Translate

الاثنين، 26 ديسمبر 2011

حزب العلم

محمد محمود ولد سيدي يحي

كتب أستاذنا الدكتور عبد الودود ولد الشيخ  في افتتاحيته لأحد أعداد مجلة الوسيط التي درج المعهد الموريتاني للبحث العلمي على إصدارها مناديا بضرورة  إنشاء حزب العلم في موريتانيا أيام  الإقبال الأول على تأسيس الأحزاب و الافتتان بالديموقراطية بعد انتشار موضتها.
ورغم أن كلمة العلم تعني في أذهان الموريتانيين حفظ النصوص والموسوعية في الثقافة الإسلامية الموروثة، إلا أن الباحث الاجتماعي الكبير كان يقصد العلم بمفهومه الأكاديمي المعاصر كما رسخته العلوم الوضعية التي تأسست عليها المعارف الإنسانية الحديثة.
لقد كان واضحا أن حزب العلم في تراجع آنذاك وأن أنصاره قليل لأنه حزب يطلب من مناضليه الكثير من الانضباط  دون أن يعدهم بفرص حقيقية في الوصول إلى مراكز مهمة في هرم السلطة.
وحتى في مراكز البحث العلمي وفي أروقة الجامعة وبين دهاليز مؤسسات التعليم العالي، لم يظهر رواج يذكر للأفكار الجدية والفرضيات الجريئة التي أطلّت برأسها برهة من الزمان ثم انسحبت، كما انسحب الباحثون مهاجرين إلى بلاد الله الواسعة بحثا عن أسواق تستهلك بضاعتهم.
صحيح أن الجدل الفكري وازدحام الآراء رهين بهامش الحرية الذي يمكن أن تصول فيه القرائح وتجول، ولكن العامل الأكبر في تراجع الحيوية العلمية في بلادنا عائد  إلى حيوية الذاكرة الجماعية التي مازالت تقتات على "أساطير" الثقافة الشفوية القبلية، وتحيط البحث العلمي في الشؤون الاجتماعية والإنسانية بمحرمات كثيرة  تجعل الأشواك والمخاطر محدقة بالأفكار والفرضيات غير التمجيدية.
وأمام حصار المجتمع لحرية البحث العلمي لم تمتلك النخب المسيطرة في كثير من الأحيان شجاعة المغامرة برعاية معارف ونظريات تعتبر أنها تخلق لغطا قد يشوش على خطاباتها السياسية التبسيطية.
في الغرب والشرق ينفقون أموالا طائلة على البحث العلمي تصل في كثير من الأحيان إلى مستوى نصف العشر لتضاهي بذلك نصيب الزكاة في الإنفاق العمومي، ويجد البحث العلمي سوقه الرائجة في الشركات والمؤسسات الخصوصية التي تتسابق لمنح تشجيعات للباحثين في مجالات اختصاصها.
 ولا يقتصر الأمر هنا على البحث في مجال العلوم التطبيقية والتكنولوجيا؛ فكثيرا ما كانت المؤسسات حريصة على إجراء الدراسات والبحوث الاجتماعية حول الرضا الوظيفي لعمالها، ومشاكلهم الاجتماعية والنفسية. لأن محورية الإنسان في العملية الإنتاجية تجعله جوهر الاهتمام في كل شيء.
أما في بلدان العالم الثالث كما في بلادنا فإنهم يعتبرون ذلك ترفا لأن الإنسان محدد الهوية والتصنيف بناء على معتقدات جماعية متوارثة مما يجعله معروفا في نظر العامة باسمه واسم أبيه وفصيلته التي تؤويه.
 إنه الإنسان النمطي الذي يسلك كما كان آباؤه يسلكون كما قال الشاعر الكبير أحمدو ولد عبد القادر معبرا عن تلك الرتابة والتكرارية في حياتنا:
 رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون
وهانحن نبحر كما كان أجدادنا يبحرون.
لا جديد إذن مادام الأول لم يدع للآخر شيئا ومادام الشعراء لم يغادروا متردما كما أكد عنترة العبسي منذ أكثر من خمسة عشر قرنا!!
لقد كان في وسع الموريتانيين أن يكونوا أحسن حالا لأنهم ورثوا تقاليد الاحتفال بالعلم الشرعي وخلقوا في عصر السيبة حزبا لذلك العلم كان في بعض الأحيان قادرا على موازنة قوة السيف؛ حتى قال قائلهم "إن الناس لا يعيشون إلا في ظل ركاب أو كتاب"، إلا أنهم قعدوا في مجال العلوم الدنيوية التي أصبحت محك النظر الذي يوجه حياة الناس في عالمنا اليوم قياسا على حياة السلف أيام كانت نحلة المعاش معتمدة على حرف بسيطة تتوراثها العائلات دونما حاجة لعلوم نظرية تقوم عليها.
لقد كان العلم حينذاك وسيلة لرفع بيت لا عماد له كما قال الشعراء، ولكنه اليوم تجاوز الطابع الرمزي ليصبح الأداة الوحيدة الممكنة للنهوض بأمة لا عماد لها، في مجتمع التكالب على المعلومات والتسابق في استغلالها وإنتاجها.
وفي موريتانيا اليوم تنشغل النخبة السياسية بالمهاترات و الصراعات الضيقة بعيدا عن العناية ببناء مؤسسات راسخة تدمج الشوق إلى الإبداع والمعرفة في نفوس الأجيال الجديدة .
 إلا أن إنعاش حزب العلم لا يقتصر على عناية السياسيين وحدها ولا بد من وجود أوساط حاضنة في الجامعة ومؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، حيث ينبغي أن يولد تقليد جديد بتقديم البحوث والدراسات بين المختصين بشكل دوري، مما ينفي عن هذه المؤسسات غبار الرتابة والجمود، وهو ما يتطلب هامشا خاصا بحرية التفكير والتعبير يعطي الأولوية للجريء والجديد.
وسيكون من الضروري أن تلتزم الشركات والمؤسسات بتخصيص نسبة ولو يسيرة من موازناتها السنوية لتمويل الدراسات والبحوث حول قضايا تهمها.
لقد رأى أبو نصر الفارابي أن المدينة الفاضلة هي تلك التي يقودها الفلاسفة، ولكن شيخه أرسطوطاليس كان واقعيا عندما جعل استشارة الحكماء كافية لوجود الحكم الصالح.
وفي عالمنا اليوم تعتبر معايير الأمم المتحدة أن من مؤشرات النمو والتقدم التي لا غبار عليها تزايد ما تخصصه ميزانيات الدول للبحث العلمي، لأنه هو الآخر بوابة من بوابات محاربة الفقر التي لا يهتدى إليها إلا أولو الألباب.

