Translate

الثلاثاء، 23 يوليو 2024

كيف نخرج من دوامة الانقلابات؟

 

كيف نخرج من دوامة الانقلابات؟

الدكتور محمد المحجوب ولد بيه في كتابه الجديد "موريتانيا  بين التاريخ والذاكرة"..

 

قراءة محمد محمود ولد سيد يحي

 

صدر حديثا عن دار جسورعبد العزيز كتاب "موريتانيا بين التاريخ والذاكرة، 1944- 1989م للدكتور الوزير والسفير السابق محمد المحجوب ولد محمد المختار ولد بيه

 والكتاب يروي بشكل شيق على مدى 552 صفحة بخط واضح وحجم متوسط قصة تجربة مثيرة لمساهمة مثقف موريتاني تعايشت في شخصه قيم الصوفية مع مثاليات  الفكر القومي والأممي في صناعة أحداث محورية في تاريخ موريتانيا المعاصر..

 

سادس ستة

معلومات مثيرة تنشر لأول مرة عن انقلاب العاشر من يوليو، فالمؤلف سادس ستة هم النواة الأولى التي خططت لذلك الحدث الفارق في تاريخ الدولة الموريتانية الوليدة..

نتعرف عن قرب من خلال الكتاب على شخصيتين كان لهما دورهما المحوري؛ هما الرائد جدو ولد السالك، وسيد أحمد ولد ابنيجارة، ويكتب المؤلف تحت عنوان "جدو ليس انقلابيا"  "يردد البعض أن الرائد جدو كان يفكر في القيام بانقلاب منذ كان تلميذا،  والذي أعرفه أنني شخصيا لم أسمع منه ذلك ..ولا أظن أن شخصا شجاعا كجدو يفكر في دخول الجيش ليكون انقلابيا، فشهامته الشخصية تأبى هذا، كما يأباه نبل مهام الجيش وعقيدته في الدفاع عن الأوطان..وأعتقد أن الظروف هي التي أملت على جدو ومن معه ضرورة إنقاذ البلاد ولو بانقلاب" ص 136

ومع أن المؤلف من باب الموضوعية لا يرى في العاشر من يوليو ثورة بل هو انقلاب، الا أنه حدث تاريخي هام لم تعرف له البلاد نظيرا، ص 120

 وأسباب العاشر يوليو كانت وجيهة في نظر المؤلف، فالبلد كان يعيش انهيارا شاملا، ساد الذعر بعد أن وصلت هجمات الصحراويين جل مدنه ..وعم الرعب وكسدت التجارة وتآكل احتياطي البنك المركزي من العملات الصعبة، وتوقفت المشاريع الوطنية الناشئة...بل وبدأ التفكير جديا في التوقف عن متابعة إصدار العملة، وكانت معنويات الإدارة في الحضيض..

كتب يحي ولد عبدي مدير الأمن الوطني أن الجهات الأمنية رصدت مؤشرات كثيرة، وكانت تبلغ بها النظام دون تفاعل، مما جعله يتساءل إذا كان الرئيس المختار يفضل أن يقع الانقلاب؟! ص 131

لقد خطط  حملة العاشر من يوليو باحكام لمشروع الانقلاب، وتسارعت خطواته بعد تبني العقيد المصطفى ولد محمد السالم قائد الأركان الوطنية له وتحمله  مسؤوليته فيه بكل شجاعة.

وقد لعب الدكتور المحجوب دورا بارزا حيث كان عليه غداة الانقلاب أن يعمل، نظرا لعلاقته الحميمة مع جبهة البوليساريو والجزائر، على إيقاف العمليات العسكرية مع موريتانيا، "لأن الضباط والجنود لا تسمح لهم كرامتهم بإدارة ظهورهم للرصاص حتى ولو كان من الأشقاء"، حسب تعبير الرائد جدو، ص 148

وغداة الانقلاب كان المحجوب بن بيه في باريس يقدم صورة الانقلاب للإعلام العالمي،  معرفا الانقلابيين بأنهم "ضباط وطنيون لا ينتمون سياسيا إلى أي حزب،  وهم ليبراليون حسب تكوينهم، ومن خريجي المدارس العسكرية الفرنسية، ومدعومون من عناصر مدنية بعضها يتولى مناصب عالية في النظام المطاح به، والهدف هو انتشال الوطن من براثن حرب الأشقاء، وانقاذ الاقتصاد الوطني من تأثيرات الحرب والجفاف، وإقامة نظام ديمقراطي "ص 153

 

انقلاب على الانقلاب

ولكن انقلابا تم على الانقلاب منذ البداية، لأن الضابط الذي كان أول من فكر في الانقلاب وخطط له واجتذب له زملاءه، وهو جدو ولد السالك وضع في الصف الثاني من القيادة في لجنة الإنقاذ، فعطل ذلك ماكان لديه وصحبه المقربين من خطط إصلاحية طموحة، ص160

ويلتمس المؤلف  العذر للرئيس المصطفى ولد محمد السالك بأن دافعه في إبعاد جدو هو حرصه على الانضباط العسكري ومشاركة الضباط في السلطة حسب الرتب مما كان له الأثر الإيجابي..

