Translate

الجمعة، 3 يناير 2025

الاشعاع الثقافي السعودي في موريتانيا

  الإشعاع الثقافي السعودي في موريتانيا

محمد محمود ولد سيد يحي، باحث اجتماعي


تحتل المملكة العربية السعودية في قلوب الشعوب العربية الإسلامية مكانة خاصة، لأنها مهد الإسلام ومركزه الشعائري الذي يتوجه إليه جميع المصلين مستقبلين البيت الحرام كل يوم خمس مرات، حيث اختص الله قادتها بخدمة الحرمين الشريفين، وجعلها مهوى أفئدة المؤمنين استجابة لدعوة أبينا إبراهيم..

الحنين إلى نجد

ورغم بعد الشقة، ووجود موريتانيا بأقصى بلاد المغرب الإسلامي، كان تعلق الشناقطة قديما بالحج وزيارة المسجد النبوي أمرا خالط شغاف قلوبهم، وترنمت به أشعارهم..

ولا عجبَ إذا وجدنا أن الشاعر الشنقيطي كان وما زال يَحِنُّ حنينَ البِكْر إلى فصيلها إلى البلاد السعوديَّة النجدية والحِجازية، فيبعث إليها شعرًا أشواقَه الحارَّة، ويبثها لواعجه وتحاياه الصادقة، ويتمنَّى صادقًا ويتضرع مخلصًا إلى الله راجيًا تأديةَ فريضة الحج، ويطمع في زيارة المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة والسلام.

لقد كان الشاعر الشنقيطي ولا زال يبكي ويستبكي بلاد نجد والحجاز، ويُعدِّد في شعره مواطِنَها الأصلية، وأزمانها الخوالي، ودمنها البوالي، لا مُحاكاة للشِّعر العربي القديم - في رأينا - وإنَّما حبًّا للبلاد السعودية وتعلقًا ببلاد الأجداد، وتوقًا إلى رُؤيتها، ورغبة في السياحة التاريخية والدِّينيَّة في نجودها، ووهادها ووديانها، وتلالها ورمالها - إحياء لذكرى الآباء - التي تحدثت عنها الأشعار الجاهلية، والأُموية، والعباسية، والأندلسية، وكتب التاريخ، ومعاجم البلدان.

وذلك لأنَّ الوشائجَ والقربى بين الشَّعب السعودي والشنقيطي قوية، كما أنَّ أوجهَ الشَّبَه بينهما مُتعدِّدة وبارزة، فاللهجةُ العامية السائدة في البلدين مُتقاربة في مستوى فصاحتها ودلالاتِها؛ لأنَّ اللهجة الحسانية الشنقيطية "تشبه اللهجة العراقية واللهجة النجدية"، وهي مفهومة في مناطق نجران والأحساء في جنوب المملكة، وكثيرٌ من ألفاظ الحسانية موجودة في اللَّهْجة السعودية، سواء ما كان منها متعلقًا بأسماء الحيوان والأغذية، أم طرق الحياة، كما أنَّ الحياة الاجتماعية البدوية تكادُ تكون مُتشابهة في بادية شنقيط وبلاد السعودية والجزيرة العربية والشام بصورة عامة.

فبالنسبة لتقاليدِ الأزياء وعاداتِها يلحظُ الباحث أنَّ زيَّ الرجل الشنقيطي وهو الدراعة لا يزال موجودًا بهذا الاسم في ينبع، و"الدراعة عباءة خاصَّة ذات حجم كبير نسبيًّا (10 أمتار)، ومغلَّفة من الأمام والخلف، ومَفتوحة من الجانبين إلى قُرْب نهايتها؛ بحيث لا توجد لها أكمام"، طويلة إلى حدٍّ ما.

ومن حيث عادات الغِذاء نجد أنَّ التَّمْر والحليب والأرز واللحم والشراب المَذْقَ، الذي يُخَضُّ لبنه بالمخضَّة "الشَّكْوَةُ" الموجودة في السعودية، والمصنوعة من جِلْد الأغنام المدبوغ... نجد أنَّ هذه العادات متقاربة جدًّا في البلدين.

وكما فرضت حياةُ البداوة العربية في الجزيرة والسُّعودية على سُكَّانها ظاهرةَ التَّرحال، "فرضت الصحراء الموريتانية القاسية الفقيرة على البيضاني (الشنقيطي) حياةَ الظعن والانتجاع، فهو ينتقل مِن منزلٍ إلى منزل انتجاعًا للغَيث والكلأ، فعندما تجفُّ الآبار وتَيْبَسُ الحشائش، وتتطاير أشواكُ النبات الصَّحراوية مع الرِّياح الحارة يكون الرَّحيل ضرورةً لاستمرار الحياة، فيُصدر رئيسُ الحي الأمر بالرحيل، فتُعدُّ القافلة، وتُطوى الخيام، وتنصب الهوادج فوقَ الجمال، وتجمع قطعان الأغنام والإبل والبقر، ويركب السادة والنِّساء والأطفال الجمال...".

وإذا كانتِ البيئةُ البدوية السعودية والعربية عامَّة قاسية، وطبعت طباع سكانها بطابع خاص، من حيث السَّحْنَة واللون، والطباع والسلوك، فإنَّ باديةَ بلاد شنقيط قد صبغتِ البدويَّ وشكلت طباعَه، و"أسلوبه في الحياة بخصائصَ مُعينة، ولكنَّها أكسبته من ناحيةٍ أخرى القدرات والمميزات، فهو يتميَّز بنظرٍ حادٍّ، وبأذن حَسَّاسَة، وبحاسَّة شمٍّ قويةٍ، ويُمكنه معرفةُ الاتجاه الصحيح (يهتدي بالنجوم)، وبذكاءٍ فائق، وبذاكرة قويَّة، بفضل هذه القُدرات استطاع البدويُّ الموريتاني أنْ يتكيَّف مع البيئة الصحراويةِ القاسية..." ، كما كان أجدادُه يتكيَّفون معها في اليمن ونجد والحجاز، وغيرها من بادية العرب.

وقد حمل الشنقيطي معه النظم الاجتماعية السائدة في الجزيرة العربية وبلاد اليمن السعيد، تلك النظم التي ما زالتْ سائدةً في أغلب البلاد العربية، ومنها المملكة العربية السعودية التي تمسَّك البُداةُ فيها بتقاليدَ وعاداتٍ عربية وإسلامية حقيقية، تالدة وطارفة، كما في بلاد شنقيط أو موريتانيا الآن في بِاديتها ومُدنها.

 تلو الأجيال، لأنها تركت الأثر الطيب في نفوس كل الموريتانيين.

يقول الدكتور أحمد ولد حبيب الله في مقالته " حضور البلاد السعودية في الآداب الشنقيطية، مجلة الدرعية، العددان 3 و 4،’ 1998، وهي محاضرة قيمة اعتمدنا عليها في هذه المداخلة:

أما حضور المكان أو الأرض السعودية ومعالمها الدينية والتاريخية، فنجده في مقدِّمات القصائد الطَّللية والغزلية، والمدائح النبوية، والرحلات الحجيَّة الشنقيطية، ولكثرة النصوص الشعرية التي جسدت ذلك الحضور وخشية التطويل المفضي إلى السآمة والملل نكتفي بإعطاء أمثلة قليلة منه: فهذا الشاعر الشنقيطي العلامة الفقيه أحمد بن محمد بن محمد سالم المجلسي (ت 13هـ) يقول في مقدمة مدحته النبوية مُعدِّدًا بعض الأماكن السعودية الشهيرة، يقول:

أَتَذْرِي عَيْنُهُ فَضَضَ الْجُمَانِ

غَرَامًا مِنْ تَذَكُّرِهِ الْمَغَانِي؟

مَغَانٍ بِالْعَقِيقِ إِلَى الْمُنَقَّى

إِلَى أُحُدٍ تَذَكُّرُهَا شَجَانِي

وَمِنْ تَذْكَارِ مَنْزِلَةٍ بِسَلْعٍ

إِلَى الْجَمَّا تُعَانِي مَا تُعَانِي

فَهَلْ عَزْمٌ يَصُولُ عَلَى التَّوَانِي

وَهَلْ بَعْدَ التَّبَاعُدِ مِنْ تَدَانِي؟

وَهَلْ أَغْدُو بُكُورَ الطَّيْرِ رَحْلِي

عَلَى وَجْنَاءِ دَوْسَرَةٍ هَجَانِ؟

تَبُذُّ الْعِيسَ لاَحِقَةً كُلاَهَا

وَتَطْوِي الْبِيدَ مُسْنَفَةَ اللَّبَانِ

تَرَى بَعْدَ الدُّؤُوبِ كَأَخْدَرِيٍّ

بَيَمْؤُودٍ أَرَنَّ عَلَى أَتَانِ

حَدَاهَا شَوْقُ دَارِ الْفَتْحِ مَثْوَى

إِمَامِ الرُّسْلِ مَأْمَنِ كُلِّ جَانِ

وقد جسدت هذا التلهُّف الجامح - والشوق الطافح إلى الوصل والوصال الشنقيطي - السعودي نصوصٌ كثيرة، منها قصيدة "نجد" للشاعرة الشنقيطية الأستاذة مباركة بنت البراء(باته) التي تقول فيها:

عَوْدٌ إِلَيْكِ مِنَ الْمَاضِي الَّذِي سُحِقَا

نَجْدَا أَتَيْتُ وَكُلِّي الشَّوْقُ قَدْ أَبَقَا

نَجْدَا أَتَيْتُ وَمِنْ شَنْقِيطِ مَنْزِلَتِي

أُجَاوِرُ الْفَلَّ وَالنِّسْرِينَ وَالْحَبِقَا

وَصَلْتُ يَا نَجْدُ هَلْ تدرين كم سنة

بَحَثْتُ عَنْكِ وَأَعْيَيْتُ النَّوَى طُرُقَا

وَظَلْتُ أَبْحَثُ عَنْ هم تلبسني

فِي الرَّمْلِ فِي الشِّعْرِ فِي طَيْفٍ إِذَا طَرَقَا

إِنِّي أُهَاجِرُ فِي صَمْتِي عَلَى ظَمَأٍ

لِلْحَرْفِ مَا أَفْظَعَ الْحَرْفَ الَّذِي صَدَقَا

مَا أَفْظَعَ الْحَرْفَ حِينَ الْحُبِّ يَجْعَلُهُ

غِيلاَنَ مَيَّةَ عَافَ الْأَهْلَ وَالرفَقَا

يَقْتَادُ نَاقَتَهُ فِي كُلِّ مَنْزِلَةٍ

يَبْكِي مَنَازِلَهَا بِالدَّمْعِ قَدْ شَرَقَا

مَا أَفْظَعَ الْحَرْفَ حِينَ الْحُبِّ يَجْعَلُهُ

قَيْسًا تَبَتَّلَ بِالتَّوْبَادِ مُحْتَرِقَا

يَوَدُّ لَوْ أَنَّ طَيْفًا مَا يُطَالِعُهُ

يَرْعَى الْمَهَا، وَيَشِيمُ الْبَرْقَ إِنْ بَرَقَا

نَجْدٌ وَيَنْتَفِضُ التَّارِيخُ مُزْدَهِيًا

عَبْرَ الْمَسَافَاتِ فَيَّاضًا وَمُؤْتَلِقا

إِنِّي أَتَيْتُ وَمِنْ شَنْقِيطِ مَنْزِلَتِي

أُحَاوِرُ الْفُلَّ وَالنِّسْرِينَ وَالْحَبِقَا

أَشْتَمُّ أَرْضَكَ بَوْحًا مِنْ رُبَا وَطَنِي

أَشْتَمُّ أَنْوَارَهَا رَيْحَانَهَا الْعَبِقَا

ضُوعَ الْخَزَامَى مَعَ الْأَنْسَامِ تَحْمِلُهُ

رِيحُ الصَّبَا وَعَبِيرُ الْوَرْدِ مُنْبَثِقَا

تِلْكَ الْعُهُودُ الَّتِي فِي النَّخْلِ مَنْبَتُهَا

فِي الْأَثْلِ سَوْرَتُهَا فِي الطَّلْحِ مُصْطَفِقَا

تَظَلُّ مَا فَتِئَ التَّارِيخُ أَكْبَرَ مِنْ

كُلِّ الْحُدُودِ وَأُفْقًا يَلْتَقِي أُفُقَا

لَوْ أَنَّ شَاعِرَةً مِنْ شَجْوِهَا انْعَتَقَتْ

لَكُنْتُ بَوْحًا مَدَى السَّاحَاتِ مُنْعَتِقَا

وَلَسْتُ مَنْ تَدَّعِي حَرْفًا لِيَشْغَلَهَا

وَلاَ مِنَ الْفِقْهِ زَوْرَقًا لِأَخْتَلِقَا

لَكِنْ أَيَا نَجْدُ لِي سِرٌّ أَبُوحُ بِهِ

إِنِّي عَشِقْتُ فَهَلْ وَصْلٌ لِمَنْ عَشِقَا؟

لَوْ كُنْتُ أَمْلِكُ مِنْ أَمْرِي رَسَمْتُ مَدًى

لَكِنَّنِي قَدْ عَدِمْتُ الْحِبْرَ وَالْوَرَقَا


أهلا وسهلا بالمليك ووفده

و لنعد قليلا إلى الوراء وتحديدا إبان الزيارة المباركة لصاحب الجلالة الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز رحمه الله وطيب ثراه إلى نواكشوط سنة 1972 والتي كانت بداية عهد جديد من التواصل الثقافي الرسمي بين البلدين، حيث أن تلك الزيارة مازالت في ذاكرة الشعب الموريتاني ، و تتوارث أخبارها الأجيال

فبالرغم من تأكيدات الأطباء آنذاك أمام جلالته أن الحر شديد في موريتانيا و ينتشر فيها الجفاف، حين كان الملك مصابا بوعكة صحية، إلا أن جلالة الملك فيصل، أصر على زيارة بلاد شنقيط تفضلا منه وعطفا على الشعب الموريتاني ، وكان ذلك في عهد الأب المؤسس للدولة الموريتانية الرئيس الراحل الأستاذ المختار ولد داداه ، الذي قال كلمته المشهورة مرحبا بجلالة الملك فيصل: إنه لشرف عظيم وأمل تحقق ، أن أرحب بجلالة خادم الحرمين الشريفين وحارس الأراضي المقدسة ومحيي السنة النبوية الغراء و أحد القادة البارزين للعروبة والإسلام.

وقد خلدت القصيدة العصماء التي أنشدها علامة موريتانيا وشيخها الأكبر لمرابط بداه ولد البوصيري رحمه الله تلك الزيارة، حيث قال بعد أن زار الملك محظرته رفقة وفد من الجامعة الاسلامية:

لجامعة الإسلام في القلب موقع

أليس بها نور المدينة يسطع

وقد أحكمت أحكامها ودروسها

وهيئتها الحسنى هنالك تلمع

ولا عيب فيها غير أن دروسها

تقدسها غر المذاهب الأربع

حتى يقول:

أيا ملكا يدعى بفيصل جده

سعود، ومعلوم أبوك المشيع

فما الأمن إلا ما حوته دياركم

 وما اليمن إلا من بلادك ينبع

وما صغت هذا الشعر شعرا مطالبا

حطام الدنا كلا ولا شيء يصنع

ولكن اشاعات أتتنا فروعها

 فحتم علينا أن يرد المشيع

 وإبداء نصر للروابط بيننا

فجامعة الإسلام أبهى وأروع

فأهلا وسهلا بالمليك ووفده

ورايته بالذكر والسيف تقطع

ولقصيدة الامام بداه سلف، فقد مدح العلماء والشعراء الموريتانيون العائلة المالكة السعودية

وهنا نتذكر العلامة الدَّنَبْجَه بن معاوية وقصيدته التي ألقاها عام 1959م باسم حُجَّاج بلاد شنقيط أمام الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله، ومطلعها:

بِجَنْبَاتِ "الْمَصِيرِ" لَنَا عُهُودٌ

جَدِيرَاتٌ بِهَا مُقل تَجُودُ

فَصَبٌّ لاَ يَهِيجُ بِهِنَّ خبٌّ

وَعَيْنٌ لاَ تَجُودُ بِهَا جَمُودُ

حتى يقول متخلصا:

 عَلِقْتُ بِزَيْنَبٍ وَعَلِقْتُ هِنْدًا

وَغَرَّتْنِي الزَّيَانِبُ وَالْهُنُودُ

وَقَلْبِي الْيَوْمَ يَمْحَضُ وُدَّ سَلْمَى

وَلِي مِنْهَا الْخِيَانَةُ وَالصَّدُودُ

فَهَيْهَاتَ الْخِيَانَةُ يَا سُلَيْمَى

فَبُرْجُ الدِّينِ طَالِعُهُ السَّعُودُ

أَشَج زَمَانه وَأَشَج أَمْسي

لَهُ عَبْدُالْعَزِيزِ أَبًا يَسُودُ

يجود بماله طلقُ المحيّا

إذا كعْبُ ابنُ مامة لا يجودُ

لعمرك ما أبٌ كأبيه عدلاً

 ولا كجدوده عدلاً جدودُ

لقد حمدَتْ ولايتك الحبارى

 وأمُّ الخشف والوعل الحيودُ

وأهل البحر الأحمر حامدوها

وحامدة عدالتك الهنودُ

ولو قال الإله لهم: تمنّوْا،

تمنّوْا طول عمرك يا سعودُ


آلاف الخريجين

إن الحديث عن الاشعاع الثقافي السعودي المعاصر في موريتانيا يبدأ من أجيال الخريجين من الجامعات السعودية؛

وقد ظلت أفواجُ الطلاب الشناقطة تتوافد سنويًّا على الجامعات والمعاهد السعودية، وبلغ عددُ من تَخرج منهم ما ينوف على 1000 خريج في ميادين الشريعة، والحديث، والفقه، وعلوم القرآن، وأصول الفقه، واللغة العربية، والإنجليزية، والطب، والهندسة، والمعلوماتية، والتمريض، والإدارة، والتاريخ، والجغرافيا، والأمن، وغير ذلك من التخصصات التي تحتاج إليها دولةٌ لم تكن توجد فيها إلا جامعة واحدة، وقد احتلَّ خريجو الجامعات السعودية ومعاهدها مناصبَ سامية في الدَّولة الموريتانية في الإدارة، والتعليم، والصحَّة، والزِّراعة، والطب، ووصلوا إلى مناصب الوزارة والسفارة، وخدموا البلاد خدمةً ممتازة بكفاءة ونزاهة وإخلاص؛ لأنَّهم كُوِّنُوا تكوينًا سليمًا نافعًا للدِّين والوطن، وهذه ميزة يباهون بها غيرهم من خريجي الدول الأخرى من الموريتانيِّين.

ولم تكتف المملكة العربية السعودية بتعليم أبناء بلاد شنقيط في جامعاتها ومعاهدها المختلفة فوق أراضيها وحسب، وإنَّما قدمت كل المساعدات والهبات السخية لبناء المساجد ودور العلم داخل موريتانيا؛ حيث قَدَّمَ إليها جلالةُ الملك فيصل أعظم هدية وأسخى عطية هي بناء جامع المدينة المنورة في نواكشوط، الذي بني على نفقة جلالته - رحمه الله - وتبرَّع به أثناء زيارته الميمونة إلى هذه البلاد عام 1392هـ/ 1972م، وهو الآن الجامع الكبير، ويُعد معلمة حضارية وثقافية وتحفة فنية رائعة، كما قامت المملكة ببناء مدرسة الملك عبدالعزيز التي حُوِّلت إلى المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية عام 1399هـ، وهو بمثابة كلية لإعداد القُضاة والأساتذة في القضاء والشريعة، وهو اليوم أكبر مؤسسة تعليم عال إسلامية في البلاد، يدرس به ما يزيد على ستة آلاف طالب وطالبة..

وافتتحت المملكة مركز الدعوة والإرشاد السعودي بموريتانيا الذي كان يقوم بالتوعية والتثقيف عبر مكتبة المطالعة العامرة بأصناف المعرفة، ويوزع الكتب النفيسة، والمصاحف الشريفة، واللوحات الإعلامية الجميلة، وكتب المناهج والمقررات السُّعودية النافعة، كما تفعل سفارة خادم الحرمين الشَّريفين في نواكشوط والملحق الثقافي السعودي... وفي عام 1399هـ افتتح معهد العلوم العربية والإسلامية بموريتانيا، التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية؛ ليكون صرحًا علميًّا سعوديًّا شامخًا يخدم بلاد شنقيط وإفريقيا الغربية والمغرب العربي، وهو يَحتوي على المراحل المتوسطة والثانوية والجامعية، ويخرج كل عام أفواجًا من القراء والفقهاء والأساتذة في العلوم الشرعية والعربية، ويدرس به طلابٌ ينتمون إلى إحدى وعشرين دولة عدا دولة المقر: موريتانيا.

وقد بلغ عدد طلابه أكثر من ألف طالب سنويا، وبلغ خريجوه أكثر من 2000 موزعين على تخصصاتٍ عدة، والذي تعتبر هذه الرابطة التي أنشأها خريجوه دليلا على عمق الإشعاع الثقافي العلمي السعودي بموريتانيا..

وفي أوج تألق المعهد سنة 1985 زار مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية نواكشوط، ومازالت تتردد في مسامعنا القصيدة العصماء الترحيبية التي قالها الشيخ الشاعر أحمد محمود ولد المصطفى وهو طالب بالمعهد يومئذ:

 بشراك نلت مفاخرا من سؤدد

شنقيط يا أرض العلا فلتسعد

 قد حل أرضك ذي الحبيبة موكب

 بالعلم ساع يا له من مسعد

يسعى به عبد الإله التركي من

أجرى من العرفان أشهى مزبد

حتى يقول:

 أهلا به فرحا له جذلا به

 أهلا به من زائر في المحتد

 أهلا به وبوفده وبمن دعي

لقدومه وطريقه والمقعد


ثورة في الخط والصحافة

وقد عرف المعهد فترته الذهبية بعد تطور قسمه الجامعي الذي كان منهلا نهل منه مئات الطلاب من الدول الإفريقية وخصوصا على يد مديره الأديب الشاعر الدكتور هزاع بن عبد الله الغامدي، الذي سعى لافتتاح معهد كيفة الذي مازال يستقبل الطلاب إلى اليوم في مدينتي كيفة واسطة عقد البلاد، وقد عانق شعر الدكتور هزاع الرقراق الذائقة الموريتانية، حيث يقول:

غفا شجن يمتد في ساحه القلب

فأفلت من أسواره وانتشى الصب

وغنى قصيد الحب لا في بذاءة

تغنى له بل قوله الطاهر العذب

فشنقيط جادت بالوصال وفية

 كما جاد بالإلهام تأريخها الرحب

ومرت معانيها الحسان بخاطري

فأورق والأيام يأكلها الجدب

وآوى المعاني المشرقات كواحة

يروح بها سرب ويغدو بها سرب

 لشنقيط ما يحوي الفؤاد من الهوى

وشنقيط هذا البوح والشعر والحب

وقد قال محييا مسقط رأسي مدينة كيفة:

دعيت فلم أبد اعتذارا وتسويفا

ويممت محراب الهوى قاصدا كيفا

حنانيك أدميت الفؤاد صبابة

 إليك وما جردت رمحا ولا سيفا

تسامرني نجواك في الصحو والكرى

ورغم النوى تبقين في مهجتي طيفا

 فأضحى هوانا يا كيف آية

 وكل غرام قبله خلته زيفا

منحناك حبا صادقا فمنحتنا

مع الحب قدرا باللقاء وتشريفا

وبالغت في الإكرام حتى ظننتني

لفرط احتفاء صاحب الدار لا الضيفا

تعالت بركنيك المكارم والنهى

وقابلت في جنبيك قوما غطاريفا

وقد سبق اللقيا التقاء قلوبنا

على شرعة المختار هديا وتأليفا

وقد تجاوز تاُثير هذه المؤسسة العلمية التي خدمت بالبلاد ما يناهز ربع قرن مجرد مجال العلوم العربية والإسلامية إلى مجالات الحياة الثقافية المتنوعة؛

ويمكننا أن نذكر أن ترسيخ ثقافة الخط العربي المشرقية تجذرت على يد طلاب هذا المعهد، حيث شهدت نواكشوط طفرة في ورشات الخط التي زينت الواجهات والمكاتب منذ نهاية الثمانينيات وطيلة التسعينيات من القرن المنصرم، وظل هؤلاء مهيمنين على تلك المهنة حتى دخل الحاسوب عليهم المجال،

وفي مجال المسرح والصحافة الساخرة كان أوائل الممثلين وكتاب الصحافة الساخرة من خريجي هذا المعهد الذين تمرنوا عبر الأنشطة الطلابية التي كان ينظمها المعهد، وقد كان لي الشرف مع بعض الزملاء أن أنشأنا صحيفة حائطية ساخرة "سميناها " اضحك بعون الله" وأعتقد أن الزملاء في جريدة "اشطاري" عبد الباقي ولد محمد ومنير ولد اخليه استوحوا منها فكرة جريدتهم التي سيطرت على الصحافة الساخرة طيلة عقود..

 وفي مجال النشاط الرياضي طور المعهد هوايات العديد من طلابه، وكان الدكتور محمد ولد الحسن رئيس رابطة رخاء أول من أصدر صحيفة رياضية موريتانية اسمها "الملاعب"


اشعاع ثقافي متواصل

وختاما نقول إن هذا الاشعاع الثقافي السعودي متواصل، والعلاقات بين القطرين الشقيقين وقائديهما على أعلى المستويات تنمو وتزدهر باطراد، وخلال زيارة فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني للمملكة 27 فبراير 2020، شهد العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، توقيع أربع اتفاقيات ومذكرات تفاهم بين البلدين.

كان من بينها توقيع اتفاقية البرنامج التنفيذي للتعاون الثقافي بين وزارة الثقافة والصناعة التقليدية والعلاقات مع البرلمان في موريتانيا، ووزارة الثقافة في السعودية.

 وكان اختيار نواكشوط أكتوبر الماضي مقرا لمسابقة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز لحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة لدول غرب أفريقيا، وقد شارك في دورتها الأولى 136 متسابقا من 16 دولة، تنافسوا على حفظ القرآن الكريم وتجويده...كانت دليلا على أن بعد المسافة لم يكن يوما عائقا أمام الترابط الثقافي بين البلدين..

وكما قال الشاعر الكبير أحمدو ولد عبد القادر:

وادي الأحبة هلا كنت مرعانا

 ان الحبيب حبيب حيثما كانا

ويا أخا البعد هل تشفيك قافية

تبوح بالنفس أنفاسا وأشجانا

أف على الشعر والدنيا بأجمعها

 ما لم تقرب الى الإخوان إخوانا

هذه لمحة بسيطة عن بعض جوانب التواصل الثقافي بين البلدين ...

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته