Translate

الاثنين، 27 يونيو 2011

سجل تجاري للحجابين


محمد محمود ولد سيدي يحي

سمعت مرة سيدتين من أوساطنا الشعبية تتحدثان عن معاناة إحداهن من انحراف ابنها وسلوكه سبيل السرقة و"التلصص"، وقد انتهى الحديث بنصيحة للأم المنزعجة بالتوجه إلى أحد الحجابين ليقوم بما يسمى" تقييد اليد"،
وعندما سألت عن تقييد اليد قالوا هو "حجاب" يكف يد السارق فيصبح مستقيما.
ويروي العامة قصصا يومية حول "التظهار" ودور "الحجابين" المهرة في وضع مغناطيس سري يجذب السارق إلى حيث يسلم طواعية ما قام  بأخذه عنوة واختلاسا، والمؤمنون بها عن ظهر غيب خلق كثير.
وينجح بعض أذكياء الحجابين في إرهاب السارق حين يهدده بأنه سيتعرض للانتفاخ في بطنه أو يده إذا هو لم يسارع إلى الاعتراف.
أما أن تصادف شخصا كان مجنونا وتم علاجه على أيدي "الحجابين" وشفي باقتناع من أهله فذلك أمر شائع في هذه البلاد، فمكانة الحجابين أهل السر"المخدّمين" ما زالت محفوظة في قلوب فئات كثيرة من الموريتانيين.
وقد لعب كثير من أصحاب هذه المهن على الالتباس القائم في أذهان العامة بين البركة والكرامات والخوارق التي يجوز أن يختص الله بها من يشاء من عباده الصالحين، وبين أسرار الحروف والجداول المسماة عندهم بالحكمة "الكحلة".
وقد شكل ميراث مجتمع السيبة الموريتاني القديم  خلفية مؤسسة كانت فيها الفئات الممتهنة للعلم بحاجة  إلى سلاح  تواجه به ذوي الشوكة من المجموعات المحاربة، وهو ما عرف عند القوم بثقافة "تزبوت" التي قامت في الأصل على فكرة الانتقام الإلهي من الظلمة.
وبغض النظر عن ذلك الجدل الفقهي القديم حول جواز استخدام السحر لمعالجة المسحورين فيما يسمونه"النشرة" فإن علماء البلاد متفقون على التمييز بين الرقية الشرعية التي هي دعاء وضراعة إلى الله تعالى وبين تلك الأعمال التي تنتمي إلى إحدى الموبقات التي تواترت النصوص على تحريم تعاطيها وحتى تصديقها كما في الحديث "من أتى كاهنا أو عرافا فصدقه بما قال فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" أو كما قال.
والثابت تاريخيا عبر تجارب الديانات السماوية هو العداوة بين السحرة والكهان وبين المؤمنين لأن هؤلاء يقيمون علاقات غامضة بين العقائد الوثنية وبين الشعائر الدينية الصحيحة، بينما تقوم المناسك الدينية الصحيحة على التوحيد والممارسات التعبدية الواضحة كما بينتها النصوص.
ولا يستطيع المرء أن يجزم بنسبة الممارسات التي يتبعها الحجابون عندنا إلى أي من الأصناف نظرا لذلك الخلط المتعمد الذي يجعل الحدود هلامية بين الرقية والبركة والممارسات التي تشبه السحر، ويبقى الفارق الوحيد هو سمت الممارسين واستقامتهم على اتباع السنة والشريعة.
ويدلّ الإقبال الشديد الذي تشهده أبواب الحجابين على ظاهرة تستعصي على الفهم في ظل انتشار التعليم في صفوف فئات عريضة من المجتمع، وتزايد منابر الدعوة والتثقيف الديني في البلاد.
ولا يقتصر التزاحم عند أبواب "الحجابين" على النساء والأميين بل تروج شائعات في المدينة حول علاقات قوية تربط سوق الدجل بشخصيات من علية القوم وكبار الموظفين، وهو ما يستغله "الحجابون" أحيانا للدعاية وترويج بضاعتهم بين الناس.
صحيح أن تزايد المقبلين على خدمات مستشفى الأمراض النفسية والعصبية دليل على يأس الناس من ألاعيب " الحجابين" ودجل بعضهم، ولكن كثيرا من العائدين إلى "الأسباب الظاهرة " يقضون وقتا طويلا في اتباع الوعود الكاذبة قبل أن يقرروا الخروج من النفق المظلم. ولعل في ذلك دليلا واضحا على أن الاختصاصيين في العلوم النفسية والاجتماعية ما زالوا دون تلك المكانة التي تربع عليها " الحجابون" في عقول الموريتانيين منذ عقود.
وتشير دراسات اجتماعية غربية إلى أن المجتمعات المتقدّمة تشهد بدورها نكوصا باتجاه العودة إلى المعتقدات الخرافية والسحرية، ويعيدون ذلك إلى ما يسمونه الاغتراب أو حيرة الأفراد في ظل تفكك القيم العائلية والظمأ العاطفي الشديد.
وفي مجتمعنا الذي مازال ينعم بدفء العائلة والحميمية القرابية تبدو ظاهرة اللجوء إلى الحجابين وممتهني الدجل
تعبيرا عن مشكلة مختلفة ربما كان القلق على المصير وغموض المستقبل من عواملها الرئيسية.
ويسود اعتقاد لدى البعض بأن ممتهني "لحجاب" أصبحوا سلعة غالية في المنطقة العربية، ومن هنا فإن التغاضي عنهم في مصلحة البلاد ماداموا يدرون مبالغ محترمة من العملات الصعبة.
وانطلاقا من هذه النظرة المالية البحتة إلى عالم الأسرار والطلاسم من حقنا أن نطالب على الأقل بإنشاء نظام للسجل التجاري الخاص بهؤلاء يمكن البلاد من جني ضرائب تعود على خزينة الدولة بالفائدة، وتستعيد بعضا مما أنفقه آلاف المخدوعين على {ما يضرهم ولا ينفعهم}.
ويمكن استغلال الطاقات المزعومة لممتهني "لحجاب" بتوظيفهم في أجهزة الأمن حتى تنكشف قدراتهم الحقيقية في كشف المجرمين وتتبع مخابئهم.
 أما الذين يدعون علاج العنوسة والعقم فإن مصالح الشؤون الأسرية ومصحات الأمراض التناسلية قادرة على امتحانهم وكشف الدجالين من أصحاب البركات والكرامات من بينهم.
والتوجه الصحيح الذي ينبغي على السلطات العمومية في الجمهورية الإسلامية الموريتانية أن تقوم به في مواجهة انتشار ظاهرة الدجل وتسويق الخرافات هو تقوية المنابر الدينية التي تنشر العقيدة الصحيحة التي توجه الناس للاعتقاد في الله وحده، ونشر ثقافة العلم والمعرفة التي تقدم الأسباب الظاهرة والمعروفة على كل ما هو غامض وغريب.

الاثنين، 6 يونيو 2011

قيامة "الهول" البيظاني

محمد محمود ولد سيدي يحي
www.el-bahith.blogspot.com
يرفض عام 2011 أن يمرّ دون أن يحمل كل علامات القيامة الصغرى، فعلاوة على زلزال اليابان والزلزال السياسي العربي، والانهيارات الاقتصادية المتتالية في العالم المتقدم، كان حظ أمة البيظان هو أن تخسر رمزا من رموزها يجتمع حوله كل الناطقين بالحسانية من النيجر إلى موريتانيا ومن "كنار السنغال" إلى اكليميم في المغرب، إنها كوكب الطرب البيظاني المرحومة "ديم بنت آب"
يقول بعض أهل العلم "إن قيامة ابن آدم يوم موته"، ولاشك أن رحيل الفنانة ديم بنت آب عن عالم الغناء " البيظاني" كسوف كبير وقيامة صغرى كما تنبأ بذلك الأديب المرحوم باب ولد هدار عندما قال في مدحها قبل أكثر من عقدين:
مولات الهول إلى انكال
الهول الحك أو قيمي
يالقيام في الهول يال- 
-قيام قيم ديم
جمعت ديم ما لم يجمعه فنان موريتاني؛ جمال الصوت الفريد وقدرة هائلة على اللعب على أوتار القلوب عبر آردينها المعجز، واستطاعت أن تحتل واسطة العقد في سماء الطرب بعد أن حملت معها أحسن ما في مدارس الحوض وتكانت والكبلة.
كنت أقول دائما إن في نغمة ديم نبرة متصوفة لا يفقهها إلا من تصوّف في الهول الموريتاني، وقديما كان المتصوّفة أهل سماع، لأن الموسيقى في روحها أشواق مبهمة نحو الغيب، وقد نشأت على الأرجح في جو الترانيم الدينية في "زبر الأولين".
وكان من عجيب ذوقها المرهف اختيارها مدرسة المرحومة "فاطم بنت عوّه" في آردين، وحرصها على تسجيل أشرطة خاصة مع أكثر من تطرب له ديم "أمّ اختي بنت النانه"، ولقد سجّلت ديم رحمها الله شريطا فريدا لا يعرفه إلا متصوّفة الهول بعنوان "لحمار" أي التقليد، تحاكي فيه المرحومة "فاطم بينت عوّه" وأتت فيه بما لا يفهمه إلا من أوتي مزمارا من مزامير آل داوود.
المرحومة "ديم" كانت "مهلهل" الطرب الموريتاني الأصيل، الذي خرج به من المحلية إلى  المهرجانات الدولية، وحولته من مجرد التغني بأمجاد الأمراء والقبائل إلى "ريشة للفن" تسمو إلى مصاف الموسيقى العالمية، تعانق هموم المضطهدين في جنوب إفريقيا وفلسطين " ياربّ لابّارتيد تطيه اطياح امتين"، وتؤسس روح الوطنية "نختر عن كل أوطان، وطني موريتان".
رحلت ديم في قمة مجدها وعطائها، كأنما اختارت أن تعتزل في الوقت الذي يعتزل فيه كبار النجوم قبل أن تردهم دورة الحياة إلى أرذل العمر الفني، ولكن ميزة الفن هي أنه لا يهرم ولا يموت حتى أن كارل ماركس تعجّب وهو صاحب المادية التاريخية كيف نستمتع إلى اليوم بإبداعات الإغريق والفراعنة، ومن هنا فإن كوكب الفن البيظاني سيظل ساطعا في عليائه، لا يستطيع أن يطويه لحد أو جدث، وستشهد روائع "الحزام الأخضر" و"عيد المولود" و" الدعاية" و"البلاغات" وغيرها على كلمة التوحيد التي كررتها ديم بحنجرتها الذهبية، لتدخل مع الموحدين في جنة عرضها السموات والأرض، وستقف ديم في عرصات الجنة تطرب السامعين كما أطربتهم في الدنيا "حسن ظنّ بالله تعالى"، ولسان حالنا وحالها يقول كما قال عمر الخيام:
إن كنت قد قصّرت في طاعتك
 فإنني أطمع في رحمتك
 وإنما يشفع لي أنني
 قد بتّ لا أشرك في وحدتك
قال تعالى{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، اللهم اغفر لديم بنت آبّ وارحمها وتب علينا وعليها إنك أنت التواب الرحيم.


الأربعاء، 1 يونيو 2011

أكاديمية النجوم الموريتانية

محمد محمود ولد سيدي يحي
خطر لي ونحن على أبواب انفتاح إعلامي في مجال السمعيات البصرية، أن يكون أول تحدّ يواجهنا هو استعادة جمهور الشباب من أبنائنا وبناتنا الذين فتنتهم القنوات الفضائية الفنية عبر العالم.
 وجرني التفكير إلى رفض تلك المحاولات التي جربتها إذاعة الشباب والقناة الثانية للتلفزيون الموريتاني بتقديم نسخ مكررة من الأغاني والفيديو كليبات التي درجت تلك القنوات العربية والعالمية على تقديمها.
فالتقليد كثيرا ما يكون مشوّها ومتأخرا إضافة إلى ما يعنيه من استسلام لنموذج قيمي وأخلاقي غريب على مجتمعنا، وكان الأجدر بالإعلام الوطني أن يحاول إبداع نماذج موريتانية لا تسقط في وحل الفجور والخلاعة التي تسوقها تلك المحطات إلى أجيال غضة لم تتأسس شخصياتها بعد.
ماذا لو فكّرنا في إنشاء قناة فضائية تقدم لشبابنا نموذج النجومية والنجاح على الطريقة الموريتانية؟
ولا بأس هنا أن نخرج من تقليد غربي تلقفه إخواننا من عرب المشرق يحصر النجومية في الفنّ  كالغناء والتمثيل وعرض الأزياء الذي تحفل به قنوات" استار أكاديمي المعروفة".
ويمكن أن تقسم السنة إلى ثلاثة فصول يخصص الأول منها للنجومية الاقتصادية والنجاح في ميدان الشطارة و"التبتيب" ويخصص الثاني للنجومية السياسية ويكون آخرها متناسبا مع موسم الخريف ومخصصا للنجومية في مجال الفن والغناء والكوميديا.
ولا نقصد هنا ببرنامج النجومية الاقتصادية والتجارية النجاح في خلق مؤسسات منتجة أو حتى فن الترويج والإعلان لتقريب السلعة من المستهلكين، وذلك لأن شرط النجاح التجاري في هذه البلاد هو الاحتكار والمضاربات وقوة الجاه وصحبة ذوي السلطان وهذه أمور من المضنون بها على غير أهلها.
ومن هنا كان حريّا ببرنامج النجومية أن يقتصر على الشطارة وفن"التبتيب" وهو بوابة الاغتناء السريع عن طريق السمسرة، كما يشهد لذلك صعود فئات كثيرة من الشبان من خلال تسويق السيارات وما يسمى بال"بورصات"، ومضاربات القطع الأرضية، وبيع العملات في السوق السوداء، وحتى تيسير تأشيرات الدول الغربية وتزوير الوثائق الوطنية بمختلف أنواعها.
ويفضل للمترشحين لهذه المسابقة أن يكونوا من الفتيان ذوي القامات الفارعة والذين يحرصون على حسن الهندام ولا بد أن يتعرّضوا لامتحانات في التظاهر بما ليس عندهم، وإيهام أهل الطبقات الميسورة من المجتمع بالانتساب إليهم.
 ويتأهل للنجومية من ينجح في إقامة علاقات سريعة مع الموظفين العموميين بالقطاعات التي تعنيه من عمال البنوك والجمارك والولاة والحكام، ولا يحصل على الدرجة الكبرى والعلامة المميزة إلا من أوتي ملكوت الكذب والخيال الواسع وإشاعة الرشوة وجر الصالحين من العمال والمستخدمين العموميين إليها.
أما مسابقة النجومية السياسية على الطريقة الموريتانية فإنها خفيفة المئونة من حيث الهندام والشكل، فالأصل أن النجاح السياسي في هذه البلاد ممالا علاقة له بالبسطة في الجسم والعلم، وليس على من يتأهل للنجومية أن يكون خطيبا مفوها، لأن الطلاقة  والفصاحة من مهمة الأتباع والحاشية، والنجومية والقبول لا تتبع المهارات الفردية والبراعة السياسية، ولكنها تابعة لوهم النجاح نظرا لاعتقاد العامة في المقولة الشهيرة "لا تعاد منصورا".
وقد درج الناس عندنا على أن بيعة أهل الحل والعقد وأصحاب الشوكة كافية ليعلم العامة أن الشخص المتقدم في مضمار السياسة مظنّة النجاح، ولهذا فلا حاجة له بتحسين سيرته الذاتية، ولا  تنفعه سابقة البلاء والنضال في قضايا العامة، ولا يحسم الأمر كونه من عائلة معروفة بالفضل والبركة أو بالهيبة والمروءات، ولا تصدق عليه النظرية الخلدونية في قوة العصبية لأن مجرد مباركة الأقوياء تجلب له الأنصار والقبائل والشعراء والخطباء.
ولهذا فإن عموم تمارين النجومية في هذا المجال مقصور على التقرب من ذوي السلطان والشوكة، وإرضاء جميع الجهات الأمنية الوطنية والأجنبية، وكسب ثقة الشركاء والممولين الدوليين والشركات متعددة الجنسية، ولا ضير في استخدام القرعة بهذه المسابقة لأن ارتباطها بالحظ والصدفة شديد.
وتختلف أكاديمية النجوم في ميدان الغناء والطرب في بلادنا عما جرت عليه أعراف أهل الأرض، فالجمهور الذي يقبل ترشحه سيكون محصورا في دائرة أبناء العائلات الموسيقية التي ورثت فنها كابرا عن كابر.
ولا يشترط في المتأهل للنجومية كتابة الألحان باللغة الموسيقية العالمية، ويمكنه أن يختار كلمات أغنيته من ألفية ابن مالك أو أي نظم أو بيت شعر يقع عليه.
 ولا طائل من وراء محاكاة أكاديميات الآخرين بهذا الشأن في جمع المترشحين بمبنى واحد، وامتحان شخصياتهم وقدرتهم على الألفة الاجتماعية، لأن الأصل أن النجومية الفنية تقتضي التحاسد عندنا.
ويمكن أن تكون لجنة التحكيم من غير الوسط الفني لأن أحدا من القوم لن يقبل أن يصدر حكما قادحا في صوت فنان من عائلة معروفة مادام الحكم منسحبا على تراثها الفني العريق.
وسيقتصر مضمار التسابق على جمال الصوت وقدرة الفنان على الإتيان بال"ردّات" كما ينبغي مع بعض من "حوص الأشوار الزمنية".
 وبمقدور فنانينا أن يتمتعوا بفرص متساوية بغض النظر عن القامة والرشاقة وغيرها من الشروط التي عهدناها في أكاديميات النجوم العربية والعالمية لأنه من باب لزوم مالا يلزم في ثقافتنا المحلية.
وقد تفلح بعض قنواتنا في استصدار فتوى من فتاوي الضرورات بجواز  استعانة المرشحين للنجومية الفنية بحاشية من المخنثين تطبّل لهم  وتكيل الشتائم والسباب لأعدائهم وحاسديهم.
ولو نجح القيّمون على هذه القنوات في ترجمتها الفورية إلى اللغات العالمية كالإنجليزية والإسبانية والصينية فإنها ستصبح محط اهتمام جمهور عالمي نظرا لغرابتها كما تجلب قنوات السيرك المشاهدين.
 وعندها ستكون قنوات النجومية الموريتانية مصدرا للإعلان والعملة الصعبة وجلب السياح إلى بلاد العجائب والله أعلم.
  

الجنة المحرمة

محمد محمود ولد سيدي يحي
يستيقظ آلاف الشبان عبر العالم  ولكنهم لا يلبثون أن يستغرقوا في أحلام اليقظة؛ صور تترى ومغامرات توصل في النهاية إلى "الجنة المحرمة".
نضال كبير يخوضه الشباب الإفريقي، وسعي حثيث للوصول إلى الشواطئ الأوروبية والغربية عموما.
ولا شك أن الحيل التي يبدعها هؤلاء لنيل بغيتهم تنم أحيانا عن  أساليب إبداعية وعبقرية، فمنهم من يصبر على العيش أياما وليالي في حاوية للبضائع، ومنهم من يختبئ في كيس بين الأسماك، أو قرب محرك السفينة.
وفي أحيان كثيرة تتطلب الرحلة إلى بلاد السعادة توفير أموال لا بأس بها، يتم إنفاقها على المهربين عبر الشواطئ والحدود، وفي أعماق البحار.
 قوافل تترى ومخاطر لا تنتهي عند احتمالات اعتراض خفر السواحل الغربية التي أصبحت تجند الجيوش لإيقاف زحف "البرابرة" القادمين من كل مكان؛ لأن قراصنة البحر كثيرا ما يغدرون بالمهاجرين السريين في عرض البحر، وتروي قصص الناجين كيف يلقى بالمشاكسين في بحر الظلمات ليكونوا لقمة سائغة للحيتان.
وكثيرا ما كان الغرق في بحر لجي يغشاه موج مصير قوارب الموت التي تحمل هؤلاء إلى ظلمة القبر ووحشته قبل أن ينعموا بأنوار المدن الغربية وشوارعها الفسيحة.
ما يستغربه العالم  هو إصرار الشباب على المغامرة بالنفس والمال ومكابدة مخاطر مؤكدة رغم أن  سماء البحر ملئت حرسا شديدا وشهبا.
ولكن الغرابة تزول عندما يختبر المرء ما تتعرض له هذه الأجيال من حملات الإغراء والإغواء، ففي ظل الفضائيات وحضارة الموجة الثالثة يشاهد الناس يوميا بالصوت والصورة مفاتن العالم المتقدم التي تعرض عليه بكرة وأصيلا.
مجتمع الوفرة الذي يمكنك أن تعمل فيه كما تشاء وتقول ما تريد وتستمتع كما تحبّ، في مدن تراقب شوارعها بالكاميرات، وتعالج أمراضها بأشعة الليزر.
وفي المقابل تعمل حالة الإفقار العام والتصحر السياسي والاجتماعي والثقافي على فك الارتباط الطبيعي بين الإنسان ومحيطه، لأن جميع المؤشرات تقف سدا منيعا بين الشباب وبين الحلم بالنجاح أو تحقيق جزء يسير من الآمال العريضة على أرض الوطن.
ولا تبدو خطط التنمية ومحاربة الفقر التي يطبّل لها الغربيون إلا مهدئات لا تلبث أن يزول مفعولها سريعا، لتعود "أوجاع الإفاقة على التاريخ العاصف" على حد تعبير توفيق بكار.
قالوا لهم: اجلسوا في بلدانكم والبسوا أزياءكم الشعبية وارقصوا لنا وسوف نزوركم بين الفينة والأخرى سائحين لمشاهدة عالمكم البدائي  الغرائبي، وحتى لا تفسدوا علينا بيئتكم الطبيعية وتراثكم الذي سنصنّفه تراثا عالميا سنزودكم بقروض صغيرة ونجعلكم تعيشون على مبادرات "مدرة للدخل".
حاولوا أن تنظموا إنجابكم وتعدلوا قليلا من صورة هرمكم السكاني ليصبح متوازنا بين الشباب والكهول، غير أن ثالوث المرض والجوع والجهل يحرم تلك الوصفات التي تقدم كل مرة من أن تؤتي أكلها.
فالشباب بطبيعتهم "صادقون ومتحمسون" ويريدون أن يحظوا بالعمل في القطاع المصنف، ويقتربوا من رؤوس الأموال العملاقة التي كدستها الشركات متعددة الجنسيات هناك، ولا يمكن إقناعهم بالفتات مادامت روائح الأطعمة الشهية تزكم أنوفهم في العدوة الشمالية من البحر.
لقد تحدث فيلسوف التاريخ "أرنولد توينبي" عن خطر الهوامش على الحضارات، ولا دليل على أن ما فعله الهكسوس والوندال والمغول ذات مرة في حضارات الماضي غير قابل للتكرار في عالمنا اليوم.
إن أسراب المهاجرين السريين الذين يتحدون جميع الإجراءات التي تقام هنا وهناك لصدهم عن هذه الجنة المحرمة تعبير حقيقي عن أن رياح العولمة تأتي بما لا تشتهيه سفينة الأقوياء.
ويخشى أن يكون زمن الحلول الترقيعية لتثبيت البشر والرمال الزاحفة قد ولّى، كما أن الأساليب الاستعمارية التقليدية في استغفال الشعوب والانفراد بمباهج الحياة دونها لم تعد قابلة للاستمرار.
وعما قريب سينتشر فقراء العالم الثالث في تلك الشوارع الفسيحة وسترتمي على جنباتها قاذوراتهم وأوساخهم وأوبئتهم التي ترافقهم.
 ولن يكون بمقدور أصحاب الجنة أن يقولوا {لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين}، لأن آلاف خفر السواحل وحرس الحدود لا يستطيعون إيقاف سيل الملايين الذين يتدافعون للوصول إلى تلك الشواطئ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم في سبيل ذلك.
لا بد إذن من تجاوز الحلول المؤقتة، ومعالجة القضية من جذورها ومراجعة التوزيع الظالم للخيرات بين شعوب الأرض، وإلا فإن موسم الهجرة إلى الشمال سيشهد على "تغريبة هلالية" جديدة، وربما كانت أعمالنا السيئة سببا مباشرا في تحقيق نبوءة الكتب الدينية عن هجوم ياجوج وماجوج {وهم من كل حدب ينسلون}.
 وعندها سينشد لسان الحال على أطلال حضارتنا التي {أخذت زخرفها وظن أهلها أنهم قادرون عليها} مع الشاعر نزار قباني:
 واليوم لا نار ولا جنة
هذا جزاء الكفر يا كافر.

  

الثلاثاء، 31 مايو 2011

الإشارة في تدبير الوزارة

محمد محمود ولد سيدي يحي
كتبت إليّ -هداك الله- تسألني عن أمر الوزارة  وما يجب توفره  في المرء من الشروط حتى يكون أهلا للتوق إليها والطمع في تسنّم ذروتها، وما يحتاجه في نفسه وأهله من الأمارات حتى ينال رضى ولي الأمر و يكون مثل الحسن بن سهل مع المأمون ولسان الدين بن الخطيب في بلاط بني الأحمر.
 وقلت جعلنا الله وإياك من أهل الحظوة في الدارين أن مما يزهدك في هذا المنصب العظيم الذي يتسابق إليه  الناس في هذا الزمان ما لحقه من غبار الديموقراطية التي رمت به حتى صار مطمعا لمن هب ودب، ودخل في عداد أحلام العامة من السوقة والدهماء التي ظل إلى عهد قريب مما لا تطمح إليه.
وذكرت في كلامك ما درج عليه أسلاف هذه الأمة منذ ابن المقفع ومرورا بفقهاء الآداب السلطانية وانتهاء بالعلامة عبد الرحمن بن خلدون الذي جعل هذا المضمار علما أفرده في مقدمته العجيبة، وعرجت في ذلك على كتاب "الإشارة في تدبير الإمارة" للإمام الحضرمي المرادي دفين عاصمة المرابطين، وقلت: إنما أريدها إشارة في تدبير الوزارة لأن الدساتير العصرية فصلت أمر الإمامة العظمى تفصيلا لأنها مما يكثر الخلاف حوله في أمور السياسة، ولكنها لم تجعل للوزراء من العناية ما يساوي مشقة مهامهم؛ فكأنهم "لحم الرقبة مأكول ومذموم".
وسقت في حججك التي بثثتها في كتابك ما لا يعدّ ولا يحصى مما يتعرّض له أعضاء الحكومات من أصناف المتاعب ممن فوقهم ومن تحتهم، وخصوصا ما ابتلاهم الله به من أمر هذه الهيئات التشريعية التي يسمونها البرلمان، وكيف يحتاجون إلى ما يقطعون به عنهم ألسنة الخلق من متفيهقي الصحافة الذين لا تقوى أقلامهم إلا من لحوم المسئولين وأكل غيبتهم...إلى غير ذلك مما أطلت فيه وفصّلت.
ولقد قلت في نفسي بعد تصفّح كتابك إنك ربما أخطأت في العنوان أو أرسلت رسالتك إلى فلان وعلان من أهل هذا الشان.. وعزمت على تجاهل مطلبك، ولكنك عدت إلى المراسلة وأمعنت في المجادلة.
 فما كان مني إلا أن بتّ على الاستخارة لعل الله يلهمني أمر رشد يعزّ فيه أهل الطاعة ويذلّ فيه أهل المعصية، ويكون من باب كرامات الصالحين ممن وهبهم الله علوما من غير دراسة ولا تجربة كما وقع لكثير من أولياء الله بهذه الصحراء المباركة، وقد علمت المثل القائل"خذوا الحكمة من أفواه المجانين، واطلبوا العلم ولو في الصين"
فقلت وعلى الله المتّكل:
اعلم هيأك الله للتعيين وجعلك به من الفائزين أن علماء اللغة العربية اختلفوا في أصل الوزارة هل هي من الأزر أم من الوزر.
وقال أهل التحقيق إنها  تبدأ شدّا لأزر وليّ الأمر، ولكنها كثيرا ما تنقلب وزرا على صاحبها إذا لم يحسن صحبة السلطان ويتأدب الآداب المطلوبة في قضاء حوائج العامة، واسترضاء المنتخبين من فرق البرلمان، وغيرهم من متربّصي الصحافة.
وقد قال بعض من ينتسبون إلى العلم أن الوزارة الشرعية محصورة في القرابات واستدلّوا لذلك بقوله تعالى على لسان كليم الله موسى عليه السلام {واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي}، ونسي هؤلاء أن ذلك من خصوصيات الوزارة في أمور الدين وتبليغ الوحي. أما في شؤون السياسة فإن الوزارة  تكليف لا تشريف يهبه ولي الأمر لمن شاء من رعيته شريطة الولاء التام والطاعة في المنشط والمكره.
ولا عبرة بما يدعو إليه الغربيون من حكومات التأليف والائتلاف التي تتكون من أعضاء لا يجمعهم مشرب واحد ولا يأتمرون بأمر وليّ الأمر وحده؛ فتراهم يعودون لأحزابهم ويستشيرونهم في كل صغيرة وكبيرة لأنه مناف لما نصّ عليه صاحب المقدمة من انفراد السلطان بالمجد، ولأن فيه من الوثنية السياسية ما لا يوافق عقائد الموحدين.
 وقد نمى إلى علمك ما نصّ عليه دستور هذه البلاد الذي جمع الأمر كله بيد وليّ الأمر ولم يعط الوزراء إلا بمقدار ما ينفذون التوجيهات السامية ورسائل التكليف، فلا يغرنك ما يقال مما يقصد به تأليف زعماء الأحزاب وغيرهم لأن رضى الناس غاية لا تدرك و{لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم} وخليق بهؤلاء أن يكون الحكم جواز مداراتهم بما ليس في حقيقة الأمر لأنهم كالفرس والمرأة وغيرها من لوازم البيت التي أجاز الفقهاء الكذب عليها استرضاء وتأليفا.
ونحمد الله على أن أمر المذهبية الحزبية لم يخالط شغاف قلوب ساكنة هذه الصحراء فيسهل أن يعين الوزير عن حزب فينتقل عنه إلى غيره، أو يكون من مؤمني آل فرعون يكتم إيمانه ولا يلبث أن يعلن ذلك، وفي ذلك قال الشاعر مضمنا بيت سلفه:
 نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحبّ إلا للوزير الأول
ولا يجهل مثلك ما جرى على ألسنة الناس في بلادنا من أن "الحكومة لا تكسو أحدا ثوبا إلا خلعته عنه" وهم يعبرون عن ذلك بالسروال وهو محل ستر عورة الرجل، فكأنهم بذلك ينصحون القادم باتخاذ ملابس داخلية يستعد بها لما هو لابدّ نازل به من زوال النعمة حتى لا تنكشف عوراته للناس.
وقد جرى عرف الموريتانيين أن ما يستر عورة المسئولين عند أنصارهم هو مقدار ما جروه من نفع مباشر عليهم من أعطيات عينية أو إقطاعات عقارية أو وساطات نافذة، أما ما يتشدق به الغربيون من أمر الشفافية فإنه نقيض ستر العورة في الأحكام السلطانية الموريتانية، وعلى من يعتمد عليه أن يحفر قبره السياسي بيده اللهم إلا إذا بدّلت الأرض غير الأرض وتغيرت العقليات في لمح البصر وما ذلك على الله بعزيز.
 أما بقية هذا العلم فإنه نفيس وهو من المضنون به على غير أهله لأن فيه من أسرار الحروف والعجائب ما لا يجوز إفشاؤه على الملأ والله المستعان.



الخميس، 26 مايو 2011

موسوعة جينيس الموريتانية

 محمد محمود ولد سيدي يحي
لا يذكر المرء من الأرقام القياسية التي تفاخر بها بلادنا إلا ما يؤثر عن قطار الزويرات نواذيبو الذي يدّعون أنه أطول قطار في العالم.
غير أن المتأمل لحياة هذه الأمة الموريتانية الطيبة يستطيع أن يكتشف مجالات عديدة حطمنا فيها الأرقام القياسية العالمية ولكنها لا تتعلق بالضرورة بالاقتصاد أو المنجزات التكنولوجية.
ولقد كان من أول الأرقام التي اشتهرت بها البلاد منذ الستينيات ما عرف ببلاد المليون شاعر، ولا شك أن الرقم الذي لا يخلو من مبالغة يشير إلى دهشة زوار البلاد الأوائل من العرب الذين فاجأهم هذا الحضور القوي للثقافة العربية الكلاسيكية العالمة في ذلك الركن القصي المحصور بين الصحراء والمناطق المدارية.
ولعل من الأرقام التي تجاهلها المهتمون عدد حفاظ القرآن العظيم ونص خليل بن إسحاق المالكي و ألفية ابن مالك، وتتميز موريتانيا من بين معظم البلدان الإسلامية بأن معظم مصلياتها تتوفر على حفاظ يرتلون كتاب الله استظهارا في شهر رمضان وهو ما يعتبر رقما قياسيا مقارنة بعدد السكان.
ولقد دهش الرحالة والمستكشفون الاستعماريون الأوائل من عدد من يقرأون ويكتبون العربية في هذه المنطقة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مقارنة مع عموم ما عليه الحال في القارة الإفريقية وشعوبها المختلفة.
بيد أن الأرقام القياسية لا تقتصر على الجوانب الإيجابية؛ فلو أننا توجهنا إلى الحياة العصرية لوجدنا أن الموريتانيين يضربون الرقم القياسي في المكالمات الهاتفية، مقارنة مع أرقى الدول الصناعية، وهو رقم يعكس مستوى التبذير والإنفاق التفاخري الذي لا أظن شعبا يضاهي ساكنة هذه البلاد فيه.
ويبدو الشاي الموريتاني الأخضر بجيماته الثلاث "اجر واجماعة واجمر" أطول أنواع الشاي وأكثرها استهلاكا للوقت، ويمكننا أن نخمن أن معدل ما ينفقه الموريتاني العادي على الشاي سنويا يبلغ نسبة من دخله تفوق مقدار ما ينفقه الفرد في شعوب الصين وآسيا الشرقية التي صدرت إلينا هذه العادة الغذائية حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية.
وسيكون طريفا لو جمعت ألبسة الشعوب وقيس مقدار القماش الضروري لها، وعندها سيحتل لابسو الدراعة الذين لا ينحصرون في شعبنا قمة الهرم لأن ثوبا من عشرة أمتار يبدو الأكثر استهلاكا للقماش.
ولا نبالغ إذا قلنا إن معدل الطلاق في بلادنا أعلى بكثير من مستواه في جميع البلدان العربية والإسلامية، ويخفف من وطأة هذا الفشل العائلي ما يقبله مجتمعنا تقليديا  من الزواج بالمطلقات  الذي يصل أرقاما قد تصبح يوما ما قياسية عندما تتوفر إحصائيات دقيقة وحالة مدنية موثقة.
أما إذا نحن تجاوزنا الجوانب الاجتماعية العامة إلى مؤشرات التنمية التي يقاس بها تقدم  الأمم فإن المدرسة الوطنية الحديثة تراجعت عن محصول المحظرة الذي فاخرنا به في بعض المراحل الماضية؛ وفيما عدا تشاد يصر تقرير التنمية للأمم المتحدة على أن أداء نظامنا التربوي هو الأقل مردودية في العالم.
أما حجم  الرعاية الصحية وفاعليتها فإنها لا تتسم  بنفس السوء رغم أن عدد وفيات الأمهات بسبب الولادة  مازال مرتفعا، ولكن مدينة نواكشوط عاصمتنا الفتية تحتفظ برقم قياسي بين أقل عواصم العالم شوارع معبدة إضافة إلى كونها أفقر المدن المماثلة في مجال خدمات النظافة والصرف الصحي وأماكن الترفيه.
ولو أننا اتجهنا قليلا صوب المؤشرات السياسية العامة فإننا من أندر بلدان العالم الثالث التي لا يتسم انتقال السلطة فيها بالدموية ويعيش معظم رؤسائها السابقين أحياء.
 غير أن الاهتمام بالسياسة في حياتنا اليومية ومقدار ما تشغله من أحاديثنا يفوق أضعافا مضاعفة ما عليه الحال لدى مواطني الأمم المتقدمة، وتفوق نسبة أحزابنا الستين ومنظماتنا غير الحكومية الألف وتعاونياتنا التي تجاوزت عشرة آلاف  ما عليه الحال في كثير من البلدان مقارنة مع عدد سكاننا الذي لم يتجاوز الثلاثة ملايين.
وأخشى أن نكون قد سجلنا رقما قياسيا في عدد السياسيين الناجحين الذين أثروا من المال العام وعلى حسابه،  وربما كانت موازنتنا المالية أكثر الموازنات صرفا على التأثيث والصيانة والورشات والملتقيات  وما يسمى التسيير مقارنة مع ميزانيات الدول المماثلة.
ولا نريد هنا أن نرسم صورة كاريكاتورية قاتمة فموريتانيا أقل بلدان العالم تلوثا بيئيا على الأقل في مجالها البري لأن البيئة البحرية في شواطئنا تعرضت لاستنزاف شديد وتلويث شجعه ضعف الرقابة في بعض المراحل السابقة.
ونحن والحمد لله في مقدمة البلدان من حيث عدد الأولياء والصالحين، وبإمكاننا لو أردنا ذلك توظيف مهارات مشايخنا وحجّابينا  في تحقيق إنجازات رائعة ولكن تيار الإنكار والعلمانية الذي بدأ يغزو أجيالنا الشابة حال بيننا وبين الاستغلال الأمثل لهذه الطاقات المعطّلة!!
ومن نعم الله التي لا تحصى جهل المانحين الدوليين بالشريعة الإسلامية لأنهم لو علموا ما بهذه الصحراء من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم  من الشرفاء لما تجرأوا على توزيع صدقاتهم علينا لأن معظم أبناء شنقيط هم ممن تحرم عليهم الصدقة وتجوز لهم الهدية، ولو بقيت أخلافنا على ما كان عليه السلف البعيد من التشيع لكان في الخمس مندوحة ولكن الحمد لله على عقد الأشعري وفقه مالك واتباع طريقة الجنيد السالك.
وبإمكان موسوعة جينيس أن تنتظر جيلا أو اثنين حتى يصبح التسابق في الأرقام القياسية عادة موريتانية ويتم تطبيق الخطط التنموية لحكوماتنا المنتخبة، يومها سنكون قادرين على تسجيل أرقام أفضل في ميدان السبق التكنولوجي والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية.

الأربعاء، 25 مايو 2011

ولد سيد يحي للأخبار: نتمنى أن تخلي السياسة متنفسا للقول العلمي ! مقابلة مع موقع وكالة الأخبار المستقلة



قال الباحث الاجتماعي محمد محمود ولد سيدي يحي إن الاستنزاف السياسي اضعف دور القبيلة العام وزاد الانقسامية؛ حيث تحررت العديد من المجموعات التي كانت تعاني من تراتبية عهد السيبة وظهرت سلاسل أنساب جديدة، و تفككت الأسرة الكبيرة وزاد الطلاق وانحراف الأحداث، وتراجعت مكانة المرأة الصنهاجية القديمة أمام البغاء والعنف الزوجي وزواج السرية الذي فتح بوابة للتعدد في أوساط لم تكن تقبله.

وقال ولد سيدي يحي في حديث خاص مع وكالة "الأخبار" المستقلة إن الإنهيار أنتقل إلي المستوي الديني حيث ضاقت فئات الشباب المتديّن بالثقافة التقليدية للمحظرة والطرق الصوفية وساهم الانفتاح في دخول تيارات سياسية و فكرية حديثة على الخط نلمسها اليوم بجلاء.

وأضاف :" إن من ينظر اليوم إلى قطعان الماشية التي ترعاها سيارات رباعية الدفع، يعلم أن أثاث الخيمة لم يتغير وحده وإنما تغير المجتمع الموريتاني".


وهذا نص المقابلة:

الأخبار: لقد أطلقتم في كتابكم على المجتمع الموريتاني وصف المجتمع الفضفاض، ماذا تقصدون بذلك؟

م. م. سيد يحي: أولا أشكركم في وكالة الأخبار المستقلة على هذه العناية بالشأن الفكري والثقافي في بلد طغى فيه صوت السياسة على كل شيء.

في منتصف تسعينيات القرن المنصرم كتبتُ مقالا في جريدة البيان تحت عنوان "المجتمع الفضفاض"، كانت البنوك الاستثمارية تفلس بسرعة، وكان الصيد نهبا للرخص الفوضوية، والتعيينات السياسية بدون أي معيار، وحتى على الصعيد الاجتماعي والعائلي برزت ظاهرة النساء الملثمات اللاتي يقفن صفوفا على الشوارع ليتسابق إليهن سائقو السيارات الفارهة.
لاحظت يومها أن المجتمع يعرف تحولات عاصفة، وأن قادة الرأي فيه مطالبون ببناء ملاذات آمنة حتى لا ينتهي مساره بالفوضى، ووقع اختياري على الفضفضة كعنوان للمقال وللكتاب الذي جاء بعد ذلك بعدة سنوات، لأن المجتمع يلبس ثوبا قديما من القبلية وعادات الإنفاق التفاخري ولم يوفق بعد في اختيار الثوب العصري الذي يناسبه.

الأخبار: تقولون إن المجتمع الموريتاني القديم شبه أمومي، هل لكم أن تشرحوا وتبرروا هذا الرأي وأهم معالم النظام شبه الأمومي وانعكاسات ذلك في الواقع الاجتماعي الحالي؟

م. م. سيد يحي: كانت مقولة الأمومية محاولة للرد على بعض الزملاء الذين يستسهلون وصف المجتمع الموريتاني بأنه أبوي على غرار المجتمعات العربية الأخرى، وبدا لي أن الشواهد التاريخية عن مجتمع صنهاجة القديم وحضور المرأة الموريتانية القوي في البيت والعائلة حتى اليوم، وسهولة تقبل الطلاق وخصوصا لدى البيظان لدرجة أن الآباء غير مساءلين اجتماعيا عن نفقة أطفالهم كلها مؤشرات على أن التقاليد الأمومية لسلفنا الصنهاجي مازالت حاضرة.

ففي التقاليد الأمومية يتحمل الأخوال نفقة أبناء الأخت لأنهم من كان يرثهم قبل تغلغل الشريعة الإسلامية في حياة الناس، وهذا ملموس لدى إخواننا الطوارق إلى عهد قريب.
وقد شرح الدكتور الشيخ أنتا جوب رحمه الله من السينغال هذه الفكرة كثيرا عن المجتمعات الإفريقية في المنطقة.

وفي المجتمع الموريتاني الحديث تسود الأسرة "مركزية الأم" وخصوصا أن الإحصائيات الرسمية تؤكد أن ثلث الزيجات تفشل بينما تعول النساء ثلث الأسر، وذلك ما يخلق مشاكل اجتماعية وأخلاقية كثيرة في مجتمعنا الحديث.

الأخبار: تكلمتم عن "السحوة" في المجتمع الموريتاني وعرضتم للتحلل من هذه القيمة في حفلات الزواج وما شابهها هلا وضحتم لنا ذلك؟
م. م. سيد يحي: مثلت تقاليد التحاشي كما يسميها علماء الانتروبولوجيا حدودا لتنظيم علاقات كثيفة في المجتمعات التقليدية، وما أردت توضيحه في تناولي لموضوع السحوة هو تمييزها عن الحياء الشرعي الذي هو من شعب الإيمان، ورغم أن البعض اليوم ينتقد الآثار السلبية للسحوة على النساء اللواتي لا يتجرأن على متابعة الفحوصات الضرورية للحمل، أو حتى إرضاع الطفل والتعبير عن الحنان الأبوي تجاهه، إلا أنني أردت أن أبيّن أن هذه العادات ليست متزمتة في المجتمع القديم حيث يسمح للشباب في الأعراس بأحاديث قد تبدو إباحية وذلك كنوع من التثقيف الجنسي للزوجين الجديدين في مجتمع تقليدي.

طبعا كان من الضروري أن نعرف أننا بحاجة إلى ثقافة جنسية عصرية، ولكن التضايق من جدران السحوة التي بدأت تتهاوى تحت تأثير الفردية والجدران الإسمنتية، هذا التضايق ليس مبررا دائما لأن للسحوة جوانبها الإيجابية عندما تحمي حياة الأسر الجديدة من تدخل كبار السن في شؤونها بشكل صريح ومباشر، كما تمنع ولو مؤقتا من التدخين أمام الكبار, فللظواهر الاجتماعية وظائفها المتعددة التي تختلف أحيانا عن المبررات العلنية التي يقدمها المجتمع لتسويغها.

الأخبار: تحدثتم عن بعض الشخصيات الأسطورية في الميثيولوجيا الموريتانية " سعاد ولاله" ما هي هذه الشخوص؟

م. م. سيد يحي: كثيرا ما تكون الميثيولجيا تبريرا متأخرا ومغلوطا أحيانا لظواهر سابقة، وبالنسبة لأسطورة سعاد تلك الجميلة التي تفتن رجال الحي عن زوجاتهم، حاول المجتمع الموريتاني أن يجد تبريرا أسطوريا لظاهرة الفتور العاطفي والفشل الزوجي الشائع لدى شرائح كثيرة.

وكما أشرنا من قبل فإن سلفنا القديم كان ليبراليا في العلاقات الزوجية حتى أن فقيه المرابطين عبد الله بن ياسين كان يطلّق ويتزوج بمعدل شهري أحيانا، فالسيدة سعاد التي تحول بين المرء وزوجه معروفة منذ القدم، وفي نظري أن حياتنا المعاصرة وضرورات تربية الأطفال تقتضي من الآباء تعاملا أكثر جدية مع الرابطة الزوجية التي سماها الله "ميثاقا غليظا".

الأخبار: تضمن كتابكم مقالا بعنوان "الإسلام الموريتاني بين راديكالية "شرببه" وعلمانية "الزوايا" ما ذا تقصدون في هذا العنوان؟

م. م. سيد يحي: كتبت هذا المقال في سياق جدل أثاره مقال لأستاذنا الدكتور عبد الودود ولد الشيخ حول الاستبداد الموريتاني وأعاد تصلب النظام يومها من بين أمور أخرى إلى جذور التزمت المرابطي، وحاولت خلاله أن أقدم تصورا لسوسيولوجيا التديّن الموريتاني، يؤكد رغم ما يبدو من طابع المداراة العام الذي طبع علاقة فقهاء السيبة مع الأمراء على الروح النقدي المضمر لذلك التدين الذي يبدو مهادنا.

وبالنسبة لي كان استسلام الفقه السلطاني للأمراء الظلمة في تاريخ الإسلام عموما رفضا ضمنيا لسلطة الضرورة وشرعية محدودة تعتمد على خوف الفتنة، ومن هنا ظل الفكر الإسلامي رغم فقه الطاعة الذي ساد، قادرا على إنبات حركات تجديد فكري وسياسي مثل المرابطين والموحدين والحركات الحديثة كالوهابية في الجزيرة والسنوسية في ليبيا والمهدية في السودان، والحركات الإسلامية الحديثة.

والخلاصة التي أوضحتها هي أن علمانية تقسيم العمل بين زوايا ومحاربين وهو تقسيم بالمناسبة تقليدي راسخ في مجتمعاتنا الإفريقية قبل الإسلام، لم تمنع هذا التدين الموريتاني من الاحتفاظ بجذوة شرببة حتى عندما أفتى فقهاء من ذوي الأفق الاستيراتيجي بالتعامل مع المستعمر فإنهم كانوا آخر المعاقل المقاومة ضد ثقافته كما شهدت عليه حرب المحظرة والمدرسة التي ما زالت قائمة حتى اليوم رغم رحيل المستعمر.

وقد دعوت بصراحة لتحرير سلطة المرجعية الدينية"المجلس الإسلامي الأعلى مثلا" في بلادنا من سيطرة الحكومة، وجعل الوظائف الدينية العليا مستقلة وخاضعة لمنطق تزكية وانتقاء خاص يحررها من الخضوع لرغبات الحكام، فما أفسد التديّن وقتل أخلاقيته العظيمة مثل اعتباره وظيفة سلطانية.

ومن ثم فإن حرية القول في الدين وتوجيه المجتمع ستكون متحررة نسبيا كما كان فقهاء عصر السيبة تجاه أمرائهم، وهذه هي العلمانية بمعنى تحرير الدين من الخضوع لأهواء الحكام.

الأخبار: وكيف ترون من زاوية علم الاجتماع المجتمع الشنقيطي القديم مبرزين أهم التغيرات التي حدثت في البنية الاجتماعية بينه وبين المجتمع الموريتاني الحديث؟

م. م. سيد يحي: لا يحبذ الاجتماعيون اليوم الحكم القيمي على المجتمعات القديمة بمعايير مراحل لاحقة، ويفضلون النظر إلى كل عصر بأنه أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، صحيح أن الماضي جزء من الحاضر ومؤثر في المستقبل، إلا أن تنصيب أنفسنا قضاة على الأسلاف كما تفعل بعض التيارات اليوم لا يخلو من تجنّ.

ويبدو أن البنية الاجتماعية لمجتمع السيبة الموريتاني القديم عرفت تغيرات هامة مع الاستقرار النسبي الذي أحدثه الاستعمار عندما فرض قيادات محلية في مجتمع انقسامي، إلا أن التغيرات الكبرى بدأت مع الجفاف في السبعينيات ومع الهجرة إلى المدن، حيث اضطر الناس إلى الدولة الحديثة وخدماتها، وتمت عملية تمزق واضحة لأجهزة الدولة الضعيفة أمام ضغط الحاجات المتزايدة.

وكان العامل الحاسم الثاني هو أحداث 1989 وديمقراطية التسعينيات وما لحقها من ليبرالية خلقت ظواهر التبتتيب والكزرة والفساد المالي الذي لم يكد يسلم بيت موريتاني من دخنه.

لقد أضعف الاستنزاف السياسي دور القبيلة العام وزاد الانقسامية؛ حيث تحررت العديد من المجموعات التي كانت تعاني من تراتبية عهد السيبة وظهرت سلاسل أنساب جديدة، وعلى المستوى العائلي كما أسلفنا تفككت الأسرة الكبيرة وزاد الطلاق وانحراف الأحداث، وتراجعت مكانة المرأة الصنهاجية القديمة أمام البغاء والعنف الزوجي وزواج السرية الذي فتح بوابة للتعدد في أوساط لم تكن تقبله.

وحتى على المستوى الديني ضاقت فئات الشباب المتديّن بالثقافة التقليدية للمحظرة والطرق الصوفية وساهم الانفتاح في دخول تيارات سياسية و فكرية حديثة على الخط.

إن من ينظر اليوم إلى قطعان الماشية التي ترعاها سيارات رباعية الدفع، يعلم أن أثاث الخيمة لم يتغير وحده وإنما تغير المجتمع الموريتاني، ونحن للأسف الشديد لا نتوفر على دراسات شاملة لرصد مختلف التغيرات لمعرفة مدى التعديل الكبير الذي مس سلم أولويات القيم عندنا والذي اختلف كثيرا عن قيم المجتمع الشنقيطي القديم، ولا أدل على ذلك من الدلالة السلبية لكلمة شنقيطي في بلاد الحجاز اليوم بعد أن كانت منذ عقود رمزا للورع والعلم.

الأخبار: في ظل طغيان السياسة على الاهتمام والتقويم كيف ينظر الباحث عموما والاجتماعي خصوصا إلى موقعه في موريتانيا اليوم؟

م. م. سيد يحي: لقد عبر الباحث الاجتماعي الكبير الدكتور عبد الودود ولد الشيخ عن مأزق الباحثين عموما في مجتمع طغت فيه السياسة على كل شيء وأصبح "الجاه" حسب التعبير الخلدوني موجها لكل شيء حتى البحث العلمي على ضآلته.

لقد كتب الرجل الذي نفاه جو موريتانيا الطارد للكفاءات في مقدمة مجلة الوسيط التي كان المعهد الموريتاني للبحث العلمي يصدرها افتتاحية تحت عنوان "من أجل حزب العلم"، ولكن الواقع رد عليه بأنه لا مجال إلا لحزب حقيقي واحد هو حزب المتنفذين الذين جعلوا العلم والمتعلمين في حضيض سلم المجتمع في بعض الفترات.

نحن نتمنى حقا أن تخلي السياسة متنفسا للقول العلمي وللأفكار غير الديماغوجية، حتى تنمو من جديد سوق للأفكار على هامش السوق الكبير للبضائع والأصوات المعبر عنها بلغة السياسيين، وبالنسبة لي فإن الباحث مطالب بالتعامل مع الواقع والاندماج فيه لأن ادعاء العصمة والترفع عن المجتمع لا يفيد.

وإذا كان العلم الإنساني بطبيعته نقديا وتنويريا فإن ذلك لا يحجر على الباحثين ويلزمهم بخيار سياسي بعينه في النهاية؛ فدور مؤمن آل فرعون يفيد أحيانا رغم أنه لا يضاهي دور موسى عليه السلام.

وممتهنو الفكر مضطرون في عالمنا الثالث لمداراة السلطان وخصوصا أن المجال السياسي يئن تحت رحمة استقطاب شديد، وتقاليد الالتزام السياسي في بلادنا مازالت هشة.

والموقع الطبيعي للباحث الاجتماعي هو الانحياز للقضايا العادلة والوقوف مع المهمشين، وهو و مطالب بالاحتفاظ بالخطاب النقدي التنويري بغضّ النظر عن انتمائه الحزبي، وحلمنا الكبير هو أن يتمكن المفكرون من العيش اعتمادا على أفكارهم حتى لا تدنس الديماغوجيا ولغة الدعاية روح العلم والبحث الجاد ولكنه حلم مازال بعيد المنال.

الأخبار: الظاهرة لا تحتاج إلى علم الاجتماع في تبلورها بينما يحتاج علم الاجتماع إلى الظاهرة ليعرض نفسه، كيف ترون ذلك؟

م. م. سيد يحي: تماما، يقال دائما إن العلم فهم تفسيري متأخر عن وجود الظواهر وخصوصا بالنسبة لعلم الاجتماع الذي تعاني فيه التنبؤات المستقبلية من نسبية كبيرة، لأن
الظواهر الإنسانية واعية وتستفيد من التنبؤات.

بعض المفكرين يمتلكون رؤية استشرافية للمستقبل إلا أنهم من القلائل ونادرا ما تستفيد منهم شعوبهم لأنهم يكونون كالغرباء في مجتمعاتهم.

الأخبار: هذا يقودنا لسؤال عن علمية علم الاجتماع وقوانينه والنسبية وتغيره بوصفه علما إنسانيا يتغير بتغير المجتمعات؟

م. م. سيد يحي: ينبغي أن نفهم أن النسبية كنظرية ظهرت أولا في أدق العلوم الطبيعية وهو علم الفيزياء على يد أينشتاين، فما بالك بالعلوم الإنسانية، لكن النسبية ليست مغمزا وإنما هي تنبيه جعل المجتمعات المتقدمة تعتني بالبحث العلمي الذي يستفيد من أخطائه، ورغم الاحتمالية الكبيرة للعلوم الإنسانية إلا أن التخطيط الحديث لابد أن يعتمد عليها في المجتمعات التي تحترم نفسها، فالبديل عن هذه العلوم على نسبيتها هو الارتجال وإطلاق التعميمات الجاهزة وهي عموما تظل أفضل بكثير من معارفنا الشائعة.
ونحن نعلم أن الكثير من المشاريع التنموية فشلت لأنها أهملت أخذ البنية الرمزية وعادات الشعوب وقيمها في الحسبان.

الأخبار: إذا كان ابن خلدون هو رائد علم الاجتماع عالميا فهل يمكن الحديث عن علم اجتماع عربي؟ والآيات التي ترصد ظواهر اجتماعية وكونية {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} كيف يستفيد منها علم الاجتماع؟

م. م. سيد يحي: لقد كان ابن خلدون ومضة في ظلام القرن الثامن الهجري، ولا يمكننا أن نتحدث عنه كرائد لأن جو عصر الضعف في الحضارة الإسلامية رمى مقدمته العجيبة تحت ركام الأنظام والحواشي، ولم تنشأ عن أفكاره تقاليد للدراسة الإنسانية رغم عبقرية أطروحاته.

لقد نشأ علم الاجتماع وتطور في ظل الحداثة الغربية وفي سياق أمم اكتشفت فجأة أن الأخلاف يستطيعون أن يكونوا أحسن من الأسلاف وأن التقدم في المستقبل وليس في العودة إلى الوراء، ومن هنا لم يكن لنا أن نكتشف ابن خلدون لو لم يكن الغربيون طوروا علومهم الإنسانية رغم أن كثيرا من نظريات الرجل مازال مرجعا في تحليل التاريخ الإسلامي والمجتمعات البدوية.

ويوجد اليوم علم اجتماع عربي ولكنه كغيره من العلوم الحديثة مكبل بأغلال المجتمع والسياسة وهو عالة على الدراسات الغربية، مادام البحث العلمي في أدنى سلم الأولويات في مجتمعاتنا العربية.

أما بالنسبة للقرآن الكريم كمصدر للعلوم فلاشك أن الكتاب المقدس يحمل الكثير من الإشارات التي استفاد منها ابن خلدون مثلا في مقدمته وما نظريته في علاقة الترف بخراب العمران إلا تطبيقا لمضمون قوله تعالى{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا}

إلا أنني لا أميل لأولئك الذين يبحثون في القرآن الكريم عن نظريات علمية فهذا كسل علمي لم يرده القرآن، وهو صرف للنصوص المقدسة عن دورها الذي هو تعبدي ووعظي وأخلاقي في المقام الأول.

إن القرآن يوجهنا لاستعمال العقل والتدبر في الآيات الكونية والاعتبار بسنن الأولين ولكن لأغراض وعظية وأخلاقية، وما هو مطلوب منا دينيّا هو أن نجتهد ونرتاب في التقاليد ونعرض كل شيء على العقل والبرهان والمعروف.

الأخبار: وإذا كان علم الاجتماع أو على الأقل بعض مدارسه تنظر إلى الأخلاق والدين والعلم وأشباهها على أنها ظواهر فكيف ينظر هو إلى نفسه داخل هذه المنظومة؟ هل يرى نفسه ظاهرة مثلا؟

م. م. سيد يحي: بالطبع علم الاجتماع ظاهرة فكرية حديثة النشأة كما أسلفت، وفي كتب المفكر الفرنسي ميشيل فوكو "المراقبة والمعاقبة" و"الكلمات والأشياء" و"حفريات المعرفة" يمكن للمرء أن يطالع قراءة غربية لأسباب نشأة العلوم الإنسانية ومن بينها علم الاجتماع، وعلاقة ذلك بضرورات السلطة وضبط حياة الناس ومراقبتها.
وهناك اليوم سوسيولوجيا السوسيولوجيا التي تدرس في الجامعات وعلم اجتماع المعرفة.

وبالنسبة للدين والأخلاق تدرس العلوم الإنسانية تمثلاتها الاجتماعية وعلاقتها بالبنيات وأنماط العيش، وقديما قال ابن خلدون إن مذاهب الحفظ والرواية كالمذهب المالكي والحنبلي تسود في المجتمعات البدوية كالمغرب وجزيرة العرب، بينما تختص الأمم الأكثر تحضرا كالفرس والترك بالمذاهب التي تسودها الخلافيات مثل الشافعية والحنفية التي انتشرت في مصر وبلاد الترك والشام.

وكما قال الفيلسوف الألماني الكبير كانط فإن العلم يدرس الظواهر أما الحقائق فهي موضوع إيمان فقط.

الأخبار: كيف ينظر علم الاجتماع اليوم إلى النظريات الفكرية الحديثة كنظرية عولمة العالم ونظرية هنتكتون وصراع الحضارات وأطروحة نهاية العالم والإنسان الأخير لفرنسيس فوكوياما ومثلها من النظريات الكبرى داخل حقل الفكر والسياسة؟

م. م. سيد يحي: تدخل جميع هذه النظريات في إطار الفكر الاجتماعي الحديث، وهي على العموم أفكار متأثرة بالجدل السياسي الذي لا يكاد يغيب عن شيء، وفي علم الاجتماع يتم الحديث عن هذه الأمور كما ناقش ألان تورين ما أسماه " المجتمع ما بعد الصناعي" ووضحه جيدا ألفن توفلر في كتابه "حضارة الموجة الثالثة"، ولكن الاهتمام العلمي هنا يركز على ظواهر حديثة هي ثورة المعلومات وسياسات قضاء وقت الفراغ، والفضائيات وأثرها على العائلة والتربية والسلطة دون التركيز على مشاغل التنافس السياسي التي قيدت أطروحات هنتكتون و فوكوياما.

ورغبة تثبيت التاريخ عند نقطة معينة، أو افتعال صراع بين حضارات محددة كلها أفكار تنقصها الصرامة العلمية وهي أقرب إلى الأحاديث الإعلامية والفكر السياسي منها إلى النظريات المؤسسة.


الأخبار: كيف ينظر علم الاجتماع اليوم إلى الأيديولوجيات؟

م. م. سيد يحي: كان مفهوم الأيديولوجيا في البداية مفهوما إيجابيا يعني النظريات العلمية المطابقة للواقع، ثم جاء التيار الماركسي ليجعل الأيديولوجيا تعبيرا عن التبرير الذي تقدمه الطبقات المسيطرة لاستمرار استغلالها للكادحين.

ويميّز "كارل مانهايم" بين الأيديولوجيا التي تبرر الواقع واليوتوبيا التي تعد الناس بالتغيير إلى الأحسن، ويعتبر أن دور عالم الاجتماع هو تحرير العلم من النزعتين لأن العلم رؤية نقدية تبحث عن الموضوعية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

ويعتقد الفيلسوف "كارل بوبر" في كتابه "عقم المذهب التاريخي" أن الأيديولوجيات الشمولية فاشلة وأن ما أسماه المجتمع المفتوح هو الذي يتطور وتنمو فيه الأفكار العلمية كما شهدت على ذلك تجربة الاشتراكية الروسية التي فشلت.

ويسود اعتقاد عام أن الأيديولوجيات الكبرى تضعف اليوم تحت وطأة ثورة المعلومات والإعلام، ولكن الحديث عن موت الأيديولوجيا لا يخلو من الأيديولوجيا هو أيضا، كما أن تحرر حياة البشر وحتى علومهم من القيم والأفكار المسيسة مجرد طموح مثالي مشروع ولكنه كالنور الذي نهتدي به دون أن نطمع بالوصول إليه.

الأخبار: ، لقد تحولتم عبر مراحل فكرية من إسلامي إلى منحى فلسفي ... ما هي أهم الاستنتاجات وكيف كانت الدوافع؟

م. م. سيد يحي: من الصعب على المرء أن يقدم تحليلا مستقلا لمسيرته الفكرية أو أن يوضح دوافعه لأنها حسب علماء النفس من عالم اللا شعور.وإحساسي الشخصي هو أن ثقافتي الإسلامية مازالت مهيمنة على همومي وانشغالاتي وهذا طبيعي وهو عام بالنسبة لجميع المسلمين وخصوصا أولئك الذين استهوتهم ذات مرة أفكار الصحوة الإسلامية.
ولا أخفي أنني خرجت بعد اطلاعي على بعض التراث الإنساني ممثلا في العلوم الاجتماعية باستنتاجات قد تختلف مع طبيعة الخطاب الفكري السائد سواء في الإسلام التقليدي الذي تعلمناه في المحظرة أو الإسلام المعاصر كما تقدمه الحركات الإسلامية.

وأنا مقتنع بأن الفهم الديني الذي ورثناه كان ملائما لمعارف السلف وظروفه ولكنه في كثير من جوانبه متخلف عن الثورة المعرفية الإنسانية التي حصلت في القرون الأخيرة، وحتى الخطاب السياسي للحركات الإسلامية كان مداهنا لتلك المدونة التقليدية وتبسيطيا إلى حد بعيد ربما تحت وطأة متطلبات حشد الأنصار.

وأظن أن الإسلام قادر على الاستفادة من الفرص التي تتيحها العولمة عندما يتخفف من ركام التفاصيل المتقادمة التي أرهقه بها الفقهاء، كما أنه قابل لأن يصبح دين الإنسانية المحبب لو تخفف من الأحقاد و الاصطفافات التي يحشره فيها بعض دعاة الإسلام السياسي والمتعصبون الغربيون.

وكما يقول الشيخ عبد الله ولد بيه ويؤكد دائما المفكر محمد ولد المختار الشنقيطي فهناك "حلف فضول" تلقائي بين الإسلام وبين أولئك الذين هم {أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض} بغض النظر عن دينهم وحضارتهم..

أظن أن المعاهد الدينية بحاجة لاستبدال علوم الآلة القديمة بعلوم إنسانية حديثة، كما أن الفقيه اليوم مضطر لمعرفة التغيرات الاجتماعية حتى لا يقيس مع وجود فارق زمني وتاريخي كبير.

إن النصوص القطعية تخاطبنا في جميع الأزمان ولكن عبر مرحلة عصر النزول، ولا بدّ من إزاحة ركام التاريخ حتى نصل إلى المقاصد الأخلاقية العامة والمواعظ الربانية التي تشكل "أمّ الكتاب".

وشعارات مثل"الإسلام صالح لكل زمان ومكان، شامل لجميع جوانب الحياة" صحيحة في معناها العام ولكنها مضللة ومخدّرة إذا أعطت انطباعا كما يفهمه الشباب بأن كل شيء جاهز وما علينا إلا التطبيق، بينما نحتاج اليوم إلى تربية الشباب المسلم على الاجتهاد وإعمال العقل والبحث عن حلول إبداعية، لا إلى الكسل الذهني واجترار أفكار أصبحت بالية، وإلا وقعنا في ظواهر الغلوّ والتكفير التي بدأت تغزو مجتمعاتنا.

الأخبار: شكرا لكم .
م. م. سيدي يحي: شكرا جزيلا لكم

-----------------------------------------
- محمد محمود ولد سيدي يحي.
- 1970 كيفة.
- دبلوم الدراسات العليا في علم الاجتماع.
- كاتب صحفي بالوكالة الموريتانية للأنباء/ رئيس القسم الدولي بجريدة الشعب اليومية.
- خبير اجتماعي مشارك في العديد من الدراسات حول المرأة والطفل.
- يعجبه قول الجابري: (علينا أن نتحول من كائنات تراثية إلى كائنات لديها تراث).