الثلاثاء، 15 نوفمبر 2011

مجتمع الإحراج

محمد محمود ولد سيدي يحي

مرّ العيد بأيامه بسلام وأمان واستطاع الكثيرون أن يستمتعوا بهذه الفرصة التي شرعها الدين الحنيف في صلة الأرحام وتبادل الزيارات والتسامح.
إلا أن مجموعة ليست بالقليلة من الموريتانيين لم تجد للعيد مذاقا لأنها قضت أيامه في مراوغة مع ممتهني التسوّل والتطفّل الذين يعتبرون الأعياد والمناسبات فرصا لا تضيّع لتصيّد الذين كانوا يتقونهم تحت ذرائع المشاغل ودوامة العمل، وذلك تحت عناوين عصرية تسمى"اندوينه" وملحقاتها.
لقد كتب أستاذنا محمد فال ولد عبد اللطيف رسالة طريفة في أحوال "الكوس" ونوادر الكواسين، ودوّن الأستاذ يحي ولد سيد المصطف دستورا حول" نوادي الثقلاء ومدارس الإزعاج" وجاء نظم الشيخ  حمدن ولد التاه للثقلاء على معظم صور التطفّل التي تعاني منها فئات كثيرة من سكان المدن الموريتانية.
إلا أن مجتمع الإحراج الموريتاني لم يعد اليوم مقصورا على فئات محدودة، لأن الكثيرين لا يجدون غضاضة في ممارسة هذا السلوك الذي يجافي الذوق وظرافة سكان الحضر.
صحيح أن الكوس في معناه الذي ساد أيام الثمانينيات قد تراجع  في ظاهره إلى حدّما، إلا أن  "الطّمعة والطّلبة" بفتح الطاء شهدتا ازدهارا وتفنّنا لم يسبق له مثيل.
 إنك لا تعدم في شوارع نواكشوط شابّا فارع القامة ممشوق العضلات شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر يستوقفك ويناديك باسمك وربما بكنيتك، ويسألك عن أحوالك وربما عن بعض أقاربك وقبيلتكم الموقرة ثم يختم المقدمة الطللية التي تخلب لبّك بأنه في حاجة ماسة لمبلغ ألف أو خمسمائة أوقية للوصول إلى كذا أو تدارك الأمر الفلاني قبل فوات أوانه، هذا ناهيك عن هذه الحسناء التي لا توحي هيئتها بسوء الحال و تطلب جميع الواقفين بقاعة الانتظار من الرجال أن يساعدوها بثمن التاكسي لأنها في عجلة من أمرها.
أما الذين يزورون من غير موعد ويفرضون عليك برامجهم الخاصّة فإنهم لن  يقبلوا منك عذرا إذا استأذنتهم في الانصراف إلى زاوية من البيت لاستكمال بعض الأعمال الضرورية، وسيغضبون منك وينشرون عنك قالة السوء لأنك قررت مواصلة رحلتك التي وجدوك خارجا إليها..
ومنهم  من يتحيّن الفرص المحرجة فلا  يطرح عليك حاجته إلا بين الناس حتى إذا اعتذرت إليه  استشهد الحاضرين على بخلك وجعلها سبّة الدهر التي يعيّرك بها في المجالس، وربما اختارت هذه الفتاة الطفيلية  لحظة وجودك بين أصهارك أو زيارتك لخطيبتك  لتطلب  حيث لا يمكن ردّ طلبها فتسارع  شراء لعرضك إلى تلبية المطلب مهما كلّف الثمن، ولسان حالك يردد الحديث المشهور"إنا نهش لقوم وقلوبنا تلعنهم"
والمصيبة التي ما بعدها مصيبة هي أن من ينفقون أموالهم وأوقاتهم تحت طائلة الإحراج محرومون من الثواب والأجر عند الله لأنهم ينفقون أموالهم رئاء الناس  وهم كارهون فمثلهم "كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا"
وأسوأ الناس حظّا في هذه البلاد من كان لأهله شرف وفضل وورث عن آبائه بعض الأتباع والموالي والمريدين، فهؤلاء في حسرة دائمة وضائقة متواصلة لأن الحال انقلب عليهم، فبعد أن كان من حوله  يحبون أهل بيته لبركتهم أو جاههم ويتبرعون لهم بالصدقات والهدايا أصبحوا اليوم عالة يطالبون بردّ الجميل، ومن ضعفاء الإيمان ممن خاف الذل بعد العز من دفعته الضرورة إلى الخوض في المال العام حتى يواجه متطلبات جماعته  من المؤلفة قلوبهم فكان ممن باع دينه بدنياه والعياذ بالله.
ولعل الطامة الكبرى أن معظم معاناة التسول مقتصر على محدودي الدخل من صغار الموظفين وسكان الأحياء الشعبية لأن هؤلاء ممن يسهل الوصول إليهم، أما سكان الأحياء الراقية في نواكشوط فقد اعتصموا ببعد  المسكن وعلو أسواره وشراسة كلاب الحراسة عن هؤلاء المتطفلين.
ولولا أن السياسة ومطالب الديموقراطية أعادت جسر الطريق بين الأغنياء الموسرين والفقراء المعسرين بحثا عن الأصوات لكانت حبال العلاقة بين الفريقين قد تصرّمت منذ بعض الوقت.
ولقد لاحظ البعض مؤخرا إقبال بعض الموظفين وعمال الإدارات العمومية على مكاتب العمل ومداومتهم ومواظبتهم على الحضور منذ الصباح الباكر وحتى انتهاء الدوام دون ظاهر عمل يؤدونه فلما سئلوا عن علة ذلك تعللوا بالفرار من إحراجات الطامعين وثقلاء الزوار، وهذه فائدة تذكر ر غم أن مردودها على الأداء الإداري ضعيف، ولا يسلم الحال من إزعاجات مشابهة من بعض ذوي المهن التابعة كعمال السكرتاريا والبوابين والفراشين الذين لا يفوتون فرصة استلام راتب أو تشجيع أو علاوة إلا وطالبوك بضريبة الجوار والمصاحبة، مما يجعل بعض لموظفين بين أمرين أحلاهما مرّ.
قد يقول قائل إن فئات كثيرة من الموريتانيين تعاني من الفقر، وما هذا التسول والإحراج إلا نتيجة مباشرة لذلك، ولكن الغريب هو أن من يتسولون من هذه الطبقة لا يتسمون بالفقر المدقع وغالبا ما اقتصرت حاجاتهم على بعض الكماليات كبطاقة الهاتف أو ساعة المعصم وغير ذلك، إضافة إلى أن حياة معظم الموريتانيين لم تتعود على الرفاهية والنعيم، ولم تكن مذلة المسألة مقبولة إلا لفئات محدودة.
لا شك أن التمدن والتحضر ينبغي أن لا يكون عنوانا للبخل وعدم العطف على المحتاجين والضعفاء، ولكن هذا الاستغلال الاستنزافي  لتضامننا ومروءتنا التقليدية يوشك أن يقضي على ما تبقى منهما في هذا العصر المادي.
إننا مطالبون اليوم أكثر من أي وقت مضى بالاعتماد على النفس وتربية أبنائنا على تقاليد الظرافة والتخفف من خشونة الحياة البدوية وعدم مراعاة برامج الآخرين ومشاغلهم، وإذا كنا بحاجة إلى تعزيز الإنفاق والعمل الخيري، فإن علينا أن نستعد لثقافة الفردية وحياة العولمة فبعد قليل لن يعود الإحراج هو أقصر وسيلة لقضاء الحاجات وسلب الجيوب.

