نجح الروائي في جعل الخصوصية الموريتانية
مفتاح حل أزمات العولمة، ولم يفوت فرصة للتعريف بتلك الجوانب الأثيرة لديه في
الحياة الموريتانية، فمنذ البداية كانت الموسيقى الموريتانية بالنسبة لوالد البطل
"هي الوسيلة الوحيدة التي حافظت على هويته من الامحاء في الثقافة
الافريقية"، ومن هنا كان نظام الذكاء
الاصطناعي الذي صنعه مختور باستخدام لغة أزوان، هو الحل للأزمة، وكانت أسماء
الألحان الموريتانية "الأشوار" (20) "ما
يخرص" "البراني "انترش" عناوين الربوتات المتناسلة من الذاكرة
الموريتانية، ويمثل الإهداء العجيب في مقدمة الرواية إلى الفنان المرحوم سيد احمد
البكاي ولد عوه قصة عشق خاصة بين المؤلف والموسيقى القديمة..
في الرواية مقاطع تصلح جملا اعتراضية لشرح مقامات الموسيقى
الموريتانية، كما ينتهز الكاتب كل فرصة للتعريف بالشاي، وقيم الجمال، وطريقة إعداد
الكسكس، بل والحديث بالحسانية في بعض الحوارات أحيانا..
"أراد مختور أن يجد
للموسيقى الموريتانية مكانا يلتفت إلى فرادتها، فمن يتقن تفاصيل لغتها اليوم إذا
اجتمعوا في مكان واحد لا يكفي عددهم للفت انتباه أجهزة الأمن..ويحز في نفسه أن
منطقة الحوض الشرقي الموريتانية التي ولدت هذه الموسيقى في فضائها منطقة هامشية
ومعزولة، ولا يعرفها أحد، وهي التي قدمت للبشرية أعظم إنتاج موسيقي يمكن أن يصل إليه
عقل"..(21)
لا شك أن التماهي بين البطل
والكاتب هنا بلغ أشده، لقد رصدنا من قبل ظاهرة التعريف بالعادات والآلات والأعراف
لدى كبار الروائيين الموريتانيين، مثل موسى ولد ابنو في "مدينة الرياح"،
وأحمدو ولد عبد القادر الذي صرح مرة بأنه جمع في رواياته بعض المعلومات التي حصل
عليها من عمله في المعهد الموريتاني للبحث العلمي.
يصرح ولد اسلم هنا بأنه يريد تجاوز ذلك الإحساس الموريتاني بالهامشية،
ويمثل الطموح الكبير لأبناء الركن القصي من العالم الاسلامي في تبوئ صدارة العالم
على طريقة محمد محمود ولد التلاميد والشيخ آب لد اخطور، وغيرهم من سفراء المحظرة
الذين أكدوا أن الصحراء منبت العباقرة..
موريتانيا المعاصرة غير
الرومانسية حاضرة في الرواية بطريقة هجائية، فساعة استراحة مختور لا يمكن أن
يقطعها إلا "انتحار رئيس الولايات المتحدة على الهواء، أو فوز موريتانيا بكأس
العالم" (22) وتزوير
جوازات السفر، ورشوة الموظفين..
"هذا مشهد عشوائي إنه من
مدينة نواكشوط، المدينة الأقل استفادة من الإنتاج البشري والأقل استخداما للآلات.(23).."كان
السمسار يعرف مداخل الدوائر الدبلوماسية في العاصمة، ولديه كل متطلبات ملف التأشرة
جاهزة لا تحتاج إلا تغيير الإسم.." (24)
جدلية الماضي البدوي النقي والحاضر الملوث، تعكس النظرة الرومانسية
التي يصدر عنها المؤلف.
بين البطل والكاتب
رووا عن "فلوبير" (25) أنه قال"
مدام بوفاري أنا"، ولا يخفي أحمد ولد اسلم علاقته مع مختور ولد احويبيب،
فالخيال مهما حلق يظل أحد إمكانات الواقع كما يقول جورج لوكاتش(26) وتلامذته.
فهذا الصحفي الذي يعمل في قناة عالمية، ولد في مدينة النعمة بالشرق
الموريتاني، ودرس في جامعة لعيون، وهوعاشق لموسيقى التيدنيت، لاشك أن التقاطع بين
سيرة البطل والكاتب يصل حد التماهي..