ويخلص المؤلف إلى أن العاشر من يوليو لم يكن خيارا بل كان ضرورة حتمية،  وأن قرار الحرب هو الذي شكل نكوصا عما تم إنجازه من قبل ولد داداه قبل 1975 من إصلاحات وطنية،  ص 171

 "ومن الإنصاف عدم أخذ أهل العاشر يوليو أو الحركات السياسية من ديمقراطيين أو بعثيين أو ناصريين أو إسلاميين أو من يتعاطف معهم بأخطاء الأنظمة التي تعاقبت على الحكم، لأن هذه التنظيمات لم تحكم موريتانيا أبدا بعد العاشر من يوليو كما يروج لذلك بعض الناس، لقد كان التأثير على رؤسائنا العسكريين في بعض المراحل يأتي أساسا من بعض الضباط متوسطي الرتب، ثم في مرحلة تالية بعض أفراد القبيلة، ثم يشكل هؤلاء وأولئك حلقة حول الرئيس ويبعدونه عن نظرائه من كبار الضباط بزرع الشكوك حولهم، ويحذرونه من أي مدني يحمل فكرة أو فكرا، وعندما تتم عزلته وتتفاقم  الأخطاء وتتدهور الأوضاع في كل الميادين ينقض عليه بعض نظرائه وتنطلق المظاهرات المؤيدة للتغيير...

ان مجموعة العاشر يوليو حضرت الانقلاب ونفذته لأسباب وطنية، وساهمت في الأنظمة العسكرية وشبه المدنية المتعاقبة،  ولكن القرار السياسي لم يكن يوما بيدها، لقد تفرقت هذه المجموعة بعيد الانقلاب، ولم يبق يجمعها إلا علاقات شخصية بين بعض أعضائها،  ص172

شكل انقلاب أحمد ولد بوسيف 6 أبريل  1979 ضربة للمجموعة المؤسسة التي كانت تحضرمع الرئيس المصطفى ولد محمد السالك لإنشاء مؤسسات دستورية مدنية..

وجاء في نص بيان اللجنة العسكرية للخلاص الوطني "أن القوات المسلحة ارتكبت خطأ مقاسمة السلطة إن لم يكن الأمر  يعني أكثر من المقاسمة مع سياسيين قدماء وشبان مثاليين، وما لبثت عيوب أولئك وعدم تجربة هؤلاء أن انحرفت بالسلطة عن هدفها الأساسي ...وبعد تحليل معمق فإن القوات المسلحة ستمارس السلطة ابتداء من الآن وبصورة فعلية" ص 177

بالنسبة للدكتور المحجوب لم يكن ولد بوسيف رغم أنه جاء من محور "دكار/ باريس/ الرباط" شخصا عاديا، كان ينظر إلى قامته الفارغة ومشيته بخطوات الليث مترسما سمات جمال عبد الناصر، ويختلف المؤلف مع رفاقه الكادحين والبعثيين الذين ظنوا أن المرحوم  أحمد ولد بوسيف كان سيعيد النظام السابق، لأنه ليس من عادة من يستولون على الحكم تسليمه لغيرهم، وخصوصا أن هذا النجم الساطع" كان يرى الرئاسة جاءته تجر أذيالها، وأنها لم تك تصلح إلا له وأنه لم يك يصلح إلا لها،   ص 190

وكان المؤلف يتوقع أن ولد بوسيف لن يعود للحرب، وسيعيد التحالف مع جدو والنواة العسكرية والمدنية للعاشر من يوليو، ولكنه غادر المشهد سريعا في حادث الطائرة الأليم..

وفي خضم معارضة البعثيين والكادحين النظام أنشأ المؤلف ورفاقه حركة التحرير الموريتاني "حتم"،  التي فكرت في بعض المراحل في حمل السلاح، وهنا يوجه الدكتور المحجوب نصيحة تحت عنوان "التاريخ من أجل المستقبل" أن على أي نظام يريد أن يجنب بلاده مخاطر قد تعصف بها أن يبتعد عن الإقصاء أيا كان شكله، بل عليه أن يكون منفتحا ومنصفا وعادلا وحتى محسنا..لأن إقصاء فئة اجتماعية أو مجموعة سياسية يولد الجفاء والخوف مما يسبب الحقد والعنف والمغامرات التي قد تضر صاحبها ووطنه وأمته " ص 201

ولايكون ذلك إلا بممارسة صادقة وفعلية للديموقراطية أو الشورى أو أي اسم آخر يحمل تلك المضامين، ص 202

ولو أن مجموعة العاشر من يوليو أخذت الأمور من أول يوم بجدية، ومارست النقد الذاتي، وتجاوزت خلافاتها وما ارتكبته من أخطاء في الليلة الأولى للانقلاب وما بعدها، وضبطت أمرها لما حدث ما حدث من انقلابات، ص 203

 

المفاوضات مع البوليساريو

يعرض الكتاب بتفصيل لمفاوضات موريتانيا والبوليساريو والتي كان المحجوب ولد بيه المكلف بمهمة برئاسة الدولة مهندسها منذ البداية، وشهدت توترات ومنعرجات عدة في باريس والجزائر وباماكو ونواكشوط،  وانتهت بتوقيع اتفاقية سلام من طرف وفد برئاسة المقدم أحمد سالم ولد سيدي 5 أغسطس 1979، وهي المرة الوحيدة التي كان فيها محمد المحجوب ولد بيه غائبا عن المفاوضات،  حيث كان رأيه أن يشهد المجتمع الدولي على الاتفاق ..

وهنا يسطر المؤلف شهادة بحق الرئيس هيدالة، فقد كان شديد الحرص على السلام،  ومن عرفه عن قرب يعرف أنه رجل وطني شهم قوي غير قبلي ولا فئوي،  وهو نزيه متواضع يخشى الله،  سريع العودة عن الخطأ إذا تنبه أونبه، ويحب الدين وأهله... قام محمد خونه باصلاحات بالغة الصعوبة تحتاج إلى الشجاعة والتضحية؛ كالاصلاح العقاري، وإصدار القوانين المترتبة عليه، كما أصدر أمرا قانونيا بإلغاء الرق 1981..ودخل معارك من أجل إصلاح قطاعي الصيد والتصنيع، وحفر الآبار في كافة أرجاء البلاد،  كما أسس جامعة نواكشوط في ظروف صعبة، وأنجز مشروع التلفزة الموريتانية.. ص 335

ويخلص مهندس ملف الصحراء إلى أن على بلادنا أن تلعب دورا إيجابيا في قضية الصحراء، لأن الحياد الإيجابي لا يعني الانكفاء والاعتزال والانخزال، ويقترح أن تكون البلاد فريقا من العلماء والخبراء في مختلف التخصصات، ويتم تزويدهم بمختلف المعلومات، وأن تصيغ هذه   النخبة استراتيجية استشراف ليكون ذلك بمثابة دليل عمل إرشادي لصناع القرار، ولتكوين أجيال جديدة من الإطارات الأكفاء، ص 338

 ويعرض الكاتب لتجربته سفيرا في العراق  1980 والإعجاب الكبير بصدام حسين، رغم قناعته أن الحرب التي جر إليها مع إيران كانت بهدف استنزاف البلدين واجهاض المشاريع النهضوية في المنطقة بكل الأساليب، ص 357

 

حكومة ولد ابنيجارة

 وعندما قررت اللجنة العسكرية بقيادة هيدالة الوفاء  بوعود العاشر يوليو بإقامة حكم مدني اختير سيد أحمد ولد ابنيجارة وزيرا أول، وهوالذي أصر على أن يكون محمد المحجوب ولد بية مديرا لديوانه ديسمبر 1980،

ورغم تمنعه، فقد قبل مع زميله القديم ماسماه "مغامرة من أجل موريتانيا"،

 كانت فترة قصيرة مشحونة بالصعوبات والضغوط، وكانت لقاءات الأطر متواصلة لدراسة الأوضاع وتحليلها وإعطاء تصورات واقتراحات تساعد أصحاب القرار، وكان بعض الوزراء غير متحمسين،  ويسترسل المؤلف: قلت ان علينا تشجيع الضباط المتنورين والمساهمة معهم في إعادة مؤسسات الدولة والسلطة إلى الحياة المدنية كما أسهمنا معهم في توقيف الحرب،  ص 376

وكان شيخن ولد محمد لقظف، هذا الرجل النبيل المجرب الهادئ،  ينصح بالتعجيل بإقامة المؤسسات الديمقراطية قبل فوات الأوان، وذلك بتنظيم انتخابات بلدية وتشريعية ورئاسية دون تأخير، وكان البعض يتخوف من سيطرة القوى التقليدية كما وقع لاحقا مع "ديمقراطية لا بول"، حيث هيمنت القوى التقليدية وأصبحت أداة النظام التي ألبست الحكم الفردي لبوس الديمقراطية، وعلل اعل ولد محمد فال لاحقا الأمر أنهم وجدوا القوى الأخرى مجرد عائلات سياسية صغيرة، ضعيفة التمثيل وبطيئة في تعاملها" ص 377

لقد كانت حكومة ولد ابنبجارة قوسا قصيرا فاجأته محاولة انقلاب 16 مارس 1981 الدموية ..

حيث حاول أحمد سالم ولد سيدي ومحمد ولد اباه ولد عبد القادر على رأس كوماندوس انتحاري، كما وصفه بيان الحكومة، حاولا الاستيلاء على السلطة بأوامر من المغرب للإطاحة بالنظام الوطني، ص 385

وكان موقف المؤلف هو الابتعاد عن الشماتة، بل لو كان له رأي لأشار بالحوار بدل الحصار..واختار أن لا ينجر مع المندفعين، و أن يعمل مع الخيرين في الدولة من أجل الوئام الاجتماعي والوحدة الوطنية، ص 395

وبالإنهاء المبكر لتجربة الحكم المدني فاتت على موريتانيا فرصة القطيعة مع الانقلابات..ولعل من أسباب تراجع الجيش عن تلك التجربة ، في نظر المؤلف، أن هذا المشروع لم يحظ بالتحضير الكافي لا داخل الجيش ولا خارجه، ولم يعبأ حوله الرأي العام الوطني لدعمه ومواكبته وحمايته ..

