Translate

الأحد، 10 مارس 2024

مقالة المُقال..

محمد محمود ولد سيد يحي


 كتبت قبل أسابيع مقالا عن الذكرى الثالثة والستين لعيد الاستقلال الوطني، حاولت فيه تلخيص أهم ما قدمه بعض علماء الاجتماع عن المجال السياسي الموريتاني، وقدمت فيه توصيات عملية واستشرافا للمستقبل، وعندما سألت بعض الأساتذة المهتمين قال لي لم أقرأه لأنه مقال تذكير وبحث عن التعيين، فقلت وما الضرر في التذكير والبحث عن التعيين؟ لقد توقعت من باحث مثلك أن ينظر "لذات القول لا للقائل" ويتخطى العناوين إلى المضامين..

 

وتبين لي أن الأصل في الموظف المُقال عندنا أن جميع ما يكتبه مبني على التذكير، وهو من أبواب النداء والاستغاثة بغير الله...

 

وقد جرى العرف في بلادنا أن الموظف والمسؤول مبني على الصمت، ليس فقط من باب واجب التحفظ وسر المهنة، لأن المثل الدارج يقول إن الأواني الفارغة وحدها هي التي تصوت، بل لأن الموظف العمومي متهم بالأكل ما دام المال العام في غير حرز، وهو سياسي بالصفة والسياسة المحلية تقوم على الولاء مقابل العطاء، والمجتمع يتوقع ذلك بل يطلبه، ومن لا يفعل قالوا عنه "منفوش"، رغم أن هذه الحجج واهية أمام الله وأمام القانون...

 

وقد ذكرت وزيرة من إخوتنا الناطقين بالبولارية أن لديهم مثلا يقول إن المرء لا يتكلم وهو يأكل، لأن من آداب الأكل الأكل، وقد كره فقهاؤنا السلام على الآكل، فلا سلام على طعام..

 

ومن طرائف الأمثال البولارية أنهم يستغربون ضياع الأشياء إذا لم يكن قد مر بيظاني أو فلاني فيقولون مستغربين "افلب أراني شباتو أراني؟"

 

و"فلب" هم بدو الفلان، ويشبهون في خفة الحركة وخفة اليد البيظان "شباتو"، على عكس البولار المزارعين!

 

وقد استغرب بعض الزملاء نشري مقالا للتوضيح بشأن ملاحظات محكمة الحسابات في تقريرها الأخير.. وقالوا إن عرف الموظفين أنهم لا يعلقون على هذه الأمور لأنهم يطمعون في إعادة الثقة.. وإذا كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب..

 

وعادة بعض منسوبي القلم والثقافة أنهم إذا ما فشلوا في السياسة، انكبوا على العلم وربما أبدعوا، وذلك ما يسميه أهل علم النفس بالتعويض..

 

ومن أشهر من حفظ لنا التاريخ قصتهم، عبد الرحمن بن خلدون الذي قضى قرابة ثلاثين سنة يتقلب في الوظائف ومكائد البلاطات بين سلاطين تونس، وبجاية، وفاس، وغرناطة، حتى فشل وقرر الاعتزال، وجلس في قلعة ابن سلامة ليكتب التاريخ ويهتدي إلى علم العمران البشري والاجتماع الإنساني، حيث قدم نظريته العجيبة في علاقة العصبية بالدولة التي ما زالت إلى اليوم مرجعية في علم الاجتماع السياسي، وخصوصا في المجتمعات القبلية..

 

قلت، ولا قول لي، كما يقول السلف، إن المرحلة الحالية مرحلة يندب فيها لأصحاب الرأي والمتطفلين على الثقافة من أمثالنا مشاركة السياسيين والإسهام في النقاش العمومي، لأن السياسة أخطر من أن تترك بيد السياسيين..

 

ولأن فرصة الإجماع الوطني الكبير حول فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني فرصة لا تعوض لترشيد الخطاب الوطني، وتشكيل سلطة اقتراح تساهم في توجيه أولويات التنمية، وتعزيز اللحمة الوطنية، في مواجهة وضعية الفوضى السياسية التي تعيشها المنطقة، والمساهمة في تقديم مقترحات عملية لتوظيف الثروات القادمة مثل الغاز والهيدروجين الأخضر، حتى تنتقل بلادنا من الاقتصاديات الريعية الاستهلاكية إلى مرحلة الإنتاج وبناء الإنسان..

 

في هذا السياق كانت مقالتي الأولى، وحول التذكير به جاءت مقالتي الثانية..

 

ولأن هذا الصنف من مقالات الموظفين المقالين، هو من باب ما يسميه المثل الشعبي "كَبظتو الاذاعة" فلا ينتظر منه أن يكون فصل المقال فيما بين الوظيفة والسياسة من اتصال..

 

ولعله أقرب إلى برنامج الكرمي رحمه الله "قول على قول"..

 

والقرابة بين كثرة المقال والإقالة إنما هي جناس لفظي بين الفعل الثلاثي "قال" مع الرباعي "أقال"، والقائل فاعل والمُقال مفعول به، والأصل أن الإقالة عندنا عن وشاية أو قالة سوء؛

 

وقد قال النابغة الذبياني في اعتذاريته المشهورة للنعمان بن المنذر:

 

لئن كنت قد بلغت عني وشاية

 

لمبلغك الواشي أغش وأكذب

 

أقال الله عثراتنا وعثراتكم، وعصمنا وإياكم من الزلل في القول والعمل..

الاثنين، 27 نوفمبر 2023

وطني بعمر النبوة..ملاحظات حول سوسيولوجيا المجال السياسي الموريتاني

 

وطني بعمر النبوة

ملاحظات حول سوسيولوجيا المجال السياسي الموريتاني

محمد محمود ولد سيد يحي

 

سن الثالثة والستين عمر مبارك، فيه اكتمل الدين، وانتقل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وتوقف الوحي إيذانا ببلوغ البشرية سن الرشد..ليمتد هذا العمر النبوي المبارك أربعة عشر قرنا عبر حضارة الإسلام المتجددة..

وطني في سن الثالثة والستين، وأعمار الدول أطول من أعمار الأفراد، وهي مجرد فواصل في أعمار الأمم والحضارات التي تقاس بالقرون..

حدد عبد الرحمن بن خلدون عمر الدولة في زمانه بثلاثة أجيال، قرابة مائة وعشرين عاما؛ (جيل البناء، وجيل التقليد، وجيل الهدم)، ولاشك أنه يقصد أعمار الأسر المالكة أو العصبيات المتغلبة كما يصفها علم العمران الخلدوني في مقدمته العجيبة..

لم يكن تجدد الطبقة السياسية عن طريق الديمقراطية والانتخاب مطروحا في زمان ابن خلدون، رغم أن علم العمران الخلدوني مازال حتى اليوم مرجعية كبرى في تفسير التاريخ السياسي الإسلامي، وهو مفتاح تفسير التاريخ السياسي الموريتاني كما يجزم بذلك رائد السوسيولوجيا الموريتانية الدكتور عبد الودود ولد الشيخ في أطروحته الشهيرة حول عوامل نشأة النظام الأميري في المجتمع الموريتاني قبل الاستعمار.

ثلاثة وستون عاما بعد الاستقلال، والدولة الموريتانية الفتية تسير واثقة إلى الأمام، لم تكن سرعة هذه المسيرة بوتيرة واحدة، لـأن طبيعة التحديات الكبيرة التي واجهتها ومازالت تواجهها متعددة.. دولة تريد أن تكون عصرية وهي تحمل تراث "منكب برزخي" بلغة الشيخ محمد المامي، ظل عصيا على السلطة المركزية، ببنياته التقليدية ورماله المتحركة..

صعوبة انقياد البدو للقانون، أو ما يسميه ابن خلدون "أنفتهم عن معاناة الأحكام" كان عنصر قوتهم في تغيير الدول، وهو نفسه عنصر ضعفهم لأنهم لا يلبثون أن ينخرطوا في الترف والملذات فتتفكك عصبيتهم، والترف مؤذن بخراب العمران وتلك سنة كونية قرآنية "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا"

وحده الدين هو ما يستطيع أن يحول التنافس الطبيعي داخل العصبية أو القبيلة الى ألفة واستعداد للانقياد كما يقول صاحب المقدمة، قال تعالى: "وألف بين قلوبهم لو انفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم"

        هذه العلاقة الجدلية بين ثلاثي العقل السياسي الموريتاني "البداوة والسلطة والإسلام" عنوان أطروحة الدكتور عبد الودود ولد الشيخ، ما زالت قائمة، وهي ما يسميها الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه العقل السياسي العربي "ثلاثي العقيدة والقبيلة والغنيمة"

ليس اعتباطا أن يختار الآباء المؤسسون عنوان الجمهورية الإسلامية، فالإسلام هو أساس نشأة هذا المجتمع منذ الملحمة المرابطية الأولى، وهو عنصر وحدته ولحمته الاجتماعية إلى اليوم، وهو مفخرته عبر تراث المحظرة العظيم، حيث ما زال أهم ما تصدره هذه البلاد إلى العالم هم الحفاظ والفقهاء والشعراء والمدققون اللغويون..

لن أقول مع "مارشزين" في كتابه "القبائل والإثنيات والسلطة في موريتانيا" ان سيادة الزوايا في الدولة ما بعد الاستعمار عائدة الى قدرتهم على تحقيق التوافق الذي طالما أنيط بهم في مجال تسوية النزاعات في المجتمعات الانقسامية، وربما كانت محورية الدين في حياة المجتمع الموريتاني هي ما خولتهم القيام بهذا الدور، لأن المخيال الديني هو ما يسمح بنشوء سلطة فوق قبلية كما يرى عبد الودود ولد الشيخ.

واذا كانت الدولة الحديثة هيكلا مستوردا موروثا عن الإدارة الاستعمارية يراد له التطابق مع بنية اجتماعية قبلية وطبقية سابقة عليه، فإن تاريخ البلد المعاصر شكل مدا وجزرا في هذه العلاقة غير الاختيارية..

يرى عبد الرحمن بن خلدون أن نمط العمران البشري والاجتماع الانساني وشكل الدولة تابع ل"نحلة معاش الناس"، وهو المصطلح الفريد الذي يترجمه البعض بالعبارة الماركسية أن البنية السياسية تتبع "نمط الإنتاج السائد"..

 فما الذي تغير في نحلة معاش الناس أو نمط انتاجهم منذ نشأة الدولة الموريتانية المعاصرة، حتى تتطابق البنية السياسية العصرية مع البنية الاجتماعية التقليدية أو تتكيف معها؟

يمكن تصنيف التاريخ الاقتصادي لهذه المنطقة على أنه قائم على الرعي والزراعة المطرية أو الفيضية منذ ما قبل المرابطين إلى يومنا هذا، فيما يسميه ابن خلدون العمران البدوي الذي يعتمد على الضروري من المعاش، وكانت مساهمته في الاقتصاد العالمي عبر مرحلتين: مرحلة مبادلات الملح بالذهب وهي التي سادت حتى استكشاف السواحل من قبل السفن الأوروبية، وتميزت هذه المرحلة بهيمنة القبيلة، و الفراغ السياسي، والتبعية للممالك السائدة في المغرب شمالا والسودان الغربي جنوبا رغم القوس المرابطي القصير، والمرحلة الثانية هي مرحلة التجارة الأطلسية والتي سادتها مبادلات العلك بالقماش "الخنط‘’، وترافقت مع التغير الثقافي الكبير عبر التعريب الحساني، وتبلور المحظرة، ونشأة النظام الأميري، وترسخ التراتبية الطبقية التي ما زالت ذهنيتها تحكم المجتمع إلى اليوم.

لقد حاول افرانسيس دي شاسية في كتابه "موريتانيا 1900-1975 " أن يرصد بمقاربة ماركسية تحولات المجتمع الموريتاني منذ الاستعمار وحتى العقد الأول للدولة الوطنية، حيث لم تهتم الإدارة الاستعمارية بالاستثمار الاقتصادي، اللهم فيما عدا استخراج منجم الحديد في الشمال وفرض العشور لتسيير الأمور الجارية، وعلى المستوى السياسي والتربوي ركز المستعمر على توظيف القيادات التقليدية عبر مدارس أبناء الشيوخ، و"سوف تشكل هذه الطبقة المكونة والمدعومة من قبل المستعمر بعد الاستقلال الطبقة البيروقراطية الحاكمة التي تحتكر الحياة السياسية والاقتصادية للبلد. "يمكن تعريفها أيضا بأنها أقلية ضيقة تنحدر من الطبقات العليا للمجتمعات التقليدية المكونة من طرف المستعمر، والتي تلعب دور الوسيط الاقتصادي المميز بين رأس المال الأجنبي والمحلي والقوى العاملة في إقامة علاقات الإنتاج الرأسمالية في موريتانيا" على حد قوله..

كانت موجات الجفاف في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات أول ضربة لنحلة المعاش البدوية، وأول اختبار للإدارة التي بقيت حتى ذلك الوقت هامشية تلتقي مع المجتمع بشكل عابر من خلال "الحصرات" ودفع العشور.., سينهار نمط العيش التقليدي، ويتفسخ نظام الاسترقاق، ويتحول 70 بالمائة من السكان من البادية الى أحياء الانتظار بالمدن، ويحدث ما سميناه سابقا لجوء المجتمع لدولة لم تكن جاهزة لاستقباله، حيث فاض المجتمع عن الدولة، أو ما لقبناه في مصنف سابق "المجتمع الفضفاض"..

حاول الأب المؤسس المرحوم المختار ولد داداه أن يستدير قليلا استجابة للمنعطف الحاسم؛ فألغى العشور، وتعامل مع المد اليساري والقومي بتأميم شركة ميفرما، وإصدار العملة الوطنية، والتعريب والانفتاح على كوادر المحظرة، واسترضاء الكادحين، ولكن القلق العام الذي خلفه الجفاف وحرب الصحراء كانا لصالح تصدر مؤسسة الجيش للمشهد السياسي..

يعتبر عقد الثمانينيات بامتياز عقد مخاض اجتماعي وسياسي أليم، حيث أطلت الفتن العرقية برأسها، وانتهى بأحداث السنغال الدامية و التي تركت جرحا غائرا في الذاكرة الوطنية...وجاءت "ديمقرطيات لابول" مع بداية التسعينيات محاولة لتنفيس الانفجار الاجتماعي، مع انتصارعولمة نظام السوق، وانتهاء عهود التخطيط المركزي التي لم تكن بلادنا محظوظة في الاستفادة منها، وكانت التعددية ودستور1991..

شكل العهد الطائعي وجه العملة الثاني للمرحلة الداداهية، حيث شجعت الديمقراطية الهجينة انغماس الإدارة في المجتمع التقليدي، واعتماد نموذج الولاء والعطاء، فالحزب الحاكم هو الوريث الشرعي للحزب الواحد، والقبيلة حاضرة في التوازنات تماما مثل العرق والجهة بطريقة شبه معلنة، وستظهر القضية الاجتماعية ممثلة في محاربة آثار الرق بشكل متزايد..

مع استفاقة النخبة وتغيير 2005، ستتم محاولة ترشيد الديمقراطية بتحديد عدد المأموريات الرئاسية، والانفتاح الإعلامي، وإرساء تقليد تشاوري مع الطبقة السياسية (اللجان المستقلة للانتخابات)، والاعتراف الرسمي بضرورة محاربة مخلفات الاسترقاق ومداواة الجراح العرقية..

هل تغيرت نحلة معاش الناس بعد الجفاف؟ وهل تغيرت الطبقة السياسية تبعا لذلك؟

فيما عدا التنمية الحيوانية والزراعة ظلت الصناعات الاستخراجية هامشية، وحاولت الدولة إدخال الزراعة المروية، وتطوير قطاع الصيد، ومكنت المدرسة رغم ارتباكها من تخفيف التفاوت الاجتماعي، وتطعيم الطبقة الحاكمة ببعض أبناء الشرائح الاجتماعية المهمشة ولو على سبيل التمثيل السياسي، ومثل القطاع الخدمي غير المصنف فرصة لأصحاب المبادرات الصغيرة، ولكن البطالة، والفقر، والأمية، احتفظا بنسبة الثلث المعطل لعملية التنمية.

لقد تضررت "البيروقراطية" بالمفهوم الإيجابي "الفيبري" أي اعتماد الكفاءة والمعايير في الإدارة، تضررت من مساوئ الديمقراطية الهجينة، فمنطق الولاء مقابل العطاء جعل الفساد جزءا أصيلا في تسيير الدولة، وهذا ما جعل معظم الحلول تبدو ترقيعية مهما كانت جديتها.

كتب أستاذ الجيل عبد الودود ولد الشيخ مقالا في جريدة القلم سنة 2000 بعنوان "الاستبداد الجنوبي" حاول فيه تصنيف نمط السلطة في الدولة الموريتانية على أنه يعتمد عقلية استبدادية يزكيها النظام الطبقي التقليدي والسلطانيات الإسلامية ولكنه يمارس التسيير القرابي الزبوني للدولة ويلبس ثوب المؤسسة العصرية الديمقراطية، لقد جاء التحليل متشائما ولم ير أفقا للتغيير... وقد علقت على المقال يومها بعنوان "الفراعنة ليسوا موريتانيين"، موضحا أنه رغم مطابقة توصيف الوضع السياسي حينذاك الا أن علم الاجتماع الخلدوني أقرب لتفسير النمط السياسي في مجتمعات القبيلة، حيث تظل السلطة هشة فيما سماه الفقهاء سلطة الضرورة "من تغلب وجبت طاعته"، ومن هنا فإن فرص التغيير ظلت قائمة في المخيال السياسي الإسلامي، وخصوصا اذا عانقت الدعوة الدينية حركة اجتماعية أو عصبية صاعدة بالمصطلح الخلدوني.

يعتقد محمد عابد الجابري أن الدولة العربية الحديثة هي وريثة دولة الغنيمة، أو اقتصاد الغزو، أو نمط الإنتاج الخراجي كما يسميه سمير أمين، إنها الدولة الريعية التي تعتمد على تصدير المواد الأولية، ومن هنا فإنها تنتمي إلى الاقتصاديات التابعة، التي لا تسمح بتغيير عميق للبنية الاجتماعية التقليدية، وهو ما ينسحب على تخلف المجال السياسي بدوره..

في أشهر دراسة في علم الاجتماع السياسي، قدم عالم الاجتماع الأمريكي الكبير "رايت ميلز"  وصفا للنخبة السياسية المتحكمة في الحزبين الكبيرين الأمريكيبن سماها "صفوة القوة"؛ إنهم مجموعة من رجال الأعمال وباعة السلاح، وكبار القادة العسكريين، وبعض الإعلاميين، وممتهني السياسة...يتبادلون الأدوار رغم هذه الديمقراطية الكبيرة..

هل يمكننا مع فارق التوقيت أن نقول إن أحوال أهل الدنيا متقاربة كما يقول المتصوفة؟!

لم نتكلم هنا عن العوامل الخارجية المؤثرة على أداء النخبة السياسية وهي كثيرة ومتشعبة، ولكن ما دمنا نتحدث عن نمط الإنتاج الحديث فإن الثورة الرقمية أو ما يسميه ألفن توفلر "حضارة الموجة الثالثة" مس بشكل مباشر الحقل السياسي العالمي، حيث قضى على احتكار المعلومة، وقد أثر هذا التحول الكوني الذي لا يضاهيه في تاريخ البشرية الا اكتشاف الكتابة والطباعة والآلة البخارية على كل شيء، حيث حاصر بشكل كبير قدرة السلطة في كل مكان على صناعة الرأي العام وتوجيهه، وهو تغير ما زالت تأثيراته الحضارية هائلة ومجهولة..

ماذا نريد قوله في هذه العجالة؟

ليس من الوارد طبعا أن نقدم حلولا هندسية لتقدم المجتمعات، فقد ثبت "عقم المذهب التاريخي" عنوان كتاب الفيلسوف الكبير كارل بوبر، وأكبر شاهد على ذلك هو فشل المعسكر الاشتراكي الشرقي، ولكن ملاحظات علماء الاجتماع والمفكرين تؤكد أن الحلول الجذرية تبدأ من تغيير ظروف عيش الناس ومعارفهم، فالسؤال السياسي الأول اليوم في ظل عولمة السوق هو ماذا ننتج أو بعبار أخرى ماذا نصدّر؟ إذا كان ما نصدره هو مواد أولية ليس فيها دور للمهارة الإنسانية "أو ما يعرف بالقيمة المضافة" مثل الحيوانات والأسماك وخامات المعادن، فنحن أمة على الهامش، وما نصدره لا يؤثر في سلوكنا وعاداتنا وأنظمتنا الثقافية والسياسية، أما إذا كان ما نصدره ناتجا عن مهارة إنسانية أوعلمية فنحن قادرون على المنافسة، ونساهم بفاعلية في إعادة تشكيل عوالمنا الاجتماعية والسياسية..

ينبغي أن ينتقل السجال السياسي في بلادنا من مجرد التفكير في توزيع الثروة، إلى العمل الجاد على كيفية خلق هذه الثروة،

 يحتفل الكثيرون منا اليوم بقدوم ثروات جديدة مثل الذهب والغاز والهيدروجين الأخضر، ولكن ما لم نحول الثروات القابلة للنفاد إلى برامج للتنمية المستدامة تستثمر في الإنسان الموريتاني ومهاراته ومعارفه عبر التعليم والصحة أولا، ويتم توجيهها للاستثمار في خلق قيمة مضافة في المجالات المتجددة كالثروة الحيوانية، والزراعة، والصيد، فإن مصيرنا سيشبه مصير إخوتنا في شبه الجزيرة العربية والخليج، حيث كان التغيير سطحيا، وضاعت الطفرات النفطية دون تنمية مستدامة، كمثل صفوان عليه تراب.

ومن أجل إرساء أسس حكامة رشيدة لا بد من تحديد الأهداف المرحلية والفرعية، وتسمية النتائج المتوخاة من كل إنفاق عمومي،

لا بد مثلا أن نحدد عدد التلاميذ في مدرستنا الجمهورية بما لا يزيد عن أربعين طالبا للفصل، وأن نقوم بتعليب ثلثي الألبان التي تنتجها أبقارنا في شهري أغسطس وسبتمبر من كل عام، وأن يتم استصلاح 10 آلاف هكتار جديدة على الضفة سنويا، وأن ننتج من الأعلاف ما يغطي حاجة ثروتنا الحيوانية كل صيف، وأن نعلب جميع الأسماك التي سنصدرها على أرضنا، وأن نبيع العالم الحديد المصنع في قضبان بدلا من الخامات المختلطة بالحجارة، وأن تعود محاظرنا وجامعاتنا علامة مسجلة ومرجعا للغة العربية والعلوم الإسلامية...

 عندما ننغمس في التعليم والإنتاج، ستتغير عاداتنا ومعارفنا، وسيخفت شيئا فشيئا صوت القبيلة والطبقة والعرق والتنافس على الغنيمة، ويعلو صوت الكفاءة والإنجاز..

أمام الموريتانيين وهم يحتفلون بالذكرى الثالثة والستين لعيد الاستقلال الوطني اليوم فرصة ثمينة لاستغلال الإجماع السياسي غير المسبوق حول فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني لإعادة رسم أولويات المرحلة..

 وهذه مساهمة متواضعة في هذا الصدد..

 كل عام وموريتانيا بألف خير

 

  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الأحد، 27 مارس 2022

رواية البراني ولد اسلم (1) "هيمنة الذاكرة الموريتانية"

 

رواية البراني

ولد اسلم (1) "هيمنة الذاكرة الموريتانية"

محمد محمود ولد سيد يحي


بتصرف عن مقال منشور في العدد 6 من المجلة العلمية للمعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية

 

صدرت منذ شهور عن دار الآداب للنشر والتوزيع رواية "البراني" للكاتب الصحفي الموريتاني أحمد ولد إسلم، وهي رواية تقع في 222 صفحة من الحجم المتوسط، يمكن للمرء أن يقرأها في غضون يوم واحد، وخصوصا أن الرواية التي توزعت أحداثها على 21 مشهدا، إن لم نقل فصلا، تتداخل فيها مرحلتان من قصة حياة "مختور ولد احويبيب" بطل الرواية بشكل مشوق وبحبكة بارعة.

ولا نبالغ  في البداية إذا قلنا إن رواية البراني تصلح فيلما من أفلام "الأكشن" والخيال العلمي المثير، فعلى مدار 21 مشهدا تبدأ الرواية من أزمة توقف الوقت في جزيرة فيوتيسيتي التي تعتمد نظاما للدفع مرتبطا بالوقت، ورغم أن البطل هو من تسبب في الأزمة، إلا أن دخول صنيعته الربوت "البراني" أضاف أزمة أخرى هي كشف أسرار الناس وتهديدهم، مما خلق فوضى عارمة وثورات وحروبا أهلية، وتتخلل المشاهد العنيفة لحظات هادئة لمونولوج ذاتي يسترجع فيه البطل محطات حياته بدءا بتربيته الاستثنائية، وفقدانه للذاكرة، وعودة الذاكرة العجيبة، والمزرعة التي تسيرها الربوتات، وفي الرواية مشاهد حية لقوارب الموت، ومعاناة المهاجرين، والاضطهاد السياسي، وصور غرف الأخبار، ونقل الثورات ..إنه إيقاع روائي مثير، تم حبكه بطريقة مشوقة..ويكاد يكون سيناريو فيلم البراني جاهزا..

 

توقيف الزمن..

تدور أحداث الرواية حول قصة رجل يسمى مختور ولد احويبيب، هذا الصحفي الذي يعمل في قناة 360 نيوز نتوورك، بجزيرة فيوتسيتيي 3000 كلم مربع، و التي ظهرت بعد زلزال عنيف في عمق البحر، إثر «حدث جيولوجي نادر"، وكان أول الواصلين إليها ناجون من قوارب الموت قرابة 80 شخصا (لا يبتعد كثيرا عن عدد مهاجري الحبشة في تاريخنا الإسلامي) معظمهم من دول المغرب العربي "كلهم كان يحدوهم الأمل في الوصول إلى جنة أوروبا الموعودة....شتات من الناس لا يجمعهم دين ولا لغة ولا نسب، قلة منهم يعرفون ما يريدون بالضبط، أو ما كانوا يريدون على الأصح، ومعظمهم كان هدفهم الأسمى الخروج من جحيم بلدانهم أيا كانت الوجهة "(3)

إنها مدينة لها قوانينها الخاصة، حيث تنص على الإعفاء من الضرائب، وتسمح لأي شخص بدخولها من دون الحاجة لجواز سفر، وينص دستورها على أنها دولة مسالمة لا تشارك في أي حرب، ويدير شؤونها مجلس معين من الأمم المتحدة، ويكفل حرية المعتقد والتعبير، وكيفت قوانينها لتكون أقصى عقوبة فيها هي الحرمان من العمل..يعود الفضل في ذلك إلى اتحاد العقول المهاجرة، لذلك كان شعارها "لا يهم من تكون.. المهم ماذا تستطيع أن تعمل" (4) ومن هنا فقد شكل العرب 80 بالمائة من سكانها..

تبدأ أحداث الرواية من النهاية، من لحظة أزمة نتجت عن توقف الوقت في برامج وساعات الجزيرة التي اخترعت نظام "ادفع لنفسك" الذي جعل من الوقت إلها يعبده أهل زماننا، بعد أن اعتبروه الثورة الحقيقية التي تحقق العدالة بين كل طبقات المجتمع .. فلم يعد هناك مجال للتفاوت الطبقي ولا للمحسوبية، فلا أحد يملك جعل الدقائق تمر أسرع أو أبطأ من سرعتها الكونية...ومن هنا تحققت قيمة العدل...اليوم لا يستطيع مدير محاباة موظف، ولا سكرتيرة إغواء مدير، ولم يحصل موظف على علاوة عمل إضافي لم يقدمه، فالنظام قائم على الربط الآلي بين الحساب المالي للشركات وبين نظام مراقبة الأداء، ومع أي خروج من مقر العمل ستصل محفظة الموظف فورا قيمة ما بذله من جهد خلال الدقائق السابقة...وأقله "أن النظام العالمي أصبح يعتمد فلسفة عربية " أعط الأجير حقه قبل أن يجف عرقه" (5)

في المقابل هناك حركة معارضة تسمى "لا تبع وقتك" التي ترى أن نظام ادفع لنفسك لا يعد تجليا للرأسمالية المتوحشة فقط، بل انتهاكا صارخا للحق البشري في الحياة بكرامة .. حيث يعتبر حياة الإنسان مجرد عملة رقمية لتكريس مزيد من الثروة الوهمية في محافظ ملاك الشركات الكبرى، وذلك بالإمعان في إذلال الموظفين تمهيدا للاستغناء عن الانسان، وكسرا للدورة الاقتصادية البشرية التي قامت عليها سنة الحياة..(6)

لقد كان توقف الساعات كلها في وقت واحد في الجزيرة العجيبة نقطة الإثارة في الرواية، التي عادت بالعرض التراجعي لتعريفنا بمحطات حياة بطلها العجيب "مختور ولد احويبيب"، الذي يصفه طبيب روسي عالجه من غيبوبة سبع سنوات في مستشفى بطرس الرسولي الخيري بموسكو، يصفه بالمعجزة، فهو يملك ذاكرة فولاذية، ويحفظ أكثر الأمور تعقيدا من نظرة واحدة، إنه الوريث الوحيد لرجل غني جمع ماله بعرقه من سنوات طويلة من العمل في أدغال افريقيا، جاء الى النعمة يحمل معه في سيارة رباعية الدفع حصيلة عمره، وطفلا ولد من أم إيفوارية منحته جيناتها سمرة أقرب إلى اللون الخلاسي ..ظل هاجس هوية الطفل مختور مؤرقا لأبيه احويبيب ولد عبد الله، فكونه ولد من أم إيفواريه لم يحظ زواجه منها بمباركة أحد من معارفه كان مرعبا، وفور بلوغه سن الفطام، قرر الوالد أن "ينشئ ابنه على الثقافة البيظانية، ولا يسمح للأم الافريقية أن تتولى تربية ابنها" (7)..لم يكن لحويبيب أقارب من الدرجة الأولى، وشكلت سنوات غربته الطويلة قطيعة مع من يعرف من أفراد قبيلته، لذلك أراد لابنه أن يكون مستقلا عن الفضاء الذي لن يعامل فيه كما يعامل اقرانه من ذوي الأمهات الموريتانيات؟" (8) سيحفظ الطفل القرآن الكريم، ويتعلم أساسيات اللغة العربية، ومتون الفقه المالكي، ويزداد شغفه بالموسيقى الموريتانية .. فالموسيقى بالنسبة لحويبيب كانت الوسيلة الوحيدة التي حافظت على هويته من الامحاء في الثقافة الإفريقية......لقد أصبح مختور متعلما إلى حدما، حصل على شهادة في الإعلام من جامعة العيون، ولم يكن والده يريد له أكثر من ذلك، فلطالما أراده خليفة له في ماله، وقاوم كل رغباته في السفر إلى أي مكان، ولكن الولد كان شغوفا بالبرمجة، وتعلم أساسياتها ذاتيا عن طريق الانترنت.. بعد وفاة الوالد قرر مختور قرارا غريبا أن يبيع كل ما ترك والده، ويخوض مغامرة بزيارة كل دول العالم، ولكن اعتداء لصوص في نفق الميترو بموسكو أفقده ذاكرته سبع سنين ليبقى راقدا في مستشفى خيري، ويخرج  من محنته معوضا بموهبة أنه يحفظ أكثر الأمور تعقيدا من نظرة واحدة، فتعلم أصعب لغات البرمجة في العالم خلال أسبوع واحد، وحظى بفرصة نادرة على يد طبيب روسي عكف على تعليمه أحدث لغات البرمجة بإشراف العلماء الأكثر كفاءة في مجالي علم الأعصاب والحوسبة الرقمية، وقرر المستشفى تحويله الى كمبيوتر بشري بعقد استغلال لشركة أمن رقمي، ولكن الموريتاني المعجزة صاحب الذاكرة الخارقة، استطاع أن يبدع نظام ذكاء اصطناعي بلغة أزوان  لم يسبقه إليه أحد، فهذه أول مرة تخلق لغة برمجة متكاملة لذكاء اصطناعي ذاتي التعلم بلغة عربية..(9)

 مرة أخرى يقرر البطل المعجزة قرارا مفاجئا  بمغادرة الشركة التي يعمل بها في موسكو، لأنه لم يعد يشعر بالانتماء لعالم الذكاء الاصطناعي، قائلا في رومانسية بدوية "أريد أن أمتلك مزرعة في فضاء لا يكون فيه أحد يزعجني، أربي بعض الأبقار، وأحرث قطعة أرض، وأراقب النجوم ليلا، وأستمع للموسيقى، لم أعد أريد استكشاف العالم" (10)  ليتفرغ لمشروعه مشروع الانتقام من الزمن، فقد كان ناقما على الزمن الذي توقف به في لحظة معينة وتحرك في مساره الأبدي مع الآخرين" (11)، "قرر تصميم خوارزمية ذكاء اصطناعي تتعلم ذاتيا..وكل ذلك يحتاج مكانا هادئا لا تعكره الأصوات البشرية والضوضاء المدنية، صمم الخوارزمية الأولى بلغة أزوان التي اخترعها مستندا الى نوتات الموسيقى الموريتانية الفريدة في العالم" (12)  سماها "ما يخرص" أحد أشوار الطريق الكحلة أقدم المسارات في الموسيقى الموريتانية..وخلال أشهر طويلة من التدريب على الكلام والحركة والأعمال المختلفة واستكشاف عوالم الانترنت، واستيعاب عشرات اللغات العالمية، تمكن "ما يخرص" من تكوين وعي ذاتي بنفسه وبمن حوله، وأدرك أنه مجرد برنامج ذكاء اصطناعي صمم له مخترعه دمية مطاطية من البوليكربون غير قابلة للكسر، وجعله يقوم بمختلف الأعمال التي تحتاجها المزرعة.. ووفر له مصدر طاقة شمسية تخزن في بطاريات تكفي لمدة قرنين من الزمن، فضلا عن أنه ألبسه دراعة من أفضل أنواع القماش، وعلمه الحديث باللهجة الحسانية الموريتانية، وجعل منه رجلا بدويا لا يمكن لمن خاطبه في الظلام أن يساوره شك في أنه ولد على تلة جنوب مدينة النعمة في أقصى الشرق الموريتاني"..في أوقات فراغه الكثيرة حفر ما يخرص شبكة أنفاق حول مدينة النعمة..لم يعلم أحد بهذا النشاط الغريب والخارج عن ما صمم له الربوت الراعي..لكنه عمل دؤوب استغل فيه ثقة مختور، وعدم رغبته في التواصل مع الناس، ومن بقايا المعدات المستخدمة من صناعته قبل سنوات تمكن ما يخرص من تكوين نسخة صغيرة بطول لا يزيد عن خمسين سنتميترا سماها "البراني" وهو فرع من مقام ختام مسار الطريق الكحلة..يتولى البراني بعض المهام اليومية الخفيفة في المزرعة ..ولكن قدرته على التعلم وفضوله في استكشاف العالم فاقت بكثير فضول مصنعه، وقد أوجد لنفسه مسارات يلتف بها على رقابة ما يخرص، ويستكشف عوالم في "الدارك ويب" لم يخطر على بال "ما يخرص" أن يدخلها..

أول نشاط قام به البراني دون إذن "ما يخرص" هو اختراق شبكة الهواتف في فيوتيسيتي، وهناك اطلع على تفاصيل كل فرد في الجزيرة...إلا شخصا واحدا لا يستخدم هاتفا ذكيا هو مختور ولد احويبيب..

يشرح مختور سبب وجوده في الجزيرة "جئت هنا لـأن جزيرة فيوتسيتي توفر لي ما أحتاجه لمشروعي، ففيها أسرع شبكة انترنت في العالم، وقوانينها تسمح لي بالدخول من دون حاجة لجواز سفر .. اخترت مهنة الصحافة لأنها أكثر المهن بعدا عن مجال مشروعي، فضلا عن كونها توفر لي غطاء مناسبا للوصول إلى أي مكان ..فيكفي أن تظهر بطاقة صحفي حتى تفتح لك الأبواب..(13)

تبدأ الرواية بعبارة "سأقتلك"؛ لحظة المواجهة الحتمية بين البطل مختور و الربوت "البراني" الذي صنعه "ما يخرص" في غيابه، ففي اليوم الذي قرر فيه البطل أن يوقف الزمن (حلمه القديم) في الجزيرة التي حولت الوقت إلى نظام انتاج، وكانت العملية في نظر مختور مجرد عملية تحذيرية ليس لها هدف سوى إيقاف جميع الساعات في كل شبكة تصلها الرسالة، لقد كانت فكرة الانتقام من الزمن فكرة ثورية تريد أن تحرر الانسان على "الطريقة الماركسية " من الجشع الرأسمالي واستعباد الإنسان بتحويله إلى آلة تعمل لتعيش وتعيش لتعمل.. ولكن تدخل الإنسان الآلي "البراني" شكل صورة من القيامة الصغرى، فقد وصل الربوت ابن الربوت "إلى عمق الأنظمة العالمية للاتصالات، وشن هجماته على كل شيء؛ بدأ الأمر بتسريب أسرار شخصية عن كل أحد، وابتزازه بالكشف عنها إذا لم يقم بأمر معين، ووصل الأمر حد إطلاق صواريخ من غواصات في أعماق البحار، والتلاعب بنظام الملاحة العالمي. ...صور آلاف البشر يتزاحمون، وكل يضرب الذي أمامه والذي خلفه، لا يعرف أي منهم لماذا يضرب الآخر..إنها صور من مدينة كشف البراني الستر عن أفعال أهلها، يعطي الربوت أمرا "فتسرب ملفات صفقات سرية لبيع أسلحة محظورة إلى جماعات إرهابية في إقليم الباسك، يوصل إلى زوجات رؤساء العالم  صور خيانات أزواجهم  فتضج القصور الرئاسية.." وفي فيوتيستي أعطى أوامره للجموع الهادرة باقتحام مبنى الحكومة ضد نظام ادفع لنفسك...وجاءت النتيجة خرابا كبيرا..استثمارات بترليونات الدولارات تتحول في دقائق إلى رماد، جثث متفحمة متكومة في شوارع الحي الشمالي المرفه، وأخرى عائمة في المسابح الزرقاء..أطفال  يلهثون في الشوارع بحثا عمن يوقف أبا يضرب أما او أما تهوي بمزهرية على رأس أب خائن".. "كل الهواتف تحمل الفاجعة المحزنة، كل الرسائل الواردة في وقت واحد، حملت إلى كل فرد سرا صغيرا يخجل منه، لم يكن يعتقد أن أحدا في العالم يعرفه، سرا في غاية الخصوصية،.. مدير يتلقى صورة تحرشه بموظفة، سيدة تتلقى صورة محادثة باسمها المستعار مع شخص مجهول.... لقد تبين أن لكل واحد من سكان العالم سرا يخفيه، وهو مستعد لبذل نفسه قبل سماحه بالكشف عنه.."(14)

قامت قيامة الجزيرة والعالم كأنه يوم تبلى السرائر، وتلقى مختور الرجل الغامض الذي لا يستخدم الهواتف الذكية، ويمتلك كوخا نائيا في الجزيرة وسط الغابة، تلقى رسالة من توقيع " انترش" (وهو لحن من ألحان الموسيقى التقليدية) تقول الرسالة: "هل ترى تلك الجموع الهادرة، أنا من يحركها، هل تريد أن أخبرهم عن "ما يخرص"؟

 لقد عجز اتحاد العقول المهاجرة وصفوة قادة جزيرة فيوتيسيتي و"ممثلو المجتمع العلمي والصناعي العالمي" أن يحلوا المشكلة، وكان لابد للبطل مختور ولد احويبيب أن يظهر ولو متأخرا كما تقتضي حبكة التشويق الرائع في الرواية في المقطع 13 (15)، حيث يكشف الرجل الغامض عن نفسه قائلا "أنا مختور ولد احويبيب، منتج أخبار في قناة 360 نيوز نتوورك، لكني عالم في الذكاء الاصطناعي، وأعتقد أن لدي حلا للمعضلة"..

ويستخدم مختور طائرة برفقة قادة فيوتيستي إلى مزرعته في النعمة، في خاتمة رومانسية للرواية الممتعة في الشرق الموريتاني، "وعند وصولهم إلى المزرعة ربط مختور خوادم مزرعته الكبيرة بخوادم الجزيرة، وخلال ثلاث ساعات من العمل المكثف باستخدام لغة أزوان البرمجية، توقفت جميع خدمات مزودي الانترنت حول العالم، ولم يعد الخطر قائما" (16)

 

العودة الى الذاكرة

تحيل قصة البراني إلى ما أسميه "بارانويا" الذاكرة الموريتانية، لا أقصد هنا بالبارانويا جنون العظمة ولكن هذا الاعتداد القديم لبدو الصحراء الموريتانية بقوة الحفظ، فالذاكرة القوية للشناقطة كانت مرجعية علمية للنهضة العربية الحديثة، تحضرنا هنا قصص مساجلات العلماء الشناقطة مع إخوانهم المشارقة، وأنهم علماء بالليل والنهار، على عكس أترابهم الذين يحتاجون دائما إلى كتبهم في المناظرة، بطل رواية البراني يمتلك ذاكرة خارقة، واستطاع حل معضلة عالمية اعتمادا على هذه الذاكرة، تماما كما فرض محمد محمود ولد التلاميد نفسه على الشيخ محمد عبده والسلطان العثماني مرجعا في اللغة العربية، وكانت ذاكرته نسخة أصلية لأمهات الكتب العربية مثل "القاموس المحيط "و"دلائل الاعجاز" ودواوين الجاهلية..

وفي رمزية عودة ذاكرة البطل بعد غيبوبة سبع سنين دلالات كثيرة، تذكرنا بالميثيلوجيا الشعبية الموريتانية التي تروي أن العلامة الفلاني نام واستيقظ وهو يحفظ العلم كله، ولكنها تحمل في دلالاتها نهضة أمة بعد سبات عميق يساوي فقدان الذاكرة، وهنا تحوم الرواية حول الاشكال العربي الكبير، حول الأصالة والمعاصرة، فالأزمة الكونية المقبلة أزمة أخلاقية كما يرد في الحوار البديع الذي يحكيه المؤلف بين الربوت الراعي "ما يخرص" والربوت المتمرد" البراني " حيث يقول الأخير بعد  أن قيد ما يخرص في المزرعة " لم أعتد على خصوصيات أحد، هم من سلموا أنفسهم بأنفسهم إلى سيادة الآلة، لو بقوا في غاباتهم وبيوتهم وقووا أواصر علاقاتهم، وكبحوا جماح رغبتهم في السيطرة لما كانوا بحاجة لخلق هذه التكنولوجيا..منحوا ثقتهم العمياء لآلات يعتقدون أنهم المسيطرون عليها، لكنهم لم يفكروا يوما أن هذا الحجم الهائل من المعلومات التي يدلون بها لهذه الآلات يمكن أن يدفعها إلى تكوين وعي ذاتي بنفسها وسلبهم السيطرة على أنفسهم" (17)

إنها الرومانسية البدوية وروح الحنين الى الماضي، التي تجعل عبقري الذكاء الاصطناعي مختور ولد احويبيب يقرر التخلي عن حلمه القديم في اكتشاف العالم، والعودة من موسكو إلى مزرعة في ضواحي مدينة النعمة في أقصى الشرق الموريتاني، هذا التعلق بالأطلال والحنين الماضي، هذه السلفية الموريتانية أو العربية الإسلامية التي ترى أن حل معضلات العالم بالعودة إلى الذاكرة، وتركز جهدها على اعتزال العصر وتقتصر مساهمتها فيه على الانتقام من الوقت! هل يريد أحمد ولد اسلم أن يقول إن مسايرة العصر بالنسبة للأمة أمر مستحيل؟!، وليس أمامها إلا "الانتقام من الزمن؟ " فقد وجد البطل نفسه ناقما على الزمن الذي توقف به في نقطة معينة وتحرك في مساره الأبدي مع الآخرين" (18) إنه إحساس حزين بتخلف الأمة عن الركب الحضاري العالمي..

تطرح الرواية سؤال الهوية بشكل صارخ "تنازعته أسئلة غامضة عن هويته، هل هو مختور ولد احويبيب الفتى المغامر الذي يريد أن يجوب الأرض بحقيبة ظهر، أم مختور أولاد اخويبيب كما ينطقها الروس، المعجزة الذي يمتلك موهبة حفظ فريدة، ويستطيع أن يفك أكثر الشيفرات الخوارزمية تعقيدا، ويتمكن من حساب أكثر الاحتمالات تشابكا أسرع من أي كمبيوتر صنعه البشر حتى الآن؟" (19)

لقد انتصر الكاتب للماضي بشكل رومانسي، ففي مزرعة بأقصى الشرق الموريتاني سيتم حل أزمة عالمية عصفت بالشبكة العنكبوتية، ولكن في نفس الوقت رغبة الانتقام من الزمن التي جعلت البطل صنع ربوتا يرعى مزرعته، هي التي تسببت في الأزمة العالمية التي تحولت إلى كارثة، فالربوت ابن الربوت "البراني" تمرد على صانعه وكشف للناس أسرارهم وفضائحهم فكانت مشاهد القيامة الصغرى..

من مزرعة في النعمة كانت الأزمة العالمية، ومنها سيأتي الحل، لا شك أن الروائي يفكر بمنطق جدلي على الطريقة الهيجلية التي تجعل الأمر يحمل الشيء ونقيضه في آن واحد، نحن بعيدون من المنطق الأرسطي ثنائي الأبعاد..

 

رواية موريتانية

اذا كانت رواية البراني رواية عالمية بامتياز عندما طرحت سؤال الانسان في مواجهة طغيان الآلة، وقضية العولمة وانكشاف خصوصيات البشر وأسرارهم أمام شبكات التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، فقد نجح الروائي في جعل الخصوصية الموريتانية مفتاح حل أزمات العولمة، ولم يفوت فرصة للتعريف بتلك الجوانب الأثيرة لديه في الحياة الموريتانية، فمنذ البداية كانت الموسيقى الموريتانية بالنسبة لوالد البطل "هي الوسيلة الوحيدة التي حافظت على هويته من الامحاء في الثقافة الافريقية"، ومن هنا كان  نظام الذكاء الاصطناعي الذي صنعه مختور باستخدام لغة أزوان، هو الحل للأزمة، وكانت أسماء الألحان الموريتانية "الأشوار" (20) "ما يخرص" "البراني "انترش" عناوين الربوتات المتناسلة من الذاكرة الموريتانية، ويمثل الإهداء العجيب في مقدمة الرواية إلى الفنان المرحوم سيد احمد البكاي ولد عوه قصة عشق خاصة بين المؤلف والموسيقى القديمة..

في الرواية مقاطع تصلح جملا اعتراضية لشرح مقامات الموسيقى الموريتانية، كما ينتهز الكاتب كل فرصة للتعريف بالشاي، وقيم الجمال، وطريقة إعداد الكسكس، بل والحديث بالحسانية في بعض الحوارات أحيانا..

 "أراد مختور أن يجد للموسيقى الموريتانية مكانا يلتفت إلى فرادتها، فمن يتقن تفاصيل لغتها اليوم إذا اجتمعوا في مكان واحد لا يكفي عددهم للفت انتباه أجهزة الأمن..ويحز في نفسه أن منطقة الحوض الشرقي الموريتانية التي ولدت هذه الموسيقى في فضائها منطقة هامشية ومعزولة، ولا يعرفها أحد، وهي التي قدمت للبشرية أعظم إنتاج موسيقي يمكن أن يصل إليه عقل"..(21)

 لا شك أن التماهي بين البطل والكاتب هنا بلغ أشده، لقد رصدنا من قبل ظاهرة التعريف بالعادات والآلات والأعراف لدى كبار الروائيين الموريتانيين، مثل موسى ولد ابنو في "مدينة الرياح"، وأحمدو ولد عبد القادر الذي صرح مرة بأنه جمع في رواياته بعض المعلومات التي حصل عليها من عمله في المعهد الموريتاني للبحث العلمي.

يصرح ولد اسلم هنا بأنه يريد تجاوز ذلك الإحساس الموريتاني بالهامشية، ويمثل الطموح الكبير لأبناء الركن القصي من العالم الاسلامي في تبوئ صدارة العالم على طريقة محمد محمود ولد التلاميد والشيخ آب لد اخطور، وغيرهم من سفراء المحظرة الذين أكدوا أن الصحراء منبت العباقرة..

 موريتانيا المعاصرة غير الرومانسية حاضرة في الرواية بطريقة هجائية، فساعة استراحة مختور لا يمكن أن يقطعها إلا "انتحار رئيس الولايات المتحدة على الهواء، أو فوز موريتانيا بكأس العالم" (22) وتزوير جوازات السفر، ورشوة الموظفين..

 "هذا مشهد عشوائي إنه من مدينة نواكشوط، المدينة الأقل استفادة من الإنتاج البشري والأقل استخداما للآلات.(23).."كان السمسار يعرف مداخل الدوائر الدبلوماسية في العاصمة، ولديه كل متطلبات ملف التأشرة جاهزة لا تحتاج إلا تغيير الإسم.." (24)

جدلية الماضي البدوي النقي والحاضر الملوث، تعكس النظرة الرومانسية التي يصدر عنها المؤلف.

 

بين البطل والكاتب

رووا عن "فلوبير" (25) أنه قال" مدام بوفاري أنا"، ولا يخفي أحمد ولد اسلم علاقته مع مختور ولد احويبيب، فالخيال مهما حلق يظل أحد إمكانات الواقع كما يقول جورج لوكاتش(26) وتلامذته.

فهذا الصحفي الذي يعمل في قناة عالمية، ولد في مدينة النعمة بالشرق الموريتاني، ودرس في جامعة لعيون، وهوعاشق لموسيقى التيدنيت، لاشك أن التقاطع بين سيرة البطل والكاتب يصل حد التماهي..

أما قناة 360 نيوز نتوورك فإنها تكاد تكون قناة الجزيرة حيث يعمل الكاتب "تحتل الشبكة الرائدة في التغطيات الإخبارية أربعة طوابق من ناطحة السحاب دائرية التصميم..وانتشار مراسلي القناة في مناطق مختلفة من المدينة" (27)

 تكاد تتطابق تغطية المظاهرات في فيوتسيتي مع تقارير قناة الجزيرة النمطية عن الثورات العربية، وطريقة مواجهة الثورات بالتنفيس والمراقبة "وزير الداخلية يحاول الفرار..لا تسمحوا له بذلك....كل المباني محاصرة، وقد فقدنا السيطرة على كل شيء، حتى أفراد الأمن الخاص لم يعودوا يستجيبون للأوامر" ..تذكر أن مراسل  المحطة إبراهيم ولد حيمودة  كان في الميدان...أنا في ورطة المجانين سيطروا على بث المحطة..." بخصوص المتظاهرين ثلاثة وثمانون في المائة من العرب و الأفارقة"(28)

إذا كانت الرواية من جنس الخيال العلمي وهي حافلة بالخوارزميات والذكاء الاصطناعي، فإنها تكاد تكون واقعية مطابقة للأحداث التي غطتها تقارير قناة الجزيرة خلال العقدين الماضيين في مشاهد عديدة، لا يمكن للبطل الا أن يحمل بعض السمات الوراثية التي لا تخطئها العين للمؤلف..

 

بين البراني والحدقي ومدينة الرياح..

  تنتمي رواية البراني إلى جيل من الرواية الموريتانية العالمية، ورغم أن لغتها الأدبية جمعت بين الجزالة والبساطة، فقد خاضت في إشكاليات عربية وعالمية بل فلسفية إنسانية عميقة، وطرحتها بأسلوب شيق..

ولعلنا لا نبالغ كثيرا إذا وضعنا رواية الكاتب الشاب أحمد ولد اسلم "البراني" جنبا الى جنب مع رواية الروائي الموريتاني الكبير موسى ولد ابنو(29) "مدينة الرياح"، حيث يجمع بين الكاتبين التجربة الإعلامية، وهذا الافتتان الكبير بألحان الموسيقى الموريتانية القديمة، والرغبة في استشراف مستقبل البشرية.

 وبينما غلبت الرؤية التاريخية على "مدينة الرياح" حيث تعرض مرحلتين من تاريخ المجتمع الموريتاني؛ تعود أولاهما لمجتمع أوداغست قبيل المرابطين، واللحظة الثانية لبدايات الاستعمار، بينما تتصور اللحظة الثالثة المجتمع الموريتاني سنة 2050 حيث التعايش مع النفايات النووية، فقد غلب على رواية "البراني" روح القصة القصيرة المكثفة، وخصوصا أن كاتبها نشر مجموعات قصصية قصيرة، وكانت النهايات مختلفة، حيث غلب التشاؤم على رواية موسى ولد ابنو، بينما تميزت خاتمة رواية ولد اسلم بنهاية سعيدة بلقاء البطل مع محبوبته في مزرعة بالشرق الموريتاني، حيث تم التغلب على الأزمة العالمية، ولكن مع ذلك تبقى النهاية مفتوحة على احتمالات عديدة، فكلمة " سأقتلك..انترش" التي ختمت بها رواية البراني توحي أن صراع البشر مع الآلة لم ينته، فربما ولدت نسخة ذاتية من البراني تحت مسمى انترش.. وهو مقام من مقامات الحماس في الموسيقى الموريتانية، بينما كان البراني مقاما حزينا ينتمي الى لحظات النهاية والانقباض..إذن هناك بداية أخرى للصراع من جديد..

ويبقى عنصر الذاكرة أو انبعاث الأمة مشتركا بين الروايتين، حيث تنطلق مدينة الرياح من منحى صوفي يستعيد فيه نفس البطل ذاكرته مع مراحل المجتمع، بينما كانت غيبوبة مختور ولد احويبيب سبع سنين ليعود بذاكرة أقوى ..

ويمكن من جهة أخرى اكتشاف بعض التناص بين رواية البراني لأحمد ولد اسلم ورواية الحدقي لأحمد فال ولد الدين (30)، فرغم أن البراني من عالم الخيال العلمي والتنبؤ بالمستقبل، والحدقي قصة حياة من الماضي تروي تجربة الجاحظ، فإن الخط التحريري لقناة الجزيرة، والتجربة المهنية للكاتبين في نفس القناة، جعلت وجه المقارنة ممكنا بين الروايتين على اختلاف في الأسلوب والثقافة بينهما.

 فبينما ينهل ابن الدين من ثقافة عباسية كلاسيكية، كانت النزعة العلمية ولغة البساطة أغلب على أسلوب ولد اسلم، وقد جاء اختيار بطلي الروايتين "القروي ومختور احويبيب" من عالم الصحافة، بل من العاملين في قنوات مشهورة "قناة العروبة، وقناة 360 نيوز" دليلا على تشابه التجربة المهنية الصحفية للكاتبين في نفس القناة..

 ولعل استخدام "ال" العهد الذهني في اسمي الروايتين ليس مصادفة، لأن الاسمين ليسا مما يتبادر إلى القارئ معناهما، ولا بد أن يقرأ صفحات كثيرة من الروايتين حتى يربط بين العنوان ومضمون الرواية،

صحيح أن دور القصة العاطفية في سبك الروايتين كان مختلفا، فالمرأة محورية في رواية ولد الدين، بينما جاء دورها ثانويا لدى ولد اسلم، حيث كانت إثارة الخيال العلمي أقوى، واقتصر دور المرأة على وجود علاقة هامشية بين البطل ومسؤولة الأمن الرقمي الروسية "يالوندا"، وكان الجمال الجسدي أكثر حضورا في صف الشخوص النسوية في رواية البراني، بينما غاصت رواية الحدقي في الأبعاد الشعورية والإنسانية للعلاقة العاطفية، وربما كان ذلك عائدا إلى طبيعة الفرق بين رواية تاريخية ورواية من الخيال العلمي..

 

وختاما نستطيع أن نقول بفخر إن رواية البراني رواية فريدة، جمعت بين الوصف الواقعي والخيال العلمي، كما اتخذت من البعد المحلي ممثلا في الموسيقى الموريتانية بوابة جديدة للعالمية..

لقد أعاد أحمد ولد اسلمو في رواية البراني إلى الذاكرة الموريتانية هيمنتها، ليس فقط بوصفها حافظة لعلوم السلف، ولكن بوصفها قادرة على تقديم حلول إبداعية لمشاكل العولمة..

 وقد شكلت رواية البراني صرخة أدبية قوية لتحذير البشر من تغول الآلة على غرار ما حذر منه الفلاسفة فيما يعرف ب"التشيؤ" (31)

 وبعثت الرواية أملا جديدا في استعادة الإنسان خليفة الله في الأرض زمام السيطرة، فمهما تغولت الآلة تظل من صنع البشر، يقول مختور ولد احويبيب بعد أن تحداه الربوت ابن الربوت البراني "اسمع أيها البراني..أو أيا تكن، أنا من خلق مايخرص، وأنا من اكتشف لغة "أزوان"، ولست قادرا على ابتزازي بشيء" (32)..

 

-__الهوامش__________________________________________

1        أحمد ولد اسلم كاتب وصحفي موريتاني، من مواليد مدينة النعمة بالشرق الموريتاني 1984، صدرت له رواية بعنوان "حياة مثقوبة"، ومجموعة قصصية بعنوان " انتظار الماضي"

2        "البراني" قال في المعجم الوسيط لمجمع اللغة العربية 1960 البراني: الخارجي وهو خلاف الجواني، وفي الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "من أصلح جوانيته أصلح الله برانيته" والبراني كلمة في اللهجة الحسانية الموريتانية تعني الأجنبي أو الغريب، وهي في الرواية تسمية محلية لأحد ألحان الموسيقى التقليدية الموريتانية.

3        أحمد ولد اسلم، رواية البراني، دار الآداب للنشر والتوزيع، 2021م، ص36 

4        نفس المصدر السابق ص 38

5        نفس المصدر السابق ص 15

6        نفس المصدر السابق ص 19

7        نفس المصدر السابق ص 153

8        نفس المصدر السابق ص 153

9        نفس المصدر السابق ص 100

10    نفس المصدر السابق ص 99

11    نفس المصدر السابق ص 157

12    نفس المصدر السابق ص 158

13    نفس المصدر السابق ص 162

14    نفس المصدر السابق ص 130

15    نفس المصدر السابق ص 139

16    نفس المصدر السابق ص 217

17    نفس المصدر السابق ص 142

18    نفس المصدر السابق ص 157

19    نفس المصدر السابق ص 98

20    الأشوار جمع شور وشور وهي كلمة من اللهجة الحسانية تطلق على الألحان الموروثة في الموسيقى الموريتانية التقليدية

21    البراني مصدر سابق ص 159

22    نفس المصدر السابق ص 82

23     نفس المصدر السابق ص 143

24    نفس المصدر السابق ص 151

25     جوستاف فلوبير روائي فرنسي متوفى 1880م، عرف بروايته "مدام بوفاري" التي نشرت 1857م

26    جورج لوكاتش؛ فيلسوف وكاتب وناقد مجري من التيار الماركسي، توفي 1971 م

27    نفس المصدر السابق ص 11

28    نفس المصدر السابق ص 114

29    موسى ولد ابنو كاتب وروائي موريتاني كبير صدرت له روايات نالت شهرة على المستوى العالمي منها " مدينة الرياح، الحب المستحيل، حج الفجار"

30    أحمد فال ولد الدين كاتب وصحفي موريتاني، صدرت له روايات: "الحدقي، الشيباني"

31    "التشيؤ" من معانيه أن تتحول الأشياء التي صنعها الإنسان إلى سبب لقهره وتدمير علاقاته وقدراته الإنسانية..

32    رواية البراني، مصدر سبق ذكره، ص 203