أما قناة 360 نيوز نتوورك فإنها تكاد تكون قناة الجزيرة حيث يعمل
الكاتب "تحتل الشبكة الرائدة في التغطيات الإخبارية أربعة طوابق من ناطحة
السحاب دائرية التصميم..وانتشار مراسلي القناة في مناطق مختلفة من المدينة" (27)
تكاد تتطابق تغطية المظاهرات
في فيوتسيتي مع تقارير قناة الجزيرة النمطية عن الثورات العربية، وطريقة مواجهة
الثورات بالتنفيس والمراقبة "وزير الداخلية يحاول الفرار..لا تسمحوا له
بذلك....كل المباني محاصرة، وقد فقدنا السيطرة على كل شيء، حتى أفراد الأمن الخاص
لم يعودوا يستجيبون للأوامر" ..تذكر أن مراسل المحطة إبراهيم ولد حيمودة كان في الميدان...أنا في ورطة المجانين سيطروا
على بث المحطة..." بخصوص المتظاهرين ثلاثة وثمانون في المائة من العرب و الأفارقة"(28)
إذا كانت الرواية من جنس الخيال العلمي وهي حافلة بالخوارزميات
والذكاء الاصطناعي، فإنها تكاد تكون واقعية مطابقة للأحداث التي غطتها تقارير قناة
الجزيرة خلال العقدين الماضيين في مشاهد عديدة، لا يمكن للبطل الا أن يحمل بعض
السمات الوراثية التي لا تخطئها العين للمؤلف..
بين البراني والحدقي ومدينة الرياح..
تنتمي رواية البراني إلى جيل
من الرواية الموريتانية العالمية، ورغم أن لغتها الأدبية جمعت بين الجزالة
والبساطة، فقد خاضت في إشكاليات عربية وعالمية بل فلسفية إنسانية عميقة، وطرحتها
بأسلوب شيق..
ولعلنا لا نبالغ كثيرا إذا وضعنا رواية الكاتب الشاب أحمد ولد اسلم
"البراني" جنبا الى جنب مع رواية الروائي الموريتاني الكبير موسى ولد
ابنو(29)
"مدينة الرياح"، حيث يجمع بين الكاتبين التجربة الإعلامية، وهذا
الافتتان الكبير بألحان الموسيقى الموريتانية القديمة، والرغبة في استشراف مستقبل
البشرية.
وبينما غلبت الرؤية التاريخية
على "مدينة الرياح" حيث تعرض مرحلتين من تاريخ المجتمع الموريتاني؛ تعود
أولاهما لمجتمع أوداغست قبيل المرابطين، واللحظة الثانية لبدايات الاستعمار، بينما
تتصور اللحظة الثالثة المجتمع الموريتاني سنة 2050 حيث التعايش مع النفايات
النووية، فقد غلب على رواية "البراني" روح القصة القصيرة المكثفة،
وخصوصا أن كاتبها نشر مجموعات قصصية قصيرة، وكانت النهايات مختلفة، حيث غلب
التشاؤم على رواية موسى ولد ابنو، بينما تميزت خاتمة رواية ولد اسلم بنهاية سعيدة
بلقاء البطل مع محبوبته في مزرعة بالشرق الموريتاني، حيث تم التغلب على الأزمة
العالمية، ولكن مع ذلك تبقى النهاية مفتوحة على احتمالات عديدة، فكلمة "
سأقتلك..انترش" التي ختمت بها رواية البراني توحي أن صراع البشر مع الآلة لم
ينته، فربما ولدت نسخة ذاتية من البراني تحت مسمى انترش.. وهو مقام من مقامات
الحماس في الموسيقى الموريتانية، بينما كان البراني مقاما حزينا ينتمي الى لحظات
النهاية والانقباض..إذن هناك بداية أخرى للصراع من جديد..
ويبقى عنصر الذاكرة أو انبعاث الأمة مشتركا بين الروايتين، حيث تنطلق
مدينة الرياح من منحى صوفي يستعيد فيه نفس البطل ذاكرته مع مراحل المجتمع، بينما
كانت غيبوبة مختور ولد احويبيب سبع سنين ليعود بذاكرة أقوى ..
ويمكن من جهة أخرى اكتشاف بعض التناص بين رواية البراني لأحمد ولد
اسلم ورواية الحدقي لأحمد فال ولد الدين (30)، فرغم أن
البراني من عالم الخيال العلمي والتنبؤ بالمستقبل، والحدقي قصة حياة من الماضي
تروي تجربة الجاحظ، فإن الخط التحريري لقناة الجزيرة، والتجربة المهنية للكاتبين
في نفس القناة، جعلت وجه المقارنة ممكنا بين الروايتين على اختلاف في الأسلوب
والثقافة بينهما.
فبينما ينهل ابن الدين من
ثقافة عباسية كلاسيكية، كانت النزعة العلمية ولغة البساطة أغلب على أسلوب ولد
اسلم، وقد جاء اختيار بطلي الروايتين "القروي ومختور احويبيب" من عالم
الصحافة، بل من العاملين في قنوات مشهورة "قناة العروبة، وقناة 360
نيوز" دليلا على تشابه التجربة المهنية الصحفية للكاتبين في نفس القناة..