 ويسترسل المؤلف قائلا "والحقيقة أن القوات المسلحة لا أمل في خروجها من السياسة مالم تتحقق شروط ذلك، ومن تلك الشروط أن يكون قادتها أقوياء أمناء ذوي مستويات فكرية عالية، ومنها أن يوضع تحت يدها من الموارد ما يضمن لمنتسبيها مستوى معيشيا كريما يمكنهم من القيام بمهامهم الوطنية،  ص 398

 

وزير المياه في مواجهة الجفاف

بعد القوس المدني تم تعيين محمد المحجوب ولد بيه يوم 25 ابريل 1981 وزيرا للمياه والإسكان، في فترة تميزت بالجفاف والهجرة من البوادي إلى الريف، ويروي الرجل تجربة عمل لا يكل في حفر الآبار الارتوازية وزيارات ميدانية مرفوقا بالفنيين وآلات الحفر، وساهم الدعم العربي العراقي والكويتي والسعودي والجزائري في دعم حكومة ولد هيدالة، وكان الفريق الفني بدءا بالأمين العام ببها ولد أحمد يورة عونا كبيرا في تحقيق إنجازات هامة، مثل توسعة 45 كلمترا من أنابيب المياه بنواكشوط،  و200 تدخل سريع يومها مثل حفر 36 بئرا في الترارزة، وسقاية كيفة من اتيسان، وتمبدغة وكثير من المدن والأرياف، كما تم بناء الكثير من المدارس..

وفي تمبدغة مسقط رأسه يقف محمد المحجوب  بعد غياب طويل متمثلا كلام جمال عبد الناصر بعد عودته لقريته قائلا " أنا دون حقائب محملة بالهدايا ولا أحمل الدراريع، ولكني فخور بزيارتكم رفقة وفد عربي من بلاد الرافدين، ص 446

ويخلص المؤلف بتواضع إلى أن ما أنجز مجرد لبنات في قطاع من قطاعات الدولة،  ولا نشك في أنه لا يشكل اليوم "نقطة في جنب ثور"..ولكن الهدف أن يعلم كل جيل أن الحضارة تبنى بالتراكم ..ورغم ما تعانيه بلادنا من تخلف أو نقص في جميع المجالات، وما أعرفه فينا كمجتمع من ضعف وتقصير، فإنني راض عن المسار العام لبلادنا،  وأرجو لها دوام التقدم، وأنا  سعيد لأننا  نشرب ماء نهر صنهاجة في نواكشوط..وها نحن نشرب ماء بحيرة أظهر بتمبدغة،  ص 463

 

التخوين والوشايات والتدخل الأجنبي

 لم تلبث البلاد أن سادتها الاعتقالات  والتخوين، يذكر أن القوى الخارجية التي حاولت مرات الإطاحة بالنظام ولم تفلح، استنتجت أنه لا يمكن الإطاحة به إلا من داخله،  وأخذت تعمل من أجل تفكيك حلف هيدالة ولد الطايع بالترويج  أن ولد هيدالة يؤثر الضباط متوسطي الرتب على كبار الضباط مما يغيظ رئيس الوزراء وضباطا آخرين، ص470

وطغت الشكوك حتى أن تقريرا صريحا في مجلس الوزراء عن مشاكل المياه اعتبر انتقاصا من أداء الحكومة، وفي غمرة الأداء تمت إقالة محمد المحجوب أغشت 1983، وكانت خيبة أمله كبيرة، يقول "خيل إلي أن الأوراق وما تحمله من آمال طارت بها عاصفة فجأة من فوق المكتب...و كما عبر أحد وجهاء تمبدغة لولد هيدالة: "نحن في حيرة لأننا ما أن يصبح أحد أبنائنا وزيرا ويبدأ مرحلة العطاء وتحقيق إنجازات ملموسة للدولة ولنا إلا وتفاجأنا  باقالته..ص 473

لقد كان للوشاية دورها

كان ما يسمى حلف باريس/ الرباط/ دكار لابد له، دون ضرر كبير بالبلاد، أن يطيح بولد هيدالة، فهناك ما يشبه الثأر منه..

يقول المؤلف "أعتقد أن تلك الفترة تحتاج إلى مؤرخ يتتبعها ليكشف أسرارها،  فالتاريخ يبدأ حيث تنتهي السياسة..والفائدة من ذلك أن تحذر بلادنا من تكرار التدخل الأجنبي في شؤونها، فقد يتطور من دعم شخصيات لتحل محل شخصيات أخرى إلى دعم مجموعة عرقية أو جهوية أو فئوية أو قبلية ضد أخرى، وشاهدنا التأثير المدمر لذلك في بعض الدول العربية والافريقية، وعلى أهل هذا البلد أن يكونوا حذرين وأن يحلوا مشاكلهم بالانفتاح والانصاف والعدالة،   ص 477

 

كيف نخرج من دوامة الانقلابات؟

يقول المؤلف "لعل المؤرخ المنتظر يلخص لنا كتابه بنداء المشفق "يا أهل موريتانيا انتبهوا قبل فوات الأوان، واستبينوا الرشد قبل أن لا ينفع  رشد،  وإياكم أن تكونوا كاصحاب دريد بن الصمة:

