رواية
الحدقي
أو جاحظ الجزيرة الموريتاني المتشائم
محمد محمود ولد سيدي يحي
عندما
قرأت رواية الحدقي للكاتب الصحفي أحمد فال ولد الدين، تذكرت مقالا قديما كتبه أحمد
حسن الزيات في بداية القرن الماضي عن الشيخ محمد محمود ولد التلاميد"في مجلته
"الرسالة" تحت عنوان "الشنقيطي
كما عرفته"، يصف فيه حروب الشيخ مع أئمة وخطباء القاهرة، وتخطئته لهم في
لغتهم وأحاديثهم..
وقد رسم عميد الأدب العربي طه حسين صورة
كارياكارتورية للشيخ الشنقيطي في سيرته الذاتية "الأيام" وخلافه مع
علماء الأزهر على صرف "عمر" وتقديمه مائة بيت من الشعر الجاهلي على أنها
غير ممنوعة من الصرف..
ذكرتني رواية الحدقي بتلك الأستاذية التي يحرص
هؤلاء القادمون من الأطراف القصية من إفريقيا أن يفرضوها على المشرق العربي في
لغته وتراثه منذ قرون..
تعرض
رواية الحدقي بلغة عربية قوية قصة كاتب صحفي موريتاني في قناة الجزيرة أراد أن يكون مدققا لغويا، ولكن صرامته أثقلت
على الصحفيين فحولوه لقسم الوثائقيات، وكلفوه بكتابة رواية تاريخية عن الجاحظ،
وتتعاقب في الرواية الأحداث بين قصة الصحفي التي اختزلها الكاتب في علاقة عاطفية
مع فتاة سعودية مهاجرة في قطر، وبين مشاهد من حياة الجاحظ التي طغت على معظم صفحات
الرواية بلغة عباسية رفيعة..
يصف
الكاتب بشكل ممتع جو مدينة البصرة في نهاية النصف الثاني من القرن الثاني الهجري،
ويرصد محطات حياة الجاحظ منذ طفولته وولعه بالعلم وتلمذته على الخليل بن أحمد
الفراهيدي، ثم اندماجه في جماعة المعتزلة "أهل العدل والتوحيد" مع
العلاف والنظام، ومناظرات الفرق في المدينة المتنوعة، وولعه بالوراقين والتأليف حتى ذاع صيته وتلقى
الأعطيات من الولاة، فاستدعاه ابن الزيات
لبغداد وأعانه على التفرغ للتأليف، ليصبح ابن الزيات وزيرا للمعتصم ثم يشي به
الوشاة لينتهي مقتولا، فيتفرغ الجاحظ للتأليف حتى أصابه الفالج بعد أن أصبح مرجعا
للعامة والخاصة من الشعراء والعشاق يفدون إليه ويستشيرونه في قضاياهم وهو ملقى على جنبه بين كتبه التي كان سقوطها سبب
وفاته..
ضبط
المؤلف الإيقاع الروائي لقصة صحفي الجزيرة وعلاقة الحب التي جمعته بالفتاة
السعودية مع إيقاع قصة حب فاشلة للجاحظ مع ابنة أستاذه تماضر بنت الخليل بن أحمد؛
والتي فضلت عليه ابن المديني قائد أهل
الحديث أعداء المعتزلة، واستكملها بزواج الجاحظ من جارية المأمون فائقة الحسن التي
طردها سيدها بعد أن فضلت عليه أحد غلمان القصر، لينتهي بها المطاف زوجا سعيدة
للجاحظ على دمامته وقبحه المشهور..
ورغم
ما ملأ به الروائي صفحات الرواية من تأملات في الحب على لسانه تارة وعلى لسان
الجاحظ تارة أخرى، فقد بدت قصصه من نوع "الحب المستحيل"، فما الذي يجعل
جارية من بنات ملوك الفرنجة ترفض وصل سيدها ولي العهد المأمون من أجل جندي أو غلام
من غلمان القصر؟ وتنتهي حياتها وهي من هي في جمالها وحسن صوتها بالرضى بكاتب من
أهل الجدل شائه الخلقة مثل الجاحظ،؟؟ وأغرب من ذلك تعلق الصحفي الموريتاني بالفتاة
السعودية، رغم أن نهاية القصة هنا أقرب للممكن حيث انتهت برفض زواج "القروي"
من "مطوعة بريدة"..
ورغم
أن ولد الدين كان حذرا مختصرا في قصته عن الدوحة وقناة الجزيرة، فإنه عوّض ذلك في
بسط الحديث عن التقلبات السياسية والثقافية التي عرفها العباسيون طيلة حياة الجاحظ،
وهنا تحضر منذ البداية لازمة عنف السلطة وإدانتها وخطورة الاقتراب منها في
الرواية، حيث مشهد قتل الخليفة العباسي المهدي للشاعر بشار بن برد بتهمة الزندقة،
ثم نكبة البرامكة، ثم بعد ذلك مشاهد تعذيب الإمام أحمد بن حنبل في فتنة خلق القرآن
بحضرة المعتصم، ومشاهد تعذيب ابن الزيات للتجار ونهايته المأساوية، ومشهد مقتل الخليفة
المتوكل ووزيره الفتح بن خاقان على يد الأتراك..
ففي
الدوحة بدا الزمان مختصرا والحدث معلبا في قاعة التحرير أو الكافتيريا والكورنيش
ما بين ثلاث سنوات 1438 إلى 1440 للهجرة، بينما تمدد الزمان العباسي ما بين البصرة
وبغداد على ما يقارب قرنا من الزمان ما بين168 إلى 255 للهجرة..
ورغم
أن الكاتب أراد للرواية التاريخية عن الجاحظ أن تكون الأصل ولسيرته الذاتية في
الدوحة أن تكون الهامش، فإننا بشيء من التحليل النفسي نستطيع أن نكتشف أن العكس هو
الصحيح، حيث أفلتت ملاحظات قليلة تشي بانطباعات سلبية أحيانا عن الدوحة، فجبهته
الغماء يكاد الشعر يغزو كل أطرافها المضغوطة " كخريطة دويلة ضعيفة واقعة بين
إمبراطوريتين متنافستين"... لا شك أن الأمر يتعلق هنا بدولة قطر.
ورغم
رغبته في المقارنة بين الدوحة والبصرة من حيث الانفتاح وتنوع الثقافات، إلا أنه لا
يلبث أن يتذكر أن "الحياة كلها في هذه المدينة التي يعيش فيها حياة مصطنعة،
فكيف تكون غرفة الأخبار بتلك البرودة في جو كهذا؟؟" ولعل النهاية المحتملة
للمهاجرين في هذه البلاد سيئة كما تخيلت الفتاة السعودية "القروي يقاد إلى
مخافر الترحيل بين مئات الهنود والأفغان من أصحاب الجنح"!!
وقد
جاءت لازمة حبيبات العرق التي تكررت كثيرا في وصف شخصيات الرواية لتعكس ضجرا
مكتوما من كاتب الرواية بمناخ الضغط الحارق الذي يعيشه في منطقة الخليج...
وينقل
ولد الدين جانبا من نقاشات قاعة التحرير في قناة الجزيرة التي سماها قناة "العروبة"
والتي "يؤمن إيمانا عميقا بأنها
ساهمت في النهوض بالفصحى، وتوحيد اهتمامات الإنسان العربي" حيث تقام فيها الدنيا لأن سبقا صحفيا أحرزته
قناة أخرى؛ "كيف ننقل عن البي بي سي خبرا في العالم العربي..هذا ملعبنا نحن،
وما لم نؤكده نحن فلن يتأكد...والخبر الذي لا نبثه نحن لم يقع!"
إلا
أن قصة القروي واضطهاده وتهميشه في القناة تشير إلى أن الكفاءة ليست هي المعيار
دائما في القناة " الفاضلة"!!، فقد كان سبب رفع الشكوى منه من قبل
الصحفيين "هو كونه لا سند له في غرفة الأخبار، فلو أنه من إحدى الدول العربية
الكبيرة لكانت له عصابة تحميه، وتدافع عنه، وتبرز محاسنه وتستر مثالبه".
ويبرز النقد الـأكبر في تشاؤم ابن الدين بنهاية مستوى قناة العروبة التي أصبحت
تنقل الأخبار باللهجات العامية بدلا من الفصحى، ولعل في ذلك تلميحا غير مقصود
لتراجع شعبية "الجزيرة" منذ دخلت في صراعات ما بعد الربيع الدموي،
وأصبحت منشغلة بالحرب الإعلامية المحلية التي تدور في الخليج بين الإخوة الأعداء..
وتحمل
قصة الحب المستحيل بين القروي والفتاة السعودية "حصة" المشاعر السائدة
في الدوحة وقناة الجزيرة تجاه إخوتهم في السعودية؛ ف"مطوعة بريدة" كائن
متناقض، فهي تضيق بالتزمت الديني و"تدعو إلى الليبرالية الاجتماعية، ولكنها
ضد الحرية السياسية، تنتقد الحركات الإسلامية السياسية، ولكنها تدافع عن المدرسة
الوهابية بعقلية بدوي يطلب الثأر من أبيه" ..لا يختلف الوصف كثيرا عن بعض
تقارير "فوزي بشرى" و"الكتبي" في الحرب الإعلامية الدائرة بين
البلدين مؤخرا..
وفي
رواية الحدقي صورة نمطية لكبرياء الإنسان الموريتاني الذي يصل حد البارانويا، فابن
الدين معجب بأستاذيته اللغوية مثل ولد التلاميد وأسلافه من سفراء المحظرة، وهو
معجب بتدينه "المختلف، وذلك الجهد الذي يبذله في إخفاء صدقاته وعباداته حرصا
على الأجر"
لقد
أسقط ابن الدين على مدرسة الخليل بن أحمد الفراهيدي في البصرة بعض سمات المحظرة
الشنقيطية بأخصاصها وأعرشتها، وانتصر لآبائه وأجداده على أهل الجزيرة العربية عندما
رد غاضبا على رفض والد "حصة" تزويجه من ابنته بالقول:
"-أنا
أحصي سبعة من آبائي كلهم عالم، ولعلك تحصي نفس العدد من أجدادك قطاع طرق"!!
وفي
رواية الحدقي تلاعب طريف لا يخلو من دلالة بالأسماء والألقاب، فالجاحظ هو الحدقي، وقناة
العروبة هي قناة الجزيرة التي يبدو أن عروبتها ستتراجع لاحقا إلى المستوى العامي،
والفتاة السعودية التي تكره "المطاوعة" المتدينين أصبحت "مطوعة
بريدة"، وأما ابن الدين فإنه " القروي" رغم أنه بدوي معتز ببداوته
العالمة، ولعلها نسبة إلى مدينة "قرو" بولاية لعصابة التي ينتمي الكاتب
إلى مجالها القرابي..
لقد
أراد ولد الدين أن يكتب عن الجاحظ وعصر التدوين العباسي وازدهار الترجمة والعقل، فكتب
عن الدوحة وعصر الضعف العربي والصراعات العبثية، ورغم أنه ركز فيما يكتب على نقل
المناظرات والجدل السائد في العصر الذهبي العربي، فقد أفلتت منه ملاحظات متشائمة
عن العصر الحالي، وقديما قال الروائي فلوبير" مدام بوفاري أنا"، ويمكننا
أن نقول إن الحدقي هو الحلم المستحيل لولد الدين وكتاب العربية الكلاسيكية في زمن
الصراع العربي العربي الحالي..
وتذكرنا النهاية المتشائمة لرواية الحدقي حيث
يتم طرد القروي من قناة العروبة ليهاجر إلى زيورخ بنهاية متشائمة أخرى لكاتب من
كتاب قناة الجزيرة هو الأستاذ محمذن باب ولد اشفغ في رواية "وادي
النعام"، فالقروي سيهاجر إلى "صحراء لا سلطان لأحد عليه فيها" وولد
اشفغ ينهي روايته بصورة غرق نواكشوط التي تصورها بلا رئيس في وقت هي أحوج ما تكون
إليه..
هل
هو التشاؤم الملازم للخط التحريري لقناة الجزيرة
وكتابها، أم هو تشاؤم الإنسان العربي الذي يعجز عن مواجهة الواقع فيلجأ إلى
الماضي والتراث؟
في
النهاية تبقى رواية الحدقي إضافة نوعية للمكتبة العربية، ودليلا جديدا على أن أحفاد
الشناقطة مصرون على أن يظلوا سدنة التاريخ الثقافي، ومرجع اللغة العربية الكلاسيكية، حتى في زمن الغوغلة والعولمة،
وتراجع الخطاب العربي إلى لهجة التنابز والثارات التي تعود بالأمة إلى الوراء..