قراءة: محمد محمود ولد سيدي يحي
"..لأننا لسنا
عباقرة، ولأننا ندرك حدود قدراتنا وجسامة المهامّ الملقاة على عواتقنا كقادة في جيش
يتحمل أعظم وأشرف المسؤوليات وهي الدفاع عن الوطن، يتوجب علينا بذل ما أمكننا من
جهد للارتقاء بمعارفنا وقدراتنا الذهنية والبدنية للاضطلاع بتلك المهمة
النبيلة"
بهذا التواضع الجمّ
استهل المقدّم محمد المختار ولد بيّه كتابه "مقالات في الحرب
والاستيراتيجية" الذي صدر مؤخرا عن مكتبة القرنين في نواكشوط.
ورغم أن العنوان
متواضع "مقالات.."، إلا أن المواضيع التي تناولها الكتاب شملت أهمّ
الإشكاليات التي تثيرها ظاهرة الحرب، بدءا بتعريفها ومرورا بأسبابها و
استراتيجياتها وانتهاء بأشكالها المعاصرة مثل الحرب النفسية والحرب على الإرهاب أو
ما يسمى الحرب "الاسيمترية".
ويحدّد المؤلف مجال
حديثه قائلا "إن ما نحن بصدد تناوله هو دراسة مفهوم الحرب بماهي تعبير عن
علاقة ذات سمات عنيفة بين كيانين سياسيين أو أكثر، وهذا ما يستبعد مختلف أشكال
النزاعات الأخرى"
ويعرّف الحرب بأنها "قتال مسلح بين الدول
يهدف إلى تحقيق أغراض سياسية أو قانونية أو اقتصادية"
وبعد أن عرض المؤلف ويلات
الحرب ومساوئها التي لا تحصى، خلص بالقول: "وفي المطلق تظل الحرب شكلا من
أشكال العلاقات الدولية عنيفا بلا شك
ولكنه دارج رغم كل الدعوات إلى نبذه وإحلال آليات التفاوض والاحتكام إلى القوانين
الدولية بدل تحكيم السلاح، ورغم معاهدات السلام التي تعدّ بالآلاف نقول مع "بوتول":
"إن الإنسان لا يتغير والحرب هي هي، وإن
كان السلاح النووي قد قلّص سلطانها نوعا ما، فقد ترك مع ذلك مناطق ذات تربة خصبة
لحروب العصابات والنزاعات المحدودة التي أسفرت عن نشوب 146 حربا صغيرة عاثت في
الأرض فسادا منذ 1945 وأزهقت أرواح 30 مليون إنسان بشكل غير معلن..وفي إفريقيا تفيد
دراسة بعنوان "مليارات إفريقيا الضائعة" أن النزاعات المسلحة شملت من
1990 إلى 2005 ثلاثة وعشرين بلدا وكلفت القارة 300مليار من الدولارات عدا الخسائر
البشرية"
وفي تحليله لمفهوم
الحرب عند الجنرال الألماني "كلاوزوفيتس"
عاد المؤلف إلى تعريف الحرب بأنها "فعل عنيف يهدف إلى إرغام الخصم على تنفيذ
إرادتناّ" ولا تقوم الحرب إذن صدفة ولكنها تقوم لأسباب لا يمكن أن تكون إلا
سياسية، فالحرب مواصلة للسياسة بوسائل أخرى... ورغم الصور العديدة الممكنة فإن توقف
العدوّ عن القتال مستسلما أو طالبا وقف المعارك هو التعبير الأكثر وضوحا عن
انتصارنا"
ويوضح المؤلف مستويات
الاستيراتيجية العسكرية بعد تحليل تاريخي بالقول "يحدّد المستوى السياسي الغايات
والخصوم ولكن نتائج المجابهة الميدانية على المستوى التكتيكي بنجاحاتها وإخفاقاتها
هي التي على ضوئها وبدرجة كبيرة يأخذ المستوى العملياتي شكله ويضع خططه، وبالتالي
يؤثر على المستوى الاستيراتيجي العسكري الذي يجعل المستوى السياسي يغيّر أو يتابع
أو يعيد ترتيب أهدافه"
وقدّم المؤلف أمثلة
للاستيراتيجيات والمدارس العسكرية، مثل المدرسة البحرية البريطانية التي تعتمد
الاستيراتيجية غير المباشرة، على نقيض المدرسة الألمانية التي اشتهرت
بالاستراتيجية المباشرة والهجوم الشامل والطابع العنيف، بينما تردّدت الاستراتيجية
العسكرية الفرنسية بين تمجيد الدفاع و"القوى المعنوية" وأهمية الهجوم،
وفي المدرسة الشرقية تميّز العرب المسلمون بالمزاوجة بين المجابهة والاحتواء
واستخدام أسلوب الدعوة مع أهمية العقيدة الدينية التي تشحن المقاتل بروح التضحية وتحوّله
إلى مجاهد في سبيل الله، وكأداة لهذه الاستراتيجية نجد تكتيكا يتميز بالسرعة
والخفة والكر والفر على عادة العرب في الجاهلية، وبالنسبة للمدرسة الصينية تميل الاستراتيجية
إلى الأسلوب غير المباشر والاقتصاد في
الخسائر وإعطاء الأهمية القصوى للاستخبارات.
وقد ناقش المؤلف تأثير ظهور السلاح النووي على
الاستيراتيجيات العسكرية اليوم، "حيث أصبح الردع أي فرض عدم اللجوء للقوة هو الصيغة
الوحيدة المعقولة لاستعمال أسلحة الرعب"، رغم أن السلاح النووي لا يمنع من
تفتت الدول ولا يحميها بل قد يكون عبئا عليها أحيانا.
ووضّح المؤلف
تأثيرات ما بعد الحرب الباردة وانفراد أمريكا والحلف الأطلسي بالهيمنة العسكرية
مما أدى لتراجع خطر الحروب الشاملة.
وخصص المؤلف مقالا للحرب النفسية التي تمكّن من
التسلل إلى جسم العدو والفتك به والفتّ من عزيمته، وذلك من خلال زرع الشكوك لديه
في شرعية موقفه السياسي والأخلاقي، وتشكيكه في إمكانية نجاحه وبلوغ أهدافه، واستخدام
الدعاية والإعلام في ذلك..
وفي مقاله حول الحرب الأسيمترية يعالج المؤلف
ظاهرة معاصرة هي ما يعرف بمحاربة الإرهاب و"هي الحرب التي تواجه فيها دولة
بجيشها وقواها الأمنية المنظمة مقاتلين أدنى تسليحا وتنظيما يستخدمون نقاط ضعفها
لإيذائها ما أمكنهم ذلك خدمة لأهداف غالبا ما تكون سياسية أو دينية، وتتضمن الحرب
الأسيمترية أنماطا متنوعة من طرق العمل تتراوح بين العنف المحض إلى الدعاية ضد
الخصم وحتى إلى المقاومة السلمية كالعصيان المدني والتظاهر والإضرابات.." وهو
ما يسميه البعض حرب الضعيف على القوي أو حرب المجنون على القوي..
وتعتبر الحرب الأسيمترية
شكلا جديدا متعاظما يفرض على الدول مراجعة سياساتها الدفاعية وعقائدها العسكرية،
وتحتاج مقاومة هذا النوع من الحروب "تصوّرات متكاملة لنزع فتائل الأزمات
والاحتقانات من حقول الاجتماع والاقتصاد والسياسة وغيرها من ميادين تنمو فيها بذور
كل ما هو شاذ وخطير على أمن البلاد، فلا يكون آخر الدواء أوله، ويرافق ذلك التركيز
على الأساليب الأكثر فاعلية في هذه الحرب وهي العمل الفكري والاستخباري المبدع
أكثر مما تحتاج للدبابات أو الطائرات".
وقد ختم المؤلف كتابه بملاحق تعيد متصفحه إلى
المجال الثقافي الحضاري الذي ينتمي إليه؛ فمعركة الزلاقة بما تحمله من تراث
المرابطين المجيد، ورسالة عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما حول
أخلاق المجاهدين؛ كانت ملاحق جاء اختيارها
مناسبا وأصيلا.
ويمكن القول إن
المقدّم محمد المختار ولد بيّه استطاع بأسلوبه الواضح العميق عبر 180 صفحة من
الحجم المتوسط أن يقرّب القارئ العادي من مفاهيم عسكرية وأمنية غاية في التخصص،
وأن يعطي صورة ناصعة عن مستوى الكفاءة الذي يتمتع به طاقم التأطير والتكوين في
المؤسسة العسكرية الوطنية، التي أصبحت خلال السنوات القليلة الماضية رقما مهمّا
يحسب حسابه في المعادلة الإقليمية.
لقد ظلّ
المخيال الشعبي الموريتاني يفصل ما بين السيف والقلم حيث يقال: "إن الناس لا
يعيشون إلا في ظل كتاب أو ركاب"، وفي عصر ثورة المعلومات يبدو أن هذا الفصل
لم يعد ممكنا لأن المعرفة أصبحت هي السلاح الأول في يد الإنسان.