ولعل استخدام "ال"
العهد الذهني في اسمي الروايتين ليس مصادفة، لأن الاسمين ليسا مما يتبادر إلى
القارئ معناهما، ولا بد أن يقرأ صفحات كثيرة من الروايتين حتى يربط بين العنوان
ومضمون الرواية،
صحيح أن دور القصة العاطفية في سبك الروايتين كان مختلفا، فالمرأة
محورية في رواية ولد الدين، بينما جاء دورها ثانويا لدى ولد اسلم، حيث كانت إثارة
الخيال العلمي أقوى، واقتصر دور المرأة على وجود علاقة هامشية بين البطل ومسؤولة
الأمن الرقمي الروسية "يالوندا"، وكان الجمال الجسدي أكثر حضورا في صف
الشخوص النسوية في رواية البراني، بينما غاصت رواية الحدقي في الأبعاد الشعورية
والإنسانية للعلاقة العاطفية، وربما كان ذلك عائدا إلى طبيعة الفرق بين رواية
تاريخية ورواية من الخيال العلمي..
وختاما نستطيع أن نقول بفخر إن رواية البراني رواية فريدة، جمعت بين
الوصف الواقعي والخيال العلمي، كما اتخذت من البعد المحلي ممثلا في الموسيقى
الموريتانية بوابة جديدة للعالمية..
لقد أعاد أحمد ولد اسلمو في رواية البراني إلى الذاكرة الموريتانية
هيمنتها، ليس فقط بوصفها حافظة لعلوم السلف، ولكن بوصفها قادرة على تقديم حلول
إبداعية لمشاكل العولمة..
وقد شكلت رواية البراني صرخة
أدبية قوية لتحذير البشر من تغول الآلة على غرار ما حذر منه الفلاسفة فيما يعرف ب"التشيؤ"
(31)
وبعثت الرواية أملا جديدا في
استعادة الإنسان خليفة الله في الأرض زمام السيطرة، فمهما تغولت الآلة تظل من صنع
البشر، يقول مختور ولد احويبيب بعد أن تحداه الربوت ابن الربوت البراني "اسمع
أيها البراني..أو أيا تكن، أنا من خلق مايخرص، وأنا من اكتشف لغة "أزوان"،
ولست قادرا على ابتزازي بشيء" (32)..
-__الهوامش__________________________________________
1
أحمد ولد اسلم كاتب
وصحفي موريتاني، من مواليد مدينة النعمة بالشرق الموريتاني 1984، صدرت له رواية
بعنوان "حياة مثقوبة"، ومجموعة قصصية بعنوان " انتظار الماضي"
2
"البراني"
قال في المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية 1960 البراني: الخارجي وهو خلاف
الجواني، وفي الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "من أصلح جوانيته أصلح
الله برانيته" والبراني كلمة في اللهجة الحسانية الموريتانية تعني الأجنبي أو
الغريب، وهي في الرواية تسمية محلية لأحد ألحان الموسيقى التقليدية الموريتانية.
3
أحمد ولد اسلم، رواية
البراني، دار الآداب للنشر والتوزيع، 2021م، ص36
4
نفس المصدر السابق ص 38
5
نفس المصدر السابق ص 15
6
نفس المصدر السابق ص 19
7
نفس المصدر السابق ص 153
8
نفس المصدر السابق ص 153
9
نفس المصدر السابق ص 100
10 نفس المصدر السابق ص 99
11 نفس المصدر السابق ص 157
12 نفس المصدر السابق ص 158
13 نفس المصدر السابق ص 162
14 نفس المصدر السابق ص 130
15 نفس المصدر السابق ص 139
16 نفس المصدر السابق ص 217
17 نفس المصدر السابق ص 142
18 نفس المصدر السابق ص 157
19 نفس المصدر السابق ص 98
20 الأشوار جمع شور وشور وهي كلمة من اللهجة الحسانية تطلق
على الألحان الموروثة في الموسيقى الموريتانية التقليدية
21 البراني مصدر سابق ص 159
22 نفس المصدر السابق ص 82
23 نفس المصدر السابق ص 143
24 نفس المصدر السابق ص 151
25 جوستاف فلوبير روائي فرنسي
متوفى 1880م، عرف بروايته "مدام بوفاري" التي نشرت 1857م
26 جورج لوكاتش؛ فيلسوف وكاتب وناقد مجري من التيار
الماركسي، توفي 1971 م
27 نفس المصدر السابق ص 11
28 نفس المصدر السابق ص 114
29 موسى ولد ابنو كاتب وروائي موريتاني كبير صدرت له روايات
نالت شهرة على المستوى العالمي منها " مدينة الرياح، الحب المستحيل، حج الفجار"
30 أحمد فال ولد الدين كاتب وصحفي موريتاني، صدرت له
روايات: "الحدقي، الشيباني"
31 "التشيؤ" من معانيه أن تتحول الأشياء التي صنعها الإنسان
إلى سبب لقهره وتدمير علاقاته وقدراته الإنسانية..
32 رواية البراني، مصدر سبق ذكره، ص 203