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

ص 478

وفي خاتمة الكتاب تحت عنوان "تأملات" يقول الكاتب: "من المفيد أن نعرف الأسباب التي كانت وراء الأحداث الكبرى في بلادنا، لماذا لجأ بعض رجالنا السياسيين إلى الخارج في الخمسينيات من القرن الماضي في ظرف سياسي مصيري؟  ولماذا حرب الصحراء؟ ولماذا 10 يوليو؟ ولماذا 16 مارس؟ ولماذا أحداث ابريل سنة 1989؟ ولماذا حل مجلس الشيوخ 2017 ولماذا؟ ولماذا؟

ويجيب "أعتقد أن أهم الأسباب الكامنة وراء هذه الأحداث وغيرها اثنان: نزوع قيادتنا التي تصل إلى قمة هرم السلطة التنفيذية إلى الانفراد بالحكم، والتدخل الخارجي الذي يشجع كل خلافات داخلية موريتانية، ص 493

لقد درج الرؤساء عندنا على عدم مشاركة القوى السياسية المنظمة في اتخاذ قرارات السياسة العامة بشكل جاد مهما كان قربها منهم، يستوي في ذلك الحليف السياسي  والحزب الحاكم أو المحكوم باسمه، لأنهم لم يصلوا إلى السلطة من رحمه بل هو جهاز كونوه من داخل السلطة للدفاع عن سياستهم وتنفيذ قراراتهم..وأنظمتنا السياسية لا تمارس غالبا فن النقاش والحوار بجدية ونزاهة،  ص 495

 

التاريخ الملتزم

يعتبر كتاب الدكتور محمد المحجوب ولد بيه "موريتانيا بين التاريخ والذاكرة" إضافة هامة للمكتبة الموريتاتية، وهو رغم كونه عملا يقع في المسافة ما بين  التاريخ والمذكرات إلا أنه رجع في مرات عديدة إلى المذكرات التي كتبت قبله، وخصوصا مذكرات الرئيس المختار ولد داداه، وولد هيدالة، ومحمد عالي شريف، ويحي ولدعبدي..كما فيه إحالة لمذكرات سينغور والملك الحسن الثاني..

والكتاب مرجع غني بالوثائق الأصلية  لجولات المحادثات الموريتانية مع البوليزاريو والملاحق والبيانات والمناشير والصور..

ورغم أن الكتاب ينتمي إلى ما يسميه المؤلف ب"التاريخ الملتزم" أو "التاريخ من أجل المستقبل" فإن الشخصية الأكاديمية للمؤلف ونظرته الإنسانية طبعت الكتاب بروح موضوعية ركزت على الاعتراف بالأخطاء، وتقديم صورة إيجابية ثمثل الوجه الآخر لشخصيات وطنية عديدة؛ مثل أحمد ولد داداه وأحمد سالم ولد سيدي وغيرهم، كما يرسم المؤلف صورة مقربة لشخصيات عربية عايشها الرجل مثل صدام حسين، وهواري أبو مدين، والملك خالد ولد عبد العزيز، و قادة جبهة البوليساريو..

والكتاب غني باللوحات المعبرة عن البيئة الاجتماعية، والطبيعية، والنكت، والأشعار الشعبية، والفصيحة، التي تعبر عن تلك المرحلة..

وهو علاوة على ذلك مليء بالعبر والتحليلات، حيث لا يخفي المؤلف إعجابه بكل من ابن خلدون، والكواكبي، ومالك بن نبي...

وإذا كان الكتاب في جانب كبير منه تكملة لمذكرات المؤلف عن فترة الشباب التي نشرها قبل سنوات بعنوان "أتذكر"،  فإنه يشكل إضافة هامة لسيل المذكرات الذي عرفته البلاد خلال العقد الماضي لشخصيات من جيل التأسيس، مثل المختار ولد داداه، ومحمد خون ولد هيدالة، ومحمد عالي شريف، ويحي ولد منكوس، ومحمد المختار ولد اباه، وأحمد كلي ولد الشيخ سيديا..

ورغم أن الأحداث التي يتناولها الكتاب مازالت حية، وبعض شخوصها فاعلون في المشهد، فإن من حقنا أن نحلم بدراسة أكاديمية مقارنة لهذه المذكرات للخروج بقراءة موضوعية للأحداث،  كمافعل الراحل"بيير بونت" عندما قدم دراسة انتربولوجية بناء على مقارنة روايات الأصول البيظانية..

ومع ذلك فإن كتاب محمد المحجوب ولد بيه يعتبر إضافة نوعية، جاءت في وقتها، لتؤكد أن موريتانيا اليوم وهي مقبلة على "مأمورية الشباب" بحاجة لاطار فكري أو تشاوري يجعلها تستفيد من حكمة الكهول..

لأن الخلاصة التي توصل لها الدكتور المحجوب هي أن البلاد بخير ما دامت تعتمد التشاور والحوار والتنوع في الآراء، والشر كل الشر في الأحادية والانغلاق والانفراد بالرأي..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الجمعة، 17 مايو 2024

أي تشريعات لأية امرأة موريتانية؟

 

 

محمد محمود ولد سيد يحي/ خبير اجتماعي

 

تعاني مقاربة ترقية وتحرير المرأة في العالم من أخطاء شنيعة نابعة من اعتمادها على سياسات وحلول نمطية جاهزة، ونحاول في هذه الورقة أن نوضح الخصوصية الاجتماعية لمكانة المرأة الموريتانية الناطقة بالحسانية، مقارنة بالمرأة العربية والإسلامية عموما، وذلك لكي نرتب عليها اقتراحا لأولويات تشريعية ومؤسسية مناسبة..

 يقول عالم الاجتماع الفرنسي الكبير بيير بورديو في كتابه الشهير "الهيمنة الذكورية" إن مكانة المرأة في المجتمعات المتوسطية تحكمها عقلية هيمنة المذكر على المؤنث، وهي هيمنة أصبحت لا شعورا جمعيا، ورأسمالا رمزيا راسخا في ثقافات المنطقة، ومن خلال دراسته لنموذج المرأة القبائلية، يصل بورديو إلى أن الهيمنة الذكورية ترسخت في "الهابتوس" السجية عبر اللغة والنظرة الشاملة إلى نظام الكون والأشياء، ومن هنا فإن المؤنث هو الرخو والسلبي الضعيف، والمذكر هو الصلب الإيجابي الذي يرمز إلى القوة (1)، وحتى بعد النهضة الغربية المعاصرة وتيارات النسوية وحقوق الإنسان، فإن هذه العقلية ما زالت تحشر المرأة في الأعمال التابعة، وتقدم الصورة النمطية للمرأة السلعة رمز الإعلان والاستهلاك، والمرأة السكرتيرة مثلا، بينما تظهر نادرا في صورة المديرة والقائدة..

 ومن هنا فقد خلصت "مارغريت ميد" التي أرادت في دراستها عن "المراهقة في ساموا" أن توضح أن المجتمع هو من يصنع الفوارق بين الجنسين، وخلصت بعد فترة الى "أن النساء أقل شأنا من الرجال في أي مجتمع معروف، أما البحث عن ثقافة ذات مساواة حقيقية بين الجنسين، ناهيك عن المجتمع الأمومي فقد برهن على أنه لا طائل من ورائه (2)

 وبينما يعتقد مؤسس علم الاجتماع الفرنسي المعاصر أميل دوركيم في كتابه "تقسيم العمل الاجتماعي" أن أول تقسيم عمل ساد في المجتمعات البدائية كان هو التمييز بين الرجال والنساء والكبار والصغار، فإن زعيم التيار الراديكالي في علم الاجتماع " كارل ماركس" اعتبر أن أول تقسيم عمل في تاريخ البشرية كان بين الذهني والعضلي، أو ما سماه علماء الإناسة التمييز بين الثقافة والطبيعة، وكانت المرأة نظرا لارتباطها بالأدوار الموسعة للإنجاب من عالم الطبيعة، بينما اعتبرالرجل هو صانع الثقافة بمفهومها الرمزي.

يسمي علماء الاجتماع البنية العائلية السائدة في المنطقة العربية الإسلامية بالبنية الأبوية " البطريركية" (3)

وهو نمط عائلي يسود فيه الرجال على النساء وتتمتع فيه المرأة بمكانة منخفضة داخل العائلة، مما يجعل دخولها للمجال العام الاقتصادي والسياسي عرضة لعراقيل جمة.

فهل تنتمي العائلة الموريتانية للنمط الأبوي الذي يعكس الهيمنة الذكورية الخالصة كما وصفها بورديو؟

تقدم ملاحظات ابن بطوطة في رحلته إلى ولاتة في القرن الرابع عشر الميلادي تقييما مختلفا، حيث أطلق عبارته الشهيرة عن أهل ايولاتن "أن نساءهم أعظم شأنا من الرجال" (4)، فالتقاليد الصنهاجية ذات الرواسب الأمومية ظلت قوية رغم دخول الإسلام، ومكانة الخال وتوريث ابن الأخت سيظل معروفا حتى القرن السادس عشر، كما تشهد عليه رسالة اللمتوني إلى السيوطي في فترة متأخرة..

 ويعتقد "ابيير بونت" في دراسته الفريدة ل"روايات الأصول البيظانية"، حول إعادة تشكل المجتمع الموريتاني بعد السيطرة الحسانية، أن روايات مشهورة جاءت لتفسر تحول المجتمع إلى النمط الأبوي(5)، مع ازدياد ترسخ الإسلام العالم، بالتزامن انتشار المحظرة بعد انهيار حواضر السودان الغربي..

 ومع ذلك ستعرف العائلة الموريتانية نمطا هجينا بين الأبوية والأمومية يسمح بارتفاع مكانة المرأة بشكل نسبي مختلف عن النمط العربي الأبوي،

 وسعيا لتقريب التصنيف العلمي للعائلة الموريتانية، كنت قد اقترحت في كتاب "المجتمع الفضفاض"، اختيار مصطلح "العائلة مركزية الأم" وهو نمط يؤكد على أولوية العلاقة بين الأم والطفل والأخوة (الأخوال) بينما ينتظر من العلاقة الزوجية أن تكون أقل تماسكا" (6)

إن ندرة تعدد الزوجات لدى الناطقين بالحسانية مقارنة بالموريتانيين من أبناء الضفة تعود الى تلك الرواسب والتقاليد، والتي يرسخها الشرط المشهور في عقود الزواج الموريتانية "لا سابقة ولا لاحقة، وإن فعل شيئا من ذلك فأمرها بيدها"، وتشهد له طقوس الاحتفال بالطلاق، وكثرته، والعادات الموريتانية التي تقبل الزواج بالمطلقة الذي يعتبر أمرا نادرا في المجتمعات العربية الأخرى، حيث أكد إحصاء 2013 أن نسبة 20 بالمائة من المطلقات يتزوجن مرة ثانية..

وقد بلغ من رفض بعض الأوساط في المجتمع القديم للتعدد أن من يقوم به يتعرض للتعنيف، وهنا نتذكر أبيات الشاعر الكبير الشيخ سيد محمد ولد الشيخ سيديا (من شعراء القرن التاسع عشر):

أمن فعل أمر في الشريعة جائز

يروم اهتضامي بينكم كل عاجز

 وكان بكم جند البغاة يهابني

فصال علي اليوم جند العجائز

فصرت كأني قد أتيت ببدعة

وفاحشة من نحو فعلة ماعز

إن مكانة المرأة الموريتانية المرتفعة في المجال العائلي أمر لا تخطئه العين، ولعله من الأسباب المباشرة لقدرة المرأة الموريتانية على اقتحام المجال العام السياسي والاقتصادي مبكرا دون كبير مقاومة، على عكس نظيراتها من النساء في المنطقة العربية والإسلامية.

تقول المؤشرات الإحصائية التي أكدها التعداد العام للسكان سنة 2000، و2013 إن نسبة تفوق 36 بالمائة من العائلات الموريتانية تعيلها نساء (7)، وليس سبب ذلك هو الهجرة والترمل وحسب وربما كان لانتشار الطلاق دور كبير في الأمر..

 ولعل قصة التساهل في الطلاق تقليد صنهاجي راسخ، فقد نقل المؤرخون عن شيخ المرابطين عبد الله بن ياسين أنه كان يتزوج ويطلق بمعدل يكاد يكون شهريا(8)، حتى سمى بعض المؤرخين دولة المرابطين "دولة الفقهاء والنساء"، وما قصة انتقال السلطة بين أبي بكر بن عمر ويوسف بن تاشفين عبر السيدة زينب النفزاوية إلا دليل على حضور المرأة القوي حتى في المجال السياسي منذ القدم.

ومع ذلك لا يمكننا إلا أن نقر بأن الارتفاع النسبي لمكانة المرأة في العائلة الموريتانية خلق مشاكل اجتماعية ربما تبدو مضاعفة عن نظيراتها في بعض الأحيان.

لقد كان الطلاق مقبولا والتكفل بالأطفال مسؤولية الأخوال في العائلة الصنهاجية الكبيرة، وكان طلب النفقة من المطلق معرة في بعض الأوساط، ولكن الانتقال الى العائلة النووية الصغيرة وتعقد المتطلبات المادية، فرض تغيرات اجتماعية عميقة..

فأكثر من نصف المشاكل المعروضة على مصالح النزاعات الأسرية اليوم هي مشاكل نفقة الأطفال، وبدلا من مقولة أن شتم الزوجة أو آبائها طلاق في القديم، أصبح الضرب والعنف الزوجي ملاحظا في الإحصائيات الرسمية بنسبة 16 بالمائة من الشكايات المطروحة،

أما زواج السر الذي أصبح حديث كل بيت في المدن الكبرى فإنه يؤشر على تراجع كبرياء المرأة الصنهاجية تحت ضغط احتياجات المجتمع الاستهلاكي، كما لاحظ ذلك مرة عالم الاجتماع الكبير عبد الودود ولد الشيخ..

 لقد شاركت المرأة الموريتانية في الحياة العامة مبكرا، وكانت سباقة مقارنة بنظيراتها في المجال العربي والإسلامي إلى تبوئ مكانة مرتفعة  نسبيا، فقد ترشحت لنيل الرئاسة، وشاركت بنسبة معتبرة في البرلمان والمجالس البلدية والجهوية، وتقلدت وظائف سياسية ودبلوماسية رفيعة، وذلك بفعل سياسات التمييز الإيجابي التي تنتهجها الدولة، رغم أنها ظلت دائما في حدود الربع والثلث، وهي نسبتها في الوظيفة العمومية، إلا أن تمثيلها في وظائف الدولة ظل هامشيا، حيث يوجد ما يزيد على 80 بالمائة من النساء الموظفات في فئات "ج" و"د" من الوظيفة العمومية وهي الفئات الدنيا (9)، ورغم مشاركة المرأة الموريتانية في التجارة والخدمات، فإنها ظلت على مستوى المقاولات الصغيرة والتعاونيات النسوية في الغالب، ولم تصل إلى الاستثمار بمستوى الرساميل الكبيرة...

 يمكننا من خلال تلك العجالة أن نقول إن لدى المرأة الموريتانية تراثا من الحضور في العائلة والمجتمع، وهو ما فرض عليها مشاكل اجتماعية من نوع مختلف، فما هو الإطار القانوني المناسب لمواجهة المشاكل الخاصة بالمرأة الموريتانية؟

 لا شك في أن أي معالجة قانونية لقضايا المرأة والمجتمع الموريتاني خارج الشريعة الإسلامية التي نص الدستور الموريتاني في ديباجته على أنها المرجع الوحيد للقوانين الموريتانية، سيكون من باب تركيب الأعضاء الأجنبية التي سيرفضها جسم المجتمع والثقافة، أو سيظل كماليات ترف لا تلامس الواقع.

ولا يعني ذلك أن مجمل الترسانة الأممية في مجال حقوق الانسان والمرأة غريبة على الإسلام، فكما يقول العلامة الشيخ عبد الله بن بيه، إن مقاصد الشريعة الكبرى هي مما أجمع عليه عقلاء البشر، والإسلام يقبل كل ما يحفظ كرامة الإنسان بغض النظر عن دينه ولونه .. وتراثنا الفقهي زاخر بالحلول الإبداعية للمشاكل التي تواجه الأمة...

ولنا في التاريخ القريب للبلاد مثال ناصع عندما وقف العلامة المرحوم محمد سالم ولد عدود مع إصدار مدونة الأحوال الشخصية، وتم اعتماد أقوال فقهية تحد من سلطان ولي المرأة البالغة في إجبارها على الزواج بمن شاء، إضافة لنصوص أخرى تشجع توثيق الزواج والطلاق، فقد رأى هذا النص الهام النور بعد أن ظل يتردد في الدهاليز طيلة ثلاثة عقود..

 ويحاول البعض اليوم استكمال بعض النواقص في مدونة الأحوال الشخصية سعيا لتعزيز حقوق المطلقات، وقد ساهمت مدونة الطفل وقانون الصحة الإنجابية في تحقيق تقدم هام في محاربة الممارسات الضارة بالمرأة والبنت، ومازال النقص ملاحظا في مجال مكافحة العنف ضد المرأة والفتاة، وتحديد عقوبات واضحة لمواجهة ظواهر الاغتصاب والعنف الزوجي التي تنامت في السنوات الأخيرة، حيث سجلت أكثر من 1000 حالة اغتصاب او تحرش جنسي لدى المصالح الطبية في نواكشوط خلال سنة واحدة عام 2021.

وإذا كانت بلادنا قد صادقت على الاتفاقيات الدولية في مجال إلغاء التمييز ضد المرأة، وحقوق الطفل، فإنها كانت حريصة على التحفظ على كل ما من شأنه مخالفة الشريعة الإسلامية.

إن مشكلة المنظومة القانونية الدولية الملاحظة هي محاولتها القفز على الخصوصيات الدينية والحضارية للبلدان..

ويأتي التناقض الأكبر في الاتفاقيات الدولية بين إقرارها بأهمية حماية الأسرة وخصوصا في مجال حقوق الطفل لأنه لا توجد مؤسسة بديلة لنمو سليم للطفل خارج الأسرة من جهة، وبين السعي لتحرير المرأة وترقيتها الاقتصادية والاجتماعية.

 إن أولوية استقرار الأسرة وحمايتها جعلت مفهوم قوامة الرجل في البيت مفهوما تنظيميا ضروريا في المدونة الفقهية الإسلامية، بينما تسعى المدونة الغربية لفرض مقاربة للمساواة بين الجنسين تجعل التنافس بين الرجل والمرأة بديلا للتكامل بينهما.

لقد تحولت بلادنا منذ بعض الوقت من مفهوم "شؤون المرأة" إلى مفهوم "العمل الاجتماعي والطفولة الاسرة"

وهذا انحياز واضح للمرجعية الحضارية للمجتمع وصفته الإسلامية، ولكن ينبغي أن نؤكد في الختام أن شريعة الإسلام واسعة، ومذهبنا المالكي من أكثر المذاهب الفقهية مرونة ومراعاة للعرف والمصالح المرسلة، وإن أي مدونات قانونية تبغي النجاعة والفاعلية ومخاطبة الناس بلغتهم ينبغي أن تراعي ثراثنا الفقهي وخصوصياتنا الاجتماعية والثقافية.

 _____________

هوامش:

1-بورديو (بيار): الهيمنة الذكورية، ترجمة سليمان قعفراني، المنظمة العربية للترجمة، 2009، ص 29

2ـ روزالدو(ميشيل)، لامفير(لولويز): المرأة والثقافة والمجتمع، ترجمة هيفاء هاشم، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1976

بحث شيري اوتنر، هل الانثى بالنسبة للذكر كالطبيعة بالنسبة للثقافة، ص113

3-حطب (زهير): تطور بنى الأسرة العربية، معهد الانماء العربي، لبنان، ط1، 1976 ، ص159

 4-ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة المسماة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الاسفار ط 1966، ص442-443

5- بونت (ابيير): روايات أصول المجتمعات البيظانية ـ ترجمة محمد بواعليبة ـ دار جسور للنشرـ 2015، ص525

6-محمد محمود ولد سيد يحي، المجتمع الفضفاض (ملاحظات سوسيو نقدية حول المرأة والسلطة والثقافة في المجتمع الموريتاني المعاصر) ، مؤسسة الثقة للمعلوماتية، 2002، ص54

7-المكتب الوطني للسكان، الإحصاء العام للسكان والمساكن 2013، خصائص الأسر وأرباب الأسر، 2015

8-أبو عبيد البكري، المسالك والممالك، ، دار الكتب العلمية بلبنان، ج 2 ص 864

9-المكتب الوطني للسكان، الإحصاء العام للسكان والمساكن 2013، الوضعية الاجتماعية والاقتصادية للمرأة، 2015