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2011

أحاديث الرعاة

محمد محمود ولد سيدي يحي
روى الشهيد القائد صدام حسين رحمه الله محدثا عن نخوة الموريتانيين أن الرئيس المرحوم المختار ولد داداه، شهد مؤتمرا تنافست فيه الدول الإفريقية على المساعدات العربية، فما كان منه إلا أن خرج من قاعة المؤتمر ليتلقى مكالمة هاتفية، ثم عاد ليقول للحاضرين إن موريتانيا تتنازل عن حصتها من هذه المساعدات لأن أخبارا طيبة من البلاد بشرت بهطول الأمطار.
موقف من السبعينيات يذكرنا أن موريتانيا مازالت إلى اليوم تنتظر أخبار الغيث النافع وتستبشر بها في كل مكان، وأن حياة الرعي والبداوة بقيت رغم برامج التنمية والتحديث، عماد حياة الأغلبية في الأرياف.
وحدهم السياسيون مشغولون بالانتخابات والشفافية، بينما يكاد الموضوع يكون ثانويا في الداخل الموريتاني، حيث يسأل الناس أولا عن أخبار الغيث، ويناقشون أسعار الأعلاف في فترة هي الأصعب في حياة قطعانهم، ويستكمل الحديث عندما يطول بأخبار السياسة تماما كما يتلهى الغربيون بأخبار الدوري الرياضي.
"المال شقيق النفس" حكمة قديمة، ويتندر الموريتانيون بأن البقر وهو محبوب الرعاة الموريتانيين من مختلف المجموعات اللغوية، يتندرون بأنه "كان معبودا" لدى أسلافهم الوثنيين.
لا يعرف مؤرخو الحضارة قرابة مؤكدة بين سكان الصحراء من الموريتانيين وبين حضارة الهندوس التي تقدس البقر، اللهم إلا ما يروى من أسطورة إفريقش بن صيفي الذي غزا مشارق الأرض ومغاربها وأسكن بعضا من جنده بإفريقية التي أخذت منه تسميتها.
وعلى العموم عانى رعاة البقر من الجفاف ما لم يعانه أهل الإبل والشاء لأنه حيوان أليف مستقر لا يصبر على الجوع والعطش والرحيل لمسافات بعيدة.
ويتذكر جيل السبعينيات ضربة الجفاف القاسية عندما نفقت آلاف الأنعام وفقد بعض الرعاة عقولهم حتى خلدتهم الأغنية الشعبية الشهيرة:
 يا هل لبقر عنكم جنّوا
لقد كانت عتبة الجفاف أول بوابة يعبرها البدوي الموريتاني نحو الحداثة حينما اضطر الناس لهجرة الأرياف إلى المدن؛ مما جعل الدولة التي ظلت حتى ذلك العهد مجرد كائن هامشي تواجه مجتمعا بأكمله لم تتعود أن يلجأ إليها.
بقيت مخيلة الراعي تلاحق الموريتانيين الذين ترمز البداوة إلى كل شيء جميل في حياتهم وتحتفظ بصورة العصر الذهبي في ذكرياتهم حتى كأنهم يحكون أبيات الأعرابية التي سئمت حياة القصور في كنف الخليفة فقالت:
 وما ذنب أعرابية قذفت بها
صروف النوى من حيث لم تك ظنت
 تمنّت أحاديث الرعاة وخيمة
بنجد فلم يقدر لها ما تمنّت
وما أن عادت موجة الرطوبة نسبيا وتراجع الجفاف حتى تسابق علية القوم إلى الاستثمار في الثروة الحيوانية وتخصيص الأموال الطائلة للتنافس في امتلاك قطعان الإبل والبقر.
ولكنه دائما وأبدا أسلوب البدو في الاستثمار الذي لا يغير شروط الإنتاج، ويحسب المباهاة والتفاخر أكثر مما يعتني بالمردودية الاقتصادية والإنتاجية .
 رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون
 وها نحن نبحر كما كان أجدادنا يبحرون
 كما خلد الشاعر الكبير أحمد ولد عبد القادر"تغريبة" الجفاف الموريتانية في رائعته "السفين"  خلال الثمانينيات.
فنحن على العهد سلفيون في الرعي لا نغير أساليب الإنتاج ، ونترك ثروتنا الكبرى الوحيدة التي تحقق لنا الاكتفاء الغذائي، وتوفر لنصف السكان مداخيلهم السنوية عبر التصدير إلى دول الجوار، نتركها تحت رحمة التقلبات المناخية.
نفس المحنة والقلق ينتاب نصف الموريتانيين الذين يعتمدون على الحيوانات الأليفة منذ الشهر الرابع من كل عام، رحيل نحو الجنوب، وعبور للحدود بحثا عن المرعى.
 رحلة سيزيفية في " نجّامة" لا تنتهي، ويزداد القلق عند الرعاة أيام تساقط الأمطار الأولى حيث تظهر الأمراض ويموت ضعاف القطيع. 
 تدخلت الدولة الموريتانية طيلة العقود المنصرمة، وأنشئت وزارات للتنمية الريفية والزراعة والبيطرة، وأنفقت عشرات المليارات لتذهب سدى دون طائل.
حتى الأعلاف التي أصبح الجميع مضطرا للجوء إليها، لا تتوفر بالمقادير الكافية، ولم تستطع السياسة الصناعية أن تجعلها أولوية حقيقية.  
وحدها رحمة الله هي التي تسع الجميع وبشائر الغيث التي هبت من هنا وهناك تعيد الأمل إلى النفوس، فالدولة والسياسة بالنسبة للأرياف والبوادي عبء لم يقم بمجهود حقيقي لتحويل نمط الحياة هناك إلى أشكال عصرية مشابهة لما عليه الحال في البلدان المتقدمة.
متى يتوقف نزيف السياسة وتلتفت الطبقة العليا من المجتمع إلى هموم العامة والفقراء؟ إلى متى يسود جدل لا يمس التنمية ومشاكل الوطن الحقيقية؟
اعلموا أيها السادة أن لنا هموما أخرى وأحاديث غير أحاديثكم هذه التي ينبغي أن تعرض على "علم الرجال"
!!

الأحد، 4 سبتمبر 2011

رهاب العيد

محمد محمود ولد سيدي يحي
العيد في بلاد شنقيط مناسبة تفرح فيها النساء والأطفال والأصهار مقابل غموم وديون وشجون يغرق فيها معظم الرجال من الطبقات الوسطى والفقيرة.
ذلك أن واجبات العيد وسننه آكد من فرائض الشرع عند كثير من العامة، لأن الله غفور رحيم أما مجتمع الناطقين بالحسانية في هذه البلاد فإنه لا يرحم الضعف في هذه المناسبات.
والمرأة الموريتانية تقبل الاقتصاد في الغذاء والدواء ولكنها لا تتنازل عن حقها في "التعياد"، وهي تكون مسرورة عندما يتحمل الزوج وعثاء السفر من أقصى البلاد إلى أقصاها لقضاء يوم العيد معها والقيام بواجب إكرامها وإكرام ذويها.
ويسارع الرجل الموريتاني عادة إلى القيام بتلك الواجبات طواعية كلما وجد إلى ذلك سبيلا، و يتسابق كثيرون في التظاهر بإكرام الزوجة والأصهار مباهاة و ومفاخرة أمام أعين الناس.
والمرأة المحبوبة هي من لا يمر عيد دون أن تختضب بالحناء عند أفخر صالونات الحناء، وتشتري ثياب العيد لها ولأطفالها من الأقمشة الأوروبية، ويقدم زوجها هدايا عينية ونقدية محترمة إلى "حماته".
و تقضي تقاليدنا الراسخة أن تحل أخوات الرجل وخالاته محل الأصهار لأن زوجته ملزمة بتقديم قرابين من الثياب والهدايا إليهن كل عيد، تكفيرا عن  استئثارها بدخله دونهن.
وتلزم بعض الأوساط  الخاطبين من الشباب بما توجبه على المتزوجين من أمر "التعياد"، ولهذا فإن المعسرين منهم يلتزمون الحذر في فترات الأعياد ويتجنبون الارتباطات العاطفية خوفا من الإحراج.
ويتملص بعض هؤلاء من تكاليف العيد بدمجها في تكاليف الأعراس عندما يستغلون أجواء الأعياد الاحتفالية لإقامة أعراسهم ضاربين بذلك عصفورين بحجر واحد.
ويتناقل الناس عندنا قصصا للتندر حول أولئك الذين يتمارضون قبيل العيد تجنبا لمواجهة نفقات لا يقدرون عليها، ولكن الحقيقة الملموسة هي أن معظم الرجال يجتهدون حتى لا يتعرضوا للتشكيك بشهامتهم  "ورجوليتهم" حسب التعبير الدارج، لأن الإنفاق التفاخري مقدم على كل شيء  وكما يقول المثل السائر" المنية ولا الدنية".
ومن الحيل التي يلجأ إليها بعض ساكنة المدن الكبيرة في نواكشوط ونواذيبو محاولة التهرب بناء على اختلاف الجهات في الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف، فيدعون أنهم سيحتفلون بذكرى "التسمية" يوم الثامن عشر من ربيع الأول مع أهل الأرياف والبوادي، وبانتظار ذلك يفوتون الفرصة على "الطامعين والمتربصين" الذين يحتفلون مع أهل المدن بذكرى المولد يوم الثاني عشر.
ويتدثر بعض ذوي الثقافة الدينية بالخلافات الفقهية حول الاحتفال بهذه الذكرى، و يتخففون من تكاليف " التعياد" بدعوى  أن هذه بدعة محدثة بعد قرون السلف الصالح، ولكن هذه الدعوى الواهية تفقد مفعوليتها في الاحتفال بعيدي الفطر والأضحى.
وتتعاطف الحكومة في بلادنا مع مآزق العيد فتسارع غالبا في تعجيل الرواتب بهذه المناسبات، وكثيرا ما يساهم  هذا الحل الترقيعي في اختلال موازنات البيت الموريتاني لدى صغار الموظفين مما يزيد مديونيتهم الفلكية التي تشهد عليها عمليات السلف الربوية التي يقعون تحت رحمتها في المصارف العاملة.
لا شك إذن في أن رهاب العيد حالة عامة تراود فئات عريضة من أرباب الأسر الموريتانية، وهي حالة نفسية تصيب ذوي الدخل المحدود كلما اقترب واحد من الأعياد الدينية الثلاث، ولعل مما يزيد المشاكل على " المعيدين" تقارب هذه الأعياد في النصف الأول من السنة القمرية حيث تتتابع كل شهرين دون أن تترك متنفسا لإعادة هيكلة المديونية و استعادة الموازنة الأسرية عافيتها.
ويعتبر أسوأ ما في هذه الظاهرة التي تكاد تختص بالأسرة الموريتانية الناطقة بالحسانية هو قضاؤها على المعاني الدينية السامية والروح الاحتفالية لأعيادنا الدينية.
ولا يخفى على أحد أن المسئولية عن هذه المنغصات التي لا يخلو منها بيت موريتاني لا تعود إلى المرأة دون الرجل رغم أن النساء عادة ما يكون حرصهن على الالتزام بتلك النفقات متزمتا، لأن التقاليد وحدها هي التي تجعل الجميع أمام واجبات لا يمكن التنصل منها.
ويعود قسط وافر من منغصات العيد إلى سيئات العولمة المتوحشة التي دفعت الأسعار إلى موجة غلاء تضرب كبرياء الفقراء في كل مكان.
وحتى لا تتحول أعيادنا الدينية إلى مناسبات للهموم والغموم، وخروجا من هذا الإحراج الذي يدفع إليه زواج تقاليد بائدة مع عولمة ظالمة، نقترح على  العقلاء في هذا المجتمع أن يصدروا" دستورا اجتماعيا" يحول هذه الواجبات الاجتماعية إلى الأعياد الوضعية كعيد الأم وعيد المرأة وعيد الحب.
ويمكن أن تنشئ وزارة الترقية النسوية صندوقا وطنيا للأعياد يتبرع فيه الجميع بما تسمح به مداخيلهم  وتتولى الوزارة تنظيم حفل جماعي على غرار الزواج الجماعي تقدم فيه هدايا رمزية بين أفراد الأسر بمناسبة هذه الأعياد.
 وبانتظار أن يقوى عود المجتمع على مواجهة التقاليد التي لم تعد مناسبة لظروف الكثيرين سيردد معظم الموريتانيين عند استقبال كل عيد بيت المتنبي المشهور:
 عيد بأية حال عدت يا عيد
لأمر مضى أم فيك تجديد

الأربعاء، 17 أغسطس 2011

نزول البركة

محمد محمود ولد سيدي يحي

في المثل الموريتاني تلخيص موجز لعقيدة راسخة تقول إنه "لا فرق بين القلة والكثرة إلا نزول البركة" فكم من كثير لم ينتفع به صاحبه، وكم من قليل نزلت فيه البركة حتى أصبح خيرا كثيرا عم الناس جميعا.
والبركة رحمة يمنحها الله تعالى للأشياء والأماكن والأفراد فتكون أحوالهم إلى إقبال، ونقيضها الشؤم الذي يؤدي إلى زوال النعمة وتنغيصها بانعدام العافية والعياذ بالله.
 و لا نبالغ إذا قلنا إن البركة من مقومات وجود الأشياء في هذا الكون منذ خلقه الله تعالى الذي خلق الأرض في يومين {وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين} بنص كتابه الكريم.
والبركة في القرآن الكريم مما ينعم الله به على الأمم الصالحة، قال تعالى {ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض}
وتنزل البركة بالمكان كما بيّن جل وعلا بقوله {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله} كما تحل بالزمان { إنا أنزلناه في ليلة مباركة}
كما أن البركة تحل بالعائلة كما قال سبحانه في قصة إبراهيم {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت}
وليس من البدعة ما يعتقده الموريتانيون منذ القدم من أن البركة متعدية من الأب إلى أبنائه، وذلك ما بنوا عليه اعتقادهم في أبناء الصالحين حتى قال مثلهم الشهير "إذا كان ابن الصالحين حمارا فلا تركبه" وذلك من شدة إجلالهم للصلاح والبركة التي تنتقل بين الأجيال، إلا أن ذلك الاعتقاد لم يلبث أن انتهى إلى الاتكالية والبكاء على الأطلال.
 والقصة المسطورة في سورة الكهف عن الغلامين اليتيمين دليل طالما تمسك به أسلافنا في وجه من يسمونهم "المنكرين" قال جل من قائل:{وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك}.
وقد بلغ الأمر ببعض المفسرين إلى القول إن هذا الأب الصالح كان جد الغلامين الأربعين، وبالغ بعضهم فقال إنه الجدّ الأربعون من جهة الأم وربما من الرضاعة، وذلك حتى يؤكدوا معنى قوة مفعول بركة الأجداد في الأبناء.
والصحيح أن للوراثة حظا في كثير من الخصال  إلا أن الله تعالى قضى أن {كل نفس بما كسبت رهينة} ولم يقبل لخليله إبراهيم عليه السلام اطراد البركة في عقبه فقال{وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن، قال: إني جاعلك للناس إماما، قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين}
وقد أتى على ساكنة هذه البلاد حين من الدهر كانت فيه البركة قوة روحية تحمي فئات عريضة حتى كادت المكانة الروحية لبركات الأولياء والصالحين أن توازن القوة العسكرية للمجموعات ذات الشوكة.
وإذا كان الأصل في البركة أن تكون معنى دينيا يرتبط بالخير والمعاني الإيجابية فقد طور سلفنا الموريتاني في عصر السيبة مفهوما للبركة السلبية أو الضارة سموه "تزبوت" وهي انتقام  الله لعباده الصالحين إذا مسهم الظلم.
ولا شك أن معنى "تزبوت" ثابت لأن الآية تقول{إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين} و الحديث يقول "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب".
 ولعل من أخطاء الكاتب الصحفي المرحوم حبيب ولد محفوظ ما كتبه ذات يوم من أن "تزبوت" كلمة من أصل فرنسي قادم من ثقافة المستعمر الذي كان يعاقب السكان وأنها تركيب مزجي من كلمتي" mis à pied"
وهو ربط خاطئ نتج عن ثقافة المرحوم الفرانكفونية، ولا أدل على بعد ذلك من أن المفهوم قديم والصيغة الصرفية للكلمة صنهاجية أصيلة مما ينفي عنها أية علاقة بالثقافة الأجنبية.
و يشكو كثير من كبار السن الموريتانيين اليوم في حديثه عن تقلب الزمان من انتزاع البركة؛ فرغم أن الوفرة في الملبس والمأكل والغذاء حلت محل الندرة إلا أن الجشع والشكوى في تزايد.
ويعتبر آخرون أن أبناء الصالحين لم تعد البركة تصاحبهم، بل إن الدعاء المستجاب أصبح من القليل النادر
ويعلل بعض الوعاظ والصالحين غياب البركة بكثرة الحرام ودخوله في مختلف جوانب الحياة، ويستدلون بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل "يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب وملبسه حرام  وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟!"
ولولا رحمة الله بعباده ورأفته بضعفائهم لزالت البركة من الخليقة ففي الأثر المشهور أنه"لولا شيوخ ركع وأطفال رضع وبهائم رتع" لما نزل القطر من السماء.
والظاهر أن البركة مرتبطة بالاستقامة وهي لازم من لوازم الإيمان والعمل الصالح، وبانتقاصهما فإنها تتراجع.
ولكن الصحيح أيضا أن ساكنة هذه البلاد تعاهدوا هذا الدين وأدمنوا تلاوة كتاب الله  طيلة أجيال من الزمن حتى ولو خلفت من بعدهم خلوف.
 وفي عصرنا الحاضر سادت ثقافة علمانية تتجاهل الخواص المقدسة للأشياء، وتعتبرها تعاملا سحريا ينبغي استبداله بالنظرة المادية التي لا تهتم بروح الأشياء.
ورغم أن مفاهيم البركة و "تزبوت" ارتبطت بشيء من الخرافة في أذهان العامة إلا أننا في هذه البلاد ننظر إلى وفرة المصادر والخيرات الطبيعية ونستغرب من عدم التوفيق في توظيفها لصالح الإنسان.
لا شك إذن في أننا نعاني من انتزاع البركة وأن ذلك ليس نقمة إلهية وإنما هو بفعل أيدينا بعد أن رضينا بالكسل في الإنتاج والفكر والتديّن، وأصبحنا عالة نتكفّف فتات الأفكار والسلع وحتى الصرعات الدينية الشاذة.
وبانتظار أن نتحول من ثقافة أبناء الصالحين إلى أن نكون صالحين قولا وعملا سيظل عزاؤنا الوحيد هو أن الله تعالى " يستحيي أن ينتزع البركة من موضع وضعها فيه".



الاثنين، 1 أغسطس 2011

هبة المحظرة


محمد محمود ولد سيدي يحي

روى الرحالة الاستعماري "رنيه كاييه" أو ما يعرف محليا ب"ولد كيج النصراني" معاناة عجيبة من تظاهره بشعائر الإسلام وادعائه العلم الشرعي بين أبناء المحاظر عندما زار البلاد في القرن التاسع عشر.
ويذكر بشكل مضحك كيف صادف قدومه إلى محاظر لبراكنه إطلالة شهر رمضان المبارك، حيث فوجئ بأن عليه أن يصوم في موسم صيف قائظ، وما تسبب له فيه ذلك من ألم شديد رغم أنه  كان يسترق الشراب كلما اختفى عن أعين الناس.
وسقط كاييه مريضا تحت تأثير إسهال حادّ، ليكتشف متأخرا أن ضرورة المرض تبيح له الإفطار!
وحملت ملاحظات المستشرق الساخرة حنقا شديدا على الانضباط الديني والمستوى المعرفي لهؤلاء البدو الأجلاف الذين سموا بهذا الدين سموّا كان بالنسبة له اعتزازا بالذات يصل إلى درجة الكبر لأنه يهدد رسالة الاستعمار التي سافر الرجل يمهّد لها الطريق.
لقد تعجب معظم الرحالة الغربيين -رغم تحاملهم الشديد- من اعتزاز البدو بدينهم وثقتهم بأنفسهم، وكان انتشار التعليم بين أبناء الصحراء الكبرى بسبب المحظرة أمرا لافتا للانتباه في مذكراتهم.
وفي العالم الإسلامي كانت المحظرة مؤسسة تعليمية حرة وبدائية الوسائل، ولكن خريجي هذه المؤسسة كانوا محط إعجاب، ووصلوا إلى منافسة جامعات دينية حضرية عريقة كالأزهر والزيتونة والقرويين.
 عندما تفتحون الصفحات الأولى من كتاب "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني الذي يعتبر أشهر كتب البلاغة العربية ستجدون أنه مصحّح بمراجعة علامتي المنقول والمعقول الشيخين محمد عبده والشيخ محمد محمود ولد التلاميد الشنقيطي، ونفس الملاحظة تجدونها على نسخ القاموس المحيط للفيروزابادي.
لم يكن إذن من المستغرب أن يبعث السلطان عبد الحميد في طلب الشيخ الشنقيطي ويكلفه بجرد المخطوطات العربية في إسبانيا، ولا أن يتشوّق ملك السويد لرؤية عالم اللغة العربية وحافظة الشعر الجاهلي في مؤتمر دولي.
إنه شيخ عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي خلده في سيرته الذاتية الرائعة "الأيام" تحت اسم الشيخ الشنقيطي الذي أثبت من مروياته في الشعر الجاهلي مائة بيت على صرف "عمر" خلافا لما يعتقده النحاة منذ سيبويه إلى ابن مالك!!
يعرض الشيخ "آبّ ولد اخطور" في رحلته للحجّ إلى بيت الله الحرام جانبا من تنوع تلك الثقافة المحظرية في منتصف القرن العشرين، وكيف دارت مناظراته حول البلاغة والمنطق والأصول، واحتفى به العلماء طيلة الرحلة التي استمرت برّا من بلادنا إلى السودان عبورا إلى الحجاز.
 وفي البلاد المقدسة  كان تكريس الشناقطة علما للمعرفة الدينية إلى اليوم رغم ما ألحقه خلوف بذلك اللقب بعدما تغيرت حال الدنيا وهجر الأحفاد مآثر الآباء.
 وغير بعيد ما زال الشيخ عبد الله بن بيّه حفظه الله يمسك لواء العلم الشنقيطي، الذي  وجد المسلمون الأوروبيون في تأصيله المالكي لنوازلهم منزعا يعبّر عن روح اعتدال إسلامي طالما افتقدوه في كثير ممن يتصدون للإفتاء في هذه الأيام.    
وإذا كان بعض فقهاء المحظرة أفتوا بجواز التعامل مع المستعمر وفضلوا سلطته على فوضى عصر السيبة؛ فإن المحظرة وقفت حصنا منيعا دون تغلغل ثقافة المستعمر وحمت الهوية من المسخ الحضاري، حتى أن قرى عديدة في هذه البلاد ظلت ترفض المدرسة الحديثة إلى عهد قريب لأنها ارتبطت في أذهان ساكنتها بتسويق ثقافة المستعمر التي تقضي على آخر حصون الذات والهوية الإسلامية التي تأسس عليها المجتمع الموريتاني.
 لقد وحّدت المحظرة لغة المخاطبة والكتابة بين جميع أبناء هذه البلاد على اختلاف لغاتهم المحلية، ومازالت المخطوطات التي تركها علماء منطقة "فوتا" وغيرها شاهدة على أن الحرف القرآني كان أول حرف دونت به البولارية و السوننكية و الولفية.
و عندما قرر القائمون على الأمر ذات مرة - في صحوة ضمير- أن يعيدوا الانفتاح مابين الإدارة واللغة العربية كان آلاف الأطر من خريجي المحظرة جاهزين لتولي مناصب التدريس والقضاء دونما حاجة إلى تكاليف البعثات الباهظة.
لقد وصف المؤرخ اليوناني هيرودوتس مصر بأنها هبة النيل، ويمكننا أن نقول إن هوية شعب موريتانيا ومناعته الثقافية هبة المحظرة، ولكن المصريين بنوا سدا عاليا للاستفادة من النيل وتجنب آثار الجفاف والفيضانات.
 فماذا قدمنا نحن للمحظرة التي كانت أم الحضارة الموريتانية؟
 هاهو العالم من حولنا قد ارتفعت أصواته بحثا عن الإسلام الصحيح الذي يبتعد عن زيغ المغالين وتحريف الجاهلين، وهاهي بلاد الإسلام  تتعرض لنوبة ارتكاس وردة دينية عنيفة تذكر بعهد الحشاشين والقرامطة.
فماذا فعلنا حتى نمكن المحظرة اليوم من مواصلة دورها التاريخي في حفظ المناعة الحضارية والدينية لمجتمع يعاني من بوائق العولمة.
أين هي أساليب التحفيظ والأنظام والنصوص الجاهزة من واقع ثقافي يمور بمختلف "الصرعات" الفكرية؟
وهل يمكن أن ندّعي الحفاظ على ميراث الأجداد إذا كنا مجرد "كائنات تراثية" بدلا من أن نكون "كائنات لديها تراث" على حد تعبير المفكر الكبير محمد عابد الجابري؟
إن الفتى من يقول ها أنذا
ليس الفتى من يقول كان أبي!

الثلاثاء، 12 يوليو 2011

كتابنا المتشائمون

محمد محمود ولد سيدي يحي

قرأت مؤخرا الرواية القصيرة التي ألفها الزميل والكاتب المتميز محمذن بابا ولد أشفغ تحت عنوان "وادي النعام".
وتدور أحداث القصة التي وصفها الكاتب بأنها رواية في الخيال السياسي في موريتانيا بعد عقدين من الآن، وتتحدث عن دولة مازالت تسيطر عليها القبلية، وتتحكم في قراراتها مصالح الشركات الدولية والقوى العظمى ومخابراتها التي أصبحت تتدخل في أطراف اللعبة بشكل مهيمن وصارخ.
وتعرض القصة بأسلوب تقريري صحفي مباشر يكاد يخلو من المحسنات الأدبية حالة عالم تراجع فيه الاعتماد على النفط وأصبحت الطاقة النووية والصراع على اليورانيوم هو الشغل الشاغل للجميع، بينما تبحث القوى العظمى  بشكل سري وبطرق توظف فيها الأمم المتحدة عن مدافن للنفايات النووية في بلدان العالم الفقير.
وفي موريتانيا التي كانت أحلام حكومتها كما يتصور الكاتب منصبة حول التنقيب  في وادي النعام عن اليورانيوم  قرر الكبار في العالم أن يتوقف كل شيء وأن يقام بسياسة جماعية لترحيل الأرياف لحشر جميع السكان في العاصمة، في ظل اتفاق سري لتحويل المناطق التي سيتم إخلاؤها إلى مدافن للنفايات النووية التي ضاقت بها الدول العظمى.
ولا تخلو الرواية من مشاهد معبرة من فساد الطبقة السياسية الموريتانية لا تبتعد كثيرا عما نعيشه في مجتمعنا، كما تقدم صورا من الدعاية والطريقة الفلكلورية لمتابعة القضايا في الإعلام العالمي، حيث توجه أنظار الجمهور إلى أحداث ثانوية لصرف انتباهه عن مشاكله الحقيقية.
  وتنتهي القصة بمشهد غرق مدينة نواكشوط بفعل تغيرات مناخية دفعت البحر إلى التهام مجتمع تسيطر عليه النخب الفاسدة وتتحكم في ديموقراطيته المخابرات الدولية ولا يستمع فيه أحد إلى أصوات القلائل من الذين أصروا على مواصلة كشف الزيف والتلاعب الذي يواجه مصير العامة.
ولا يخطئ المرء أن يلاحظ في رواية الزميل محمذن بابا ذلك التفسير التآمري للحياة السياسية الذي يتهم به الكثيرون خط قناة الجزيرة الإعلامي .
إلا أن روح التشاؤم الشديد التي حكمت مسار الأحداث المتخيلة في وادي النعام عكست حالة عامة يبدو أنها تطبع مزاج الكتاب الموريتانيين بشكل أصبح لافتا.
ومن المنطقي أن يكون  ولد أشفغ قد تأثر برواية مدينة الرياح التي نشرت قبله منذ عشر سنوات، ولكن من الغريب هذا الإصرار على ربط مستقبل البلاد بالنفايات النووية الذي يتفق فيه مع الكاتب الكبير موسى ولد أبنو.
ويبدو أن التشاؤم لم يقتصر على هذا الجيل من الروائيين ذوي الخلفية الإعلامية. لأن روح التنبؤات المتشائمة
 وجدت طريقها إلى التحليلات المستقبلية ذات الطابع العلمي وحتى الديني.
ويحضرني في هذا المجال مقال الدكتور عبد الودود ولد الشيخ الذي نشرته جريدة القلم الفرنسية قبل سنوات عن مصير البلاد السياسي، والتعقيب الذي نشرته للتخفيف من الروح التشاؤمية التي توقعت مصيرا كارثيا للبلاد مع نهاية العهد الطائعي، وكان المقترح البديل الذي قدمته في كتاب "المجتمع الفضفاض" هو الأمل بأن الروح الاشتراكية للقبيلة الموريتانية والخطاب الديني قد يشكلان عوامل إيجابية للتغيير كما أثبتته لاحقا انتفاضات الجيش الموريتاني.  
وكان الزميل الحسين ولد محنض قد نشر في نفس الفترة كتابه المعنون" ضيوف القرن الواحد والعشرين" والذي أعاد فيه تأويل أحاديث الفتن وأسفار الرؤيا في كتب العهدين القديم والجديد مؤكدا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر إيذان بعلامات القيامة واقتراب المهدي والدجال وقدم تواريخ محددة لذلك.
ولا شك أن محاولة التبنؤ بعلامات الساعة  تقليد قديم يتجه إليه المؤمنون في لحظات انسداد الآفاق وغياب بشائر الأمل وهي وضعية أحسها كثير من المسلمين إثر المحن التي تعرضوا لها مؤخرا، ولكن الاقتداء بالأنبياء والمصلحين يقتضي دائما زرع البشارة والأمل في قلوب الناس حتى وهم في أحلك اللحظات.
ومن المؤكد أن الكتاب والمبدعين والمفكرين هم عصب الأمة الحي  ورادار الإنذار المبكر الذي يطلق صيحات التنبيه عند الخطر، وقديما قال جان بول سارتر:"إن الأدب مأساة أو لا يكون".
ولهذا فإن التعامل السليم مع ما تجود به قرائحهم هو أن يصبح دافعا للأمة لتصحيح أخطائها ومواجهة الاختلالات الكبيرة التي تعاني منها في مسيرتها الطويلة لإعمار الأرض والقيام بواجب الخلافة الذي أناطه الله بالبشرية .
ويتذكر الكثيرون اليوم تلك التنبؤات القاسية التي أطلقها كارل ماركس حول مصير المجتمع الصناعي الرأسمالي  في القرن التاسع عشر مؤكدا أن استمرار أوضاع العمال والكادحين سيؤدي إلى ثورة تغير التاريخ وتكسر علاقات الإنتاج، ولكن النتائج الأهم لتك التنبؤات لم تكن في تحقق نبوءاتها المتشائمة بل في الإصلاحات الجوهرية التي تعرضت لها الرأسمالية لصالح العمال مما كان له أثر مباشر إطالة عمرها.
إن قصة "وادي النعام" ومثلها في ذلك قصة "مدينة الرياح" وغيرهما من الأعمال الفكرية المتشائمة تريد أن تنبه قادة الرأي والفاعلين في هذه البلاد إلى طبيعة المخاطر المحدقة التي تنتظر مستقبلهم ما لم يبادروا إلى التحكم في أمورهم وقيادة سفينتهم إلى بر الأمان.
وما لم نساهم جميعا في تنوير الرأي العام وتعزيز حصونه الأخلاقية وتجاوز "سياسة النعامة" التي تدفن رأسها في الرمل في مواجهة الخطر فإننا مهددون بسيطرة نفايات الحضارة العالمية ومعرضون للغرق تحت أمواج التاريخ العاتية.