Translate

الثلاثاء، 31 مايو 2011

الإشارة في تدبير الوزارة

محمد محمود ولد سيدي يحي
كتبت إليّ -هداك الله- تسألني عن أمر الوزارة  وما يجب توفره  في المرء من الشروط حتى يكون أهلا للتوق إليها والطمع في تسنّم ذروتها، وما يحتاجه في نفسه وأهله من الأمارات حتى ينال رضى ولي الأمر و يكون مثل الحسن بن سهل مع المأمون ولسان الدين بن الخطيب في بلاط بني الأحمر.
 وقلت جعلنا الله وإياك من أهل الحظوة في الدارين أن مما يزهدك في هذا المنصب العظيم الذي يتسابق إليه  الناس في هذا الزمان ما لحقه من غبار الديموقراطية التي رمت به حتى صار مطمعا لمن هب ودب، ودخل في عداد أحلام العامة من السوقة والدهماء التي ظل إلى عهد قريب مما لا تطمح إليه.
وذكرت في كلامك ما درج عليه أسلاف هذه الأمة منذ ابن المقفع ومرورا بفقهاء الآداب السلطانية وانتهاء بالعلامة عبد الرحمن بن خلدون الذي جعل هذا المضمار علما أفرده في مقدمته العجيبة، وعرجت في ذلك على كتاب "الإشارة في تدبير الإمارة" للإمام الحضرمي المرادي دفين عاصمة المرابطين، وقلت: إنما أريدها إشارة في تدبير الوزارة لأن الدساتير العصرية فصلت أمر الإمامة العظمى تفصيلا لأنها مما يكثر الخلاف حوله في أمور السياسة، ولكنها لم تجعل للوزراء من العناية ما يساوي مشقة مهامهم؛ فكأنهم "لحم الرقبة مأكول ومذموم".
وسقت في حججك التي بثثتها في كتابك ما لا يعدّ ولا يحصى مما يتعرّض له أعضاء الحكومات من أصناف المتاعب ممن فوقهم ومن تحتهم، وخصوصا ما ابتلاهم الله به من أمر هذه الهيئات التشريعية التي يسمونها البرلمان، وكيف يحتاجون إلى ما يقطعون به عنهم ألسنة الخلق من متفيهقي الصحافة الذين لا تقوى أقلامهم إلا من لحوم المسئولين وأكل غيبتهم...إلى غير ذلك مما أطلت فيه وفصّلت.
ولقد قلت في نفسي بعد تصفّح كتابك إنك ربما أخطأت في العنوان أو أرسلت رسالتك إلى فلان وعلان من أهل هذا الشان.. وعزمت على تجاهل مطلبك، ولكنك عدت إلى المراسلة وأمعنت في المجادلة.
 فما كان مني إلا أن بتّ على الاستخارة لعل الله يلهمني أمر رشد يعزّ فيه أهل الطاعة ويذلّ فيه أهل المعصية، ويكون من باب كرامات الصالحين ممن وهبهم الله علوما من غير دراسة ولا تجربة كما وقع لكثير من أولياء الله بهذه الصحراء المباركة، وقد علمت المثل القائل"خذوا الحكمة من أفواه المجانين، واطلبوا العلم ولو في الصين"
فقلت وعلى الله المتّكل:
اعلم هيأك الله للتعيين وجعلك به من الفائزين أن علماء اللغة العربية اختلفوا في أصل الوزارة هل هي من الأزر أم من الوزر.
وقال أهل التحقيق إنها  تبدأ شدّا لأزر وليّ الأمر، ولكنها كثيرا ما تنقلب وزرا على صاحبها إذا لم يحسن صحبة السلطان ويتأدب الآداب المطلوبة في قضاء حوائج العامة، واسترضاء المنتخبين من فرق البرلمان، وغيرهم من متربّصي الصحافة.
وقد قال بعض من ينتسبون إلى العلم أن الوزارة الشرعية محصورة في القرابات واستدلّوا لذلك بقوله تعالى على لسان كليم الله موسى عليه السلام {واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي}، ونسي هؤلاء أن ذلك من خصوصيات الوزارة في أمور الدين وتبليغ الوحي. أما في شؤون السياسة فإن الوزارة  تكليف لا تشريف يهبه ولي الأمر لمن شاء من رعيته شريطة الولاء التام والطاعة في المنشط والمكره.
ولا عبرة بما يدعو إليه الغربيون من حكومات التأليف والائتلاف التي تتكون من أعضاء لا يجمعهم مشرب واحد ولا يأتمرون بأمر وليّ الأمر وحده؛ فتراهم يعودون لأحزابهم ويستشيرونهم في كل صغيرة وكبيرة لأنه مناف لما نصّ عليه صاحب المقدمة من انفراد السلطان بالمجد، ولأن فيه من الوثنية السياسية ما لا يوافق عقائد الموحدين.
 وقد نمى إلى علمك ما نصّ عليه دستور هذه البلاد الذي جمع الأمر كله بيد وليّ الأمر ولم يعط الوزراء إلا بمقدار ما ينفذون التوجيهات السامية ورسائل التكليف، فلا يغرنك ما يقال مما يقصد به تأليف زعماء الأحزاب وغيرهم لأن رضى الناس غاية لا تدرك و{لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم} وخليق بهؤلاء أن يكون الحكم جواز مداراتهم بما ليس في حقيقة الأمر لأنهم كالفرس والمرأة وغيرها من لوازم البيت التي أجاز الفقهاء الكذب عليها استرضاء وتأليفا.
ونحمد الله على أن أمر المذهبية الحزبية لم يخالط شغاف قلوب ساكنة هذه الصحراء فيسهل أن يعين الوزير عن حزب فينتقل عنه إلى غيره، أو يكون من مؤمني آل فرعون يكتم إيمانه ولا يلبث أن يعلن ذلك، وفي ذلك قال الشاعر مضمنا بيت سلفه:
 نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحبّ إلا للوزير الأول
ولا يجهل مثلك ما جرى على ألسنة الناس في بلادنا من أن "الحكومة لا تكسو أحدا ثوبا إلا خلعته عنه" وهم يعبرون عن ذلك بالسروال وهو محل ستر عورة الرجل، فكأنهم بذلك ينصحون القادم باتخاذ ملابس داخلية يستعد بها لما هو لابدّ نازل به من زوال النعمة حتى لا تنكشف عوراته للناس.
وقد جرى عرف الموريتانيين أن ما يستر عورة المسئولين عند أنصارهم هو مقدار ما جروه من نفع مباشر عليهم من أعطيات عينية أو إقطاعات عقارية أو وساطات نافذة، أما ما يتشدق به الغربيون من أمر الشفافية فإنه نقيض ستر العورة في الأحكام السلطانية الموريتانية، وعلى من يعتمد عليه أن يحفر قبره السياسي بيده اللهم إلا إذا بدّلت الأرض غير الأرض وتغيرت العقليات في لمح البصر وما ذلك على الله بعزيز.
 أما بقية هذا العلم فإنه نفيس وهو من المضنون به على غير أهله لأن فيه من أسرار الحروف والعجائب ما لا يجوز إفشاؤه على الملأ والله المستعان.



الخميس، 26 مايو 2011

موسوعة جينيس الموريتانية

 محمد محمود ولد سيدي يحي
لا يذكر المرء من الأرقام القياسية التي تفاخر بها بلادنا إلا ما يؤثر عن قطار الزويرات نواذيبو الذي يدّعون أنه أطول قطار في العالم.
غير أن المتأمل لحياة هذه الأمة الموريتانية الطيبة يستطيع أن يكتشف مجالات عديدة حطمنا فيها الأرقام القياسية العالمية ولكنها لا تتعلق بالضرورة بالاقتصاد أو المنجزات التكنولوجية.
ولقد كان من أول الأرقام التي اشتهرت بها البلاد منذ الستينيات ما عرف ببلاد المليون شاعر، ولا شك أن الرقم الذي لا يخلو من مبالغة يشير إلى دهشة زوار البلاد الأوائل من العرب الذين فاجأهم هذا الحضور القوي للثقافة العربية الكلاسيكية العالمة في ذلك الركن القصي المحصور بين الصحراء والمناطق المدارية.
ولعل من الأرقام التي تجاهلها المهتمون عدد حفاظ القرآن العظيم ونص خليل بن إسحاق المالكي و ألفية ابن مالك، وتتميز موريتانيا من بين معظم البلدان الإسلامية بأن معظم مصلياتها تتوفر على حفاظ يرتلون كتاب الله استظهارا في شهر رمضان وهو ما يعتبر رقما قياسيا مقارنة بعدد السكان.
ولقد دهش الرحالة والمستكشفون الاستعماريون الأوائل من عدد من يقرأون ويكتبون العربية في هذه المنطقة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مقارنة مع عموم ما عليه الحال في القارة الإفريقية وشعوبها المختلفة.
بيد أن الأرقام القياسية لا تقتصر على الجوانب الإيجابية؛ فلو أننا توجهنا إلى الحياة العصرية لوجدنا أن الموريتانيين يضربون الرقم القياسي في المكالمات الهاتفية، مقارنة مع أرقى الدول الصناعية، وهو رقم يعكس مستوى التبذير والإنفاق التفاخري الذي لا أظن شعبا يضاهي ساكنة هذه البلاد فيه.
ويبدو الشاي الموريتاني الأخضر بجيماته الثلاث "اجر واجماعة واجمر" أطول أنواع الشاي وأكثرها استهلاكا للوقت، ويمكننا أن نخمن أن معدل ما ينفقه الموريتاني العادي على الشاي سنويا يبلغ نسبة من دخله تفوق مقدار ما ينفقه الفرد في شعوب الصين وآسيا الشرقية التي صدرت إلينا هذه العادة الغذائية حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية.
وسيكون طريفا لو جمعت ألبسة الشعوب وقيس مقدار القماش الضروري لها، وعندها سيحتل لابسو الدراعة الذين لا ينحصرون في شعبنا قمة الهرم لأن ثوبا من عشرة أمتار يبدو الأكثر استهلاكا للقماش.
ولا نبالغ إذا قلنا إن معدل الطلاق في بلادنا أعلى بكثير من مستواه في جميع البلدان العربية والإسلامية، ويخفف من وطأة هذا الفشل العائلي ما يقبله مجتمعنا تقليديا  من الزواج بالمطلقات  الذي يصل أرقاما قد تصبح يوما ما قياسية عندما تتوفر إحصائيات دقيقة وحالة مدنية موثقة.
أما إذا نحن تجاوزنا الجوانب الاجتماعية العامة إلى مؤشرات التنمية التي يقاس بها تقدم  الأمم فإن المدرسة الوطنية الحديثة تراجعت عن محصول المحظرة الذي فاخرنا به في بعض المراحل الماضية؛ وفيما عدا تشاد يصر تقرير التنمية للأمم المتحدة على أن أداء نظامنا التربوي هو الأقل مردودية في العالم.
أما حجم  الرعاية الصحية وفاعليتها فإنها لا تتسم  بنفس السوء رغم أن عدد وفيات الأمهات بسبب الولادة  مازال مرتفعا، ولكن مدينة نواكشوط عاصمتنا الفتية تحتفظ برقم قياسي بين أقل عواصم العالم شوارع معبدة إضافة إلى كونها أفقر المدن المماثلة في مجال خدمات النظافة والصرف الصحي وأماكن الترفيه.
ولو أننا اتجهنا قليلا صوب المؤشرات السياسية العامة فإننا من أندر بلدان العالم الثالث التي لا يتسم انتقال السلطة فيها بالدموية ويعيش معظم رؤسائها السابقين أحياء.
 غير أن الاهتمام بالسياسة في حياتنا اليومية ومقدار ما تشغله من أحاديثنا يفوق أضعافا مضاعفة ما عليه الحال لدى مواطني الأمم المتقدمة، وتفوق نسبة أحزابنا الستين ومنظماتنا غير الحكومية الألف وتعاونياتنا التي تجاوزت عشرة آلاف  ما عليه الحال في كثير من البلدان مقارنة مع عدد سكاننا الذي لم يتجاوز الثلاثة ملايين.
وأخشى أن نكون قد سجلنا رقما قياسيا في عدد السياسيين الناجحين الذين أثروا من المال العام وعلى حسابه،  وربما كانت موازنتنا المالية أكثر الموازنات صرفا على التأثيث والصيانة والورشات والملتقيات  وما يسمى التسيير مقارنة مع ميزانيات الدول المماثلة.
ولا نريد هنا أن نرسم صورة كاريكاتورية قاتمة فموريتانيا أقل بلدان العالم تلوثا بيئيا على الأقل في مجالها البري لأن البيئة البحرية في شواطئنا تعرضت لاستنزاف شديد وتلويث شجعه ضعف الرقابة في بعض المراحل السابقة.
ونحن والحمد لله في مقدمة البلدان من حيث عدد الأولياء والصالحين، وبإمكاننا لو أردنا ذلك توظيف مهارات مشايخنا وحجّابينا  في تحقيق إنجازات رائعة ولكن تيار الإنكار والعلمانية الذي بدأ يغزو أجيالنا الشابة حال بيننا وبين الاستغلال الأمثل لهذه الطاقات المعطّلة!!
ومن نعم الله التي لا تحصى جهل المانحين الدوليين بالشريعة الإسلامية لأنهم لو علموا ما بهذه الصحراء من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم  من الشرفاء لما تجرأوا على توزيع صدقاتهم علينا لأن معظم أبناء شنقيط هم ممن تحرم عليهم الصدقة وتجوز لهم الهدية، ولو بقيت أخلافنا على ما كان عليه السلف البعيد من التشيع لكان في الخمس مندوحة ولكن الحمد لله على عقد الأشعري وفقه مالك واتباع طريقة الجنيد السالك.
وبإمكان موسوعة جينيس أن تنتظر جيلا أو اثنين حتى يصبح التسابق في الأرقام القياسية عادة موريتانية ويتم تطبيق الخطط التنموية لحكوماتنا المنتخبة، يومها سنكون قادرين على تسجيل أرقام أفضل في ميدان السبق التكنولوجي والمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية.

الأربعاء، 25 مايو 2011

ولد سيد يحي للأخبار: نتمنى أن تخلي السياسة متنفسا للقول العلمي ! مقابلة مع موقع وكالة الأخبار المستقلة



قال الباحث الاجتماعي محمد محمود ولد سيدي يحي إن الاستنزاف السياسي اضعف دور القبيلة العام وزاد الانقسامية؛ حيث تحررت العديد من المجموعات التي كانت تعاني من تراتبية عهد السيبة وظهرت سلاسل أنساب جديدة، و تفككت الأسرة الكبيرة وزاد الطلاق وانحراف الأحداث، وتراجعت مكانة المرأة الصنهاجية القديمة أمام البغاء والعنف الزوجي وزواج السرية الذي فتح بوابة للتعدد في أوساط لم تكن تقبله.

وقال ولد سيدي يحي في حديث خاص مع وكالة "الأخبار" المستقلة إن الإنهيار أنتقل إلي المستوي الديني حيث ضاقت فئات الشباب المتديّن بالثقافة التقليدية للمحظرة والطرق الصوفية وساهم الانفتاح في دخول تيارات سياسية و فكرية حديثة على الخط نلمسها اليوم بجلاء.

وأضاف :" إن من ينظر اليوم إلى قطعان الماشية التي ترعاها سيارات رباعية الدفع، يعلم أن أثاث الخيمة لم يتغير وحده وإنما تغير المجتمع الموريتاني".


وهذا نص المقابلة:

الأخبار: لقد أطلقتم في كتابكم على المجتمع الموريتاني وصف المجتمع الفضفاض، ماذا تقصدون بذلك؟

م. م. سيد يحي: أولا أشكركم في وكالة الأخبار المستقلة على هذه العناية بالشأن الفكري والثقافي في بلد طغى فيه صوت السياسة على كل شيء.

في منتصف تسعينيات القرن المنصرم كتبتُ مقالا في جريدة البيان تحت عنوان "المجتمع الفضفاض"، كانت البنوك الاستثمارية تفلس بسرعة، وكان الصيد نهبا للرخص الفوضوية، والتعيينات السياسية بدون أي معيار، وحتى على الصعيد الاجتماعي والعائلي برزت ظاهرة النساء الملثمات اللاتي يقفن صفوفا على الشوارع ليتسابق إليهن سائقو السيارات الفارهة.
لاحظت يومها أن المجتمع يعرف تحولات عاصفة، وأن قادة الرأي فيه مطالبون ببناء ملاذات آمنة حتى لا ينتهي مساره بالفوضى، ووقع اختياري على الفضفضة كعنوان للمقال وللكتاب الذي جاء بعد ذلك بعدة سنوات، لأن المجتمع يلبس ثوبا قديما من القبلية وعادات الإنفاق التفاخري ولم يوفق بعد في اختيار الثوب العصري الذي يناسبه.

الأخبار: تقولون إن المجتمع الموريتاني القديم شبه أمومي، هل لكم أن تشرحوا وتبرروا هذا الرأي وأهم معالم النظام شبه الأمومي وانعكاسات ذلك في الواقع الاجتماعي الحالي؟

م. م. سيد يحي: كانت مقولة الأمومية محاولة للرد على بعض الزملاء الذين يستسهلون وصف المجتمع الموريتاني بأنه أبوي على غرار المجتمعات العربية الأخرى، وبدا لي أن الشواهد التاريخية عن مجتمع صنهاجة القديم وحضور المرأة الموريتانية القوي في البيت والعائلة حتى اليوم، وسهولة تقبل الطلاق وخصوصا لدى البيظان لدرجة أن الآباء غير مساءلين اجتماعيا عن نفقة أطفالهم كلها مؤشرات على أن التقاليد الأمومية لسلفنا الصنهاجي مازالت حاضرة.

ففي التقاليد الأمومية يتحمل الأخوال نفقة أبناء الأخت لأنهم من كان يرثهم قبل تغلغل الشريعة الإسلامية في حياة الناس، وهذا ملموس لدى إخواننا الطوارق إلى عهد قريب.
وقد شرح الدكتور الشيخ أنتا جوب رحمه الله من السينغال هذه الفكرة كثيرا عن المجتمعات الإفريقية في المنطقة.

وفي المجتمع الموريتاني الحديث تسود الأسرة "مركزية الأم" وخصوصا أن الإحصائيات الرسمية تؤكد أن ثلث الزيجات تفشل بينما تعول النساء ثلث الأسر، وذلك ما يخلق مشاكل اجتماعية وأخلاقية كثيرة في مجتمعنا الحديث.

الأخبار: تكلمتم عن "السحوة" في المجتمع الموريتاني وعرضتم للتحلل من هذه القيمة في حفلات الزواج وما شابهها هلا وضحتم لنا ذلك؟
م. م. سيد يحي: مثلت تقاليد التحاشي كما يسميها علماء الانتروبولوجيا حدودا لتنظيم علاقات كثيفة في المجتمعات التقليدية، وما أردت توضيحه في تناولي لموضوع السحوة هو تمييزها عن الحياء الشرعي الذي هو من شعب الإيمان، ورغم أن البعض اليوم ينتقد الآثار السلبية للسحوة على النساء اللواتي لا يتجرأن على متابعة الفحوصات الضرورية للحمل، أو حتى إرضاع الطفل والتعبير عن الحنان الأبوي تجاهه، إلا أنني أردت أن أبيّن أن هذه العادات ليست متزمتة في المجتمع القديم حيث يسمح للشباب في الأعراس بأحاديث قد تبدو إباحية وذلك كنوع من التثقيف الجنسي للزوجين الجديدين في مجتمع تقليدي.

طبعا كان من الضروري أن نعرف أننا بحاجة إلى ثقافة جنسية عصرية، ولكن التضايق من جدران السحوة التي بدأت تتهاوى تحت تأثير الفردية والجدران الإسمنتية، هذا التضايق ليس مبررا دائما لأن للسحوة جوانبها الإيجابية عندما تحمي حياة الأسر الجديدة من تدخل كبار السن في شؤونها بشكل صريح ومباشر، كما تمنع ولو مؤقتا من التدخين أمام الكبار, فللظواهر الاجتماعية وظائفها المتعددة التي تختلف أحيانا عن المبررات العلنية التي يقدمها المجتمع لتسويغها.

الأخبار: تحدثتم عن بعض الشخصيات الأسطورية في الميثيولوجيا الموريتانية " سعاد ولاله" ما هي هذه الشخوص؟

م. م. سيد يحي: كثيرا ما تكون الميثيولجيا تبريرا متأخرا ومغلوطا أحيانا لظواهر سابقة، وبالنسبة لأسطورة سعاد تلك الجميلة التي تفتن رجال الحي عن زوجاتهم، حاول المجتمع الموريتاني أن يجد تبريرا أسطوريا لظاهرة الفتور العاطفي والفشل الزوجي الشائع لدى شرائح كثيرة.

وكما أشرنا من قبل فإن سلفنا القديم كان ليبراليا في العلاقات الزوجية حتى أن فقيه المرابطين عبد الله بن ياسين كان يطلّق ويتزوج بمعدل شهري أحيانا، فالسيدة سعاد التي تحول بين المرء وزوجه معروفة منذ القدم، وفي نظري أن حياتنا المعاصرة وضرورات تربية الأطفال تقتضي من الآباء تعاملا أكثر جدية مع الرابطة الزوجية التي سماها الله "ميثاقا غليظا".

الأخبار: تضمن كتابكم مقالا بعنوان "الإسلام الموريتاني بين راديكالية "شرببه" وعلمانية "الزوايا" ما ذا تقصدون في هذا العنوان؟

م. م. سيد يحي: كتبت هذا المقال في سياق جدل أثاره مقال لأستاذنا الدكتور عبد الودود ولد الشيخ حول الاستبداد الموريتاني وأعاد تصلب النظام يومها من بين أمور أخرى إلى جذور التزمت المرابطي، وحاولت خلاله أن أقدم تصورا لسوسيولوجيا التديّن الموريتاني، يؤكد رغم ما يبدو من طابع المداراة العام الذي طبع علاقة فقهاء السيبة مع الأمراء على الروح النقدي المضمر لذلك التدين الذي يبدو مهادنا.

وبالنسبة لي كان استسلام الفقه السلطاني للأمراء الظلمة في تاريخ الإسلام عموما رفضا ضمنيا لسلطة الضرورة وشرعية محدودة تعتمد على خوف الفتنة، ومن هنا ظل الفكر الإسلامي رغم فقه الطاعة الذي ساد، قادرا على إنبات حركات تجديد فكري وسياسي مثل المرابطين والموحدين والحركات الحديثة كالوهابية في الجزيرة والسنوسية في ليبيا والمهدية في السودان، والحركات الإسلامية الحديثة.

والخلاصة التي أوضحتها هي أن علمانية تقسيم العمل بين زوايا ومحاربين وهو تقسيم بالمناسبة تقليدي راسخ في مجتمعاتنا الإفريقية قبل الإسلام، لم تمنع هذا التدين الموريتاني من الاحتفاظ بجذوة شرببة حتى عندما أفتى فقهاء من ذوي الأفق الاستيراتيجي بالتعامل مع المستعمر فإنهم كانوا آخر المعاقل المقاومة ضد ثقافته كما شهدت عليه حرب المحظرة والمدرسة التي ما زالت قائمة حتى اليوم رغم رحيل المستعمر.

وقد دعوت بصراحة لتحرير سلطة المرجعية الدينية"المجلس الإسلامي الأعلى مثلا" في بلادنا من سيطرة الحكومة، وجعل الوظائف الدينية العليا مستقلة وخاضعة لمنطق تزكية وانتقاء خاص يحررها من الخضوع لرغبات الحكام، فما أفسد التديّن وقتل أخلاقيته العظيمة مثل اعتباره وظيفة سلطانية.

ومن ثم فإن حرية القول في الدين وتوجيه المجتمع ستكون متحررة نسبيا كما كان فقهاء عصر السيبة تجاه أمرائهم، وهذه هي العلمانية بمعنى تحرير الدين من الخضوع لأهواء الحكام.

الأخبار: وكيف ترون من زاوية علم الاجتماع المجتمع الشنقيطي القديم مبرزين أهم التغيرات التي حدثت في البنية الاجتماعية بينه وبين المجتمع الموريتاني الحديث؟

م. م. سيد يحي: لا يحبذ الاجتماعيون اليوم الحكم القيمي على المجتمعات القديمة بمعايير مراحل لاحقة، ويفضلون النظر إلى كل عصر بأنه أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، صحيح أن الماضي جزء من الحاضر ومؤثر في المستقبل، إلا أن تنصيب أنفسنا قضاة على الأسلاف كما تفعل بعض التيارات اليوم لا يخلو من تجنّ.

ويبدو أن البنية الاجتماعية لمجتمع السيبة الموريتاني القديم عرفت تغيرات هامة مع الاستقرار النسبي الذي أحدثه الاستعمار عندما فرض قيادات محلية في مجتمع انقسامي، إلا أن التغيرات الكبرى بدأت مع الجفاف في السبعينيات ومع الهجرة إلى المدن، حيث اضطر الناس إلى الدولة الحديثة وخدماتها، وتمت عملية تمزق واضحة لأجهزة الدولة الضعيفة أمام ضغط الحاجات المتزايدة.

وكان العامل الحاسم الثاني هو أحداث 1989 وديمقراطية التسعينيات وما لحقها من ليبرالية خلقت ظواهر التبتتيب والكزرة والفساد المالي الذي لم يكد يسلم بيت موريتاني من دخنه.

لقد أضعف الاستنزاف السياسي دور القبيلة العام وزاد الانقسامية؛ حيث تحررت العديد من المجموعات التي كانت تعاني من تراتبية عهد السيبة وظهرت سلاسل أنساب جديدة، وعلى المستوى العائلي كما أسلفنا تفككت الأسرة الكبيرة وزاد الطلاق وانحراف الأحداث، وتراجعت مكانة المرأة الصنهاجية القديمة أمام البغاء والعنف الزوجي وزواج السرية الذي فتح بوابة للتعدد في أوساط لم تكن تقبله.

وحتى على المستوى الديني ضاقت فئات الشباب المتديّن بالثقافة التقليدية للمحظرة والطرق الصوفية وساهم الانفتاح في دخول تيارات سياسية و فكرية حديثة على الخط.

إن من ينظر اليوم إلى قطعان الماشية التي ترعاها سيارات رباعية الدفع، يعلم أن أثاث الخيمة لم يتغير وحده وإنما تغير المجتمع الموريتاني، ونحن للأسف الشديد لا نتوفر على دراسات شاملة لرصد مختلف التغيرات لمعرفة مدى التعديل الكبير الذي مس سلم أولويات القيم عندنا والذي اختلف كثيرا عن قيم المجتمع الشنقيطي القديم، ولا أدل على ذلك من الدلالة السلبية لكلمة شنقيطي في بلاد الحجاز اليوم بعد أن كانت منذ عقود رمزا للورع والعلم.

الأخبار: في ظل طغيان السياسة على الاهتمام والتقويم كيف ينظر الباحث عموما والاجتماعي خصوصا إلى موقعه في موريتانيا اليوم؟

م. م. سيد يحي: لقد عبر الباحث الاجتماعي الكبير الدكتور عبد الودود ولد الشيخ عن مأزق الباحثين عموما في مجتمع طغت فيه السياسة على كل شيء وأصبح "الجاه" حسب التعبير الخلدوني موجها لكل شيء حتى البحث العلمي على ضآلته.

لقد كتب الرجل الذي نفاه جو موريتانيا الطارد للكفاءات في مقدمة مجلة الوسيط التي كان المعهد الموريتاني للبحث العلمي يصدرها افتتاحية تحت عنوان "من أجل حزب العلم"، ولكن الواقع رد عليه بأنه لا مجال إلا لحزب حقيقي واحد هو حزب المتنفذين الذين جعلوا العلم والمتعلمين في حضيض سلم المجتمع في بعض الفترات.

نحن نتمنى حقا أن تخلي السياسة متنفسا للقول العلمي وللأفكار غير الديماغوجية، حتى تنمو من جديد سوق للأفكار على هامش السوق الكبير للبضائع والأصوات المعبر عنها بلغة السياسيين، وبالنسبة لي فإن الباحث مطالب بالتعامل مع الواقع والاندماج فيه لأن ادعاء العصمة والترفع عن المجتمع لا يفيد.

وإذا كان العلم الإنساني بطبيعته نقديا وتنويريا فإن ذلك لا يحجر على الباحثين ويلزمهم بخيار سياسي بعينه في النهاية؛ فدور مؤمن آل فرعون يفيد أحيانا رغم أنه لا يضاهي دور موسى عليه السلام.

وممتهنو الفكر مضطرون في عالمنا الثالث لمداراة السلطان وخصوصا أن المجال السياسي يئن تحت رحمة استقطاب شديد، وتقاليد الالتزام السياسي في بلادنا مازالت هشة.

والموقع الطبيعي للباحث الاجتماعي هو الانحياز للقضايا العادلة والوقوف مع المهمشين، وهو و مطالب بالاحتفاظ بالخطاب النقدي التنويري بغضّ النظر عن انتمائه الحزبي، وحلمنا الكبير هو أن يتمكن المفكرون من العيش اعتمادا على أفكارهم حتى لا تدنس الديماغوجيا ولغة الدعاية روح العلم والبحث الجاد ولكنه حلم مازال بعيد المنال.

الأخبار: الظاهرة لا تحتاج إلى علم الاجتماع في تبلورها بينما يحتاج علم الاجتماع إلى الظاهرة ليعرض نفسه، كيف ترون ذلك؟

م. م. سيد يحي: تماما، يقال دائما إن العلم فهم تفسيري متأخر عن وجود الظواهر وخصوصا بالنسبة لعلم الاجتماع الذي تعاني فيه التنبؤات المستقبلية من نسبية كبيرة، لأن
الظواهر الإنسانية واعية وتستفيد من التنبؤات.

بعض المفكرين يمتلكون رؤية استشرافية للمستقبل إلا أنهم من القلائل ونادرا ما تستفيد منهم شعوبهم لأنهم يكونون كالغرباء في مجتمعاتهم.

الأخبار: هذا يقودنا لسؤال عن علمية علم الاجتماع وقوانينه والنسبية وتغيره بوصفه علما إنسانيا يتغير بتغير المجتمعات؟

م. م. سيد يحي: ينبغي أن نفهم أن النسبية كنظرية ظهرت أولا في أدق العلوم الطبيعية وهو علم الفيزياء على يد أينشتاين، فما بالك بالعلوم الإنسانية، لكن النسبية ليست مغمزا وإنما هي تنبيه جعل المجتمعات المتقدمة تعتني بالبحث العلمي الذي يستفيد من أخطائه، ورغم الاحتمالية الكبيرة للعلوم الإنسانية إلا أن التخطيط الحديث لابد أن يعتمد عليها في المجتمعات التي تحترم نفسها، فالبديل عن هذه العلوم على نسبيتها هو الارتجال وإطلاق التعميمات الجاهزة وهي عموما تظل أفضل بكثير من معارفنا الشائعة.
ونحن نعلم أن الكثير من المشاريع التنموية فشلت لأنها أهملت أخذ البنية الرمزية وعادات الشعوب وقيمها في الحسبان.

الأخبار: إذا كان ابن خلدون هو رائد علم الاجتماع عالميا فهل يمكن الحديث عن علم اجتماع عربي؟ والآيات التي ترصد ظواهر اجتماعية وكونية {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} كيف يستفيد منها علم الاجتماع؟

م. م. سيد يحي: لقد كان ابن خلدون ومضة في ظلام القرن الثامن الهجري، ولا يمكننا أن نتحدث عنه كرائد لأن جو عصر الضعف في الحضارة الإسلامية رمى مقدمته العجيبة تحت ركام الأنظام والحواشي، ولم تنشأ عن أفكاره تقاليد للدراسة الإنسانية رغم عبقرية أطروحاته.

لقد نشأ علم الاجتماع وتطور في ظل الحداثة الغربية وفي سياق أمم اكتشفت فجأة أن الأخلاف يستطيعون أن يكونوا أحسن من الأسلاف وأن التقدم في المستقبل وليس في العودة إلى الوراء، ومن هنا لم يكن لنا أن نكتشف ابن خلدون لو لم يكن الغربيون طوروا علومهم الإنسانية رغم أن كثيرا من نظريات الرجل مازال مرجعا في تحليل التاريخ الإسلامي والمجتمعات البدوية.

ويوجد اليوم علم اجتماع عربي ولكنه كغيره من العلوم الحديثة مكبل بأغلال المجتمع والسياسة وهو عالة على الدراسات الغربية، مادام البحث العلمي في أدنى سلم الأولويات في مجتمعاتنا العربية.

أما بالنسبة للقرآن الكريم كمصدر للعلوم فلاشك أن الكتاب المقدس يحمل الكثير من الإشارات التي استفاد منها ابن خلدون مثلا في مقدمته وما نظريته في علاقة الترف بخراب العمران إلا تطبيقا لمضمون قوله تعالى{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا}

إلا أنني لا أميل لأولئك الذين يبحثون في القرآن الكريم عن نظريات علمية فهذا كسل علمي لم يرده القرآن، وهو صرف للنصوص المقدسة عن دورها الذي هو تعبدي ووعظي وأخلاقي في المقام الأول.

إن القرآن يوجهنا لاستعمال العقل والتدبر في الآيات الكونية والاعتبار بسنن الأولين ولكن لأغراض وعظية وأخلاقية، وما هو مطلوب منا دينيّا هو أن نجتهد ونرتاب في التقاليد ونعرض كل شيء على العقل والبرهان والمعروف.

الأخبار: وإذا كان علم الاجتماع أو على الأقل بعض مدارسه تنظر إلى الأخلاق والدين والعلم وأشباهها على أنها ظواهر فكيف ينظر هو إلى نفسه داخل هذه المنظومة؟ هل يرى نفسه ظاهرة مثلا؟

م. م. سيد يحي: بالطبع علم الاجتماع ظاهرة فكرية حديثة النشأة كما أسلفت، وفي كتب المفكر الفرنسي ميشيل فوكو "المراقبة والمعاقبة" و"الكلمات والأشياء" و"حفريات المعرفة" يمكن للمرء أن يطالع قراءة غربية لأسباب نشأة العلوم الإنسانية ومن بينها علم الاجتماع، وعلاقة ذلك بضرورات السلطة وضبط حياة الناس ومراقبتها.
وهناك اليوم سوسيولوجيا السوسيولوجيا التي تدرس في الجامعات وعلم اجتماع المعرفة.

وبالنسبة للدين والأخلاق تدرس العلوم الإنسانية تمثلاتها الاجتماعية وعلاقتها بالبنيات وأنماط العيش، وقديما قال ابن خلدون إن مذاهب الحفظ والرواية كالمذهب المالكي والحنبلي تسود في المجتمعات البدوية كالمغرب وجزيرة العرب، بينما تختص الأمم الأكثر تحضرا كالفرس والترك بالمذاهب التي تسودها الخلافيات مثل الشافعية والحنفية التي انتشرت في مصر وبلاد الترك والشام.

وكما قال الفيلسوف الألماني الكبير كانط فإن العلم يدرس الظواهر أما الحقائق فهي موضوع إيمان فقط.

الأخبار: كيف ينظر علم الاجتماع اليوم إلى النظريات الفكرية الحديثة كنظرية عولمة العالم ونظرية هنتكتون وصراع الحضارات وأطروحة نهاية العالم والإنسان الأخير لفرنسيس فوكوياما ومثلها من النظريات الكبرى داخل حقل الفكر والسياسة؟

م. م. سيد يحي: تدخل جميع هذه النظريات في إطار الفكر الاجتماعي الحديث، وهي على العموم أفكار متأثرة بالجدل السياسي الذي لا يكاد يغيب عن شيء، وفي علم الاجتماع يتم الحديث عن هذه الأمور كما ناقش ألان تورين ما أسماه " المجتمع ما بعد الصناعي" ووضحه جيدا ألفن توفلر في كتابه "حضارة الموجة الثالثة"، ولكن الاهتمام العلمي هنا يركز على ظواهر حديثة هي ثورة المعلومات وسياسات قضاء وقت الفراغ، والفضائيات وأثرها على العائلة والتربية والسلطة دون التركيز على مشاغل التنافس السياسي التي قيدت أطروحات هنتكتون و فوكوياما.

ورغبة تثبيت التاريخ عند نقطة معينة، أو افتعال صراع بين حضارات محددة كلها أفكار تنقصها الصرامة العلمية وهي أقرب إلى الأحاديث الإعلامية والفكر السياسي منها إلى النظريات المؤسسة.


الأخبار: كيف ينظر علم الاجتماع اليوم إلى الأيديولوجيات؟

م. م. سيد يحي: كان مفهوم الأيديولوجيا في البداية مفهوما إيجابيا يعني النظريات العلمية المطابقة للواقع، ثم جاء التيار الماركسي ليجعل الأيديولوجيا تعبيرا عن التبرير الذي تقدمه الطبقات المسيطرة لاستمرار استغلالها للكادحين.

ويميّز "كارل مانهايم" بين الأيديولوجيا التي تبرر الواقع واليوتوبيا التي تعد الناس بالتغيير إلى الأحسن، ويعتبر أن دور عالم الاجتماع هو تحرير العلم من النزعتين لأن العلم رؤية نقدية تبحث عن الموضوعية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا.

ويعتقد الفيلسوف "كارل بوبر" في كتابه "عقم المذهب التاريخي" أن الأيديولوجيات الشمولية فاشلة وأن ما أسماه المجتمع المفتوح هو الذي يتطور وتنمو فيه الأفكار العلمية كما شهدت على ذلك تجربة الاشتراكية الروسية التي فشلت.

ويسود اعتقاد عام أن الأيديولوجيات الكبرى تضعف اليوم تحت وطأة ثورة المعلومات والإعلام، ولكن الحديث عن موت الأيديولوجيا لا يخلو من الأيديولوجيا هو أيضا، كما أن تحرر حياة البشر وحتى علومهم من القيم والأفكار المسيسة مجرد طموح مثالي مشروع ولكنه كالنور الذي نهتدي به دون أن نطمع بالوصول إليه.

الأخبار: ، لقد تحولتم عبر مراحل فكرية من إسلامي إلى منحى فلسفي ... ما هي أهم الاستنتاجات وكيف كانت الدوافع؟

م. م. سيد يحي: من الصعب على المرء أن يقدم تحليلا مستقلا لمسيرته الفكرية أو أن يوضح دوافعه لأنها حسب علماء النفس من عالم اللا شعور.وإحساسي الشخصي هو أن ثقافتي الإسلامية مازالت مهيمنة على همومي وانشغالاتي وهذا طبيعي وهو عام بالنسبة لجميع المسلمين وخصوصا أولئك الذين استهوتهم ذات مرة أفكار الصحوة الإسلامية.
ولا أخفي أنني خرجت بعد اطلاعي على بعض التراث الإنساني ممثلا في العلوم الاجتماعية باستنتاجات قد تختلف مع طبيعة الخطاب الفكري السائد سواء في الإسلام التقليدي الذي تعلمناه في المحظرة أو الإسلام المعاصر كما تقدمه الحركات الإسلامية.

وأنا مقتنع بأن الفهم الديني الذي ورثناه كان ملائما لمعارف السلف وظروفه ولكنه في كثير من جوانبه متخلف عن الثورة المعرفية الإنسانية التي حصلت في القرون الأخيرة، وحتى الخطاب السياسي للحركات الإسلامية كان مداهنا لتلك المدونة التقليدية وتبسيطيا إلى حد بعيد ربما تحت وطأة متطلبات حشد الأنصار.

وأظن أن الإسلام قادر على الاستفادة من الفرص التي تتيحها العولمة عندما يتخفف من ركام التفاصيل المتقادمة التي أرهقه بها الفقهاء، كما أنه قابل لأن يصبح دين الإنسانية المحبب لو تخفف من الأحقاد و الاصطفافات التي يحشره فيها بعض دعاة الإسلام السياسي والمتعصبون الغربيون.

وكما يقول الشيخ عبد الله ولد بيه ويؤكد دائما المفكر محمد ولد المختار الشنقيطي فهناك "حلف فضول" تلقائي بين الإسلام وبين أولئك الذين هم {أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض} بغض النظر عن دينهم وحضارتهم..

أظن أن المعاهد الدينية بحاجة لاستبدال علوم الآلة القديمة بعلوم إنسانية حديثة، كما أن الفقيه اليوم مضطر لمعرفة التغيرات الاجتماعية حتى لا يقيس مع وجود فارق زمني وتاريخي كبير.

إن النصوص القطعية تخاطبنا في جميع الأزمان ولكن عبر مرحلة عصر النزول، ولا بدّ من إزاحة ركام التاريخ حتى نصل إلى المقاصد الأخلاقية العامة والمواعظ الربانية التي تشكل "أمّ الكتاب".

وشعارات مثل"الإسلام صالح لكل زمان ومكان، شامل لجميع جوانب الحياة" صحيحة في معناها العام ولكنها مضللة ومخدّرة إذا أعطت انطباعا كما يفهمه الشباب بأن كل شيء جاهز وما علينا إلا التطبيق، بينما نحتاج اليوم إلى تربية الشباب المسلم على الاجتهاد وإعمال العقل والبحث عن حلول إبداعية، لا إلى الكسل الذهني واجترار أفكار أصبحت بالية، وإلا وقعنا في ظواهر الغلوّ والتكفير التي بدأت تغزو مجتمعاتنا.

الأخبار: شكرا لكم .
م. م. سيدي يحي: شكرا جزيلا لكم

-----------------------------------------
- محمد محمود ولد سيدي يحي.
- 1970 كيفة.
- دبلوم الدراسات العليا في علم الاجتماع.
- كاتب صحفي بالوكالة الموريتانية للأنباء/ رئيس القسم الدولي بجريدة الشعب اليومية.
- خبير اجتماعي مشارك في العديد من الدراسات حول المرأة والطفل.
- يعجبه قول الجابري: (علينا أن نتحول من كائنات تراثية إلى كائنات لديها تراث).

الجابري؛ وهج أفكار لا تموت / كتبت بمناسبة رحيل المفكر محمد عابد الجابري


محمد محمود ولد سيدي يحي

لا أظن أن مفكرا عربيا نال من الشهرة والاهتمام في الوسط الأكاديمي العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة مثلما نال فقيد الفكر والمعرفة المرحوم محمد عابد الجابري

ومنذ صدور كتابيه "تكوين العقل العربي" وبنية العقل العربي" بداية الثمانينيات من القرن المنصرم كان واضحا أن رؤية جديدة للفكر العربي عبر مساره الطويل قد ارتسمت مبتعدة عن ركام الدراسات "الخطابية" على حد تعبيره، وأن عقلا كبيرا قام بتعبيد طرق واضحة في تراث ظل عصيا على التصنيف والتقعيد.
وخلال التظاهرة الكبرى للمثقفين العرب في ندوة مركز دراسات الوحدة العربية بالكويت منتصف الثمانينيات"حول الـأصالة والمعاصرة"، كان على الجابري أن يتقدم جهابذة الفكر والثقافة العربية ليلقي مداخلته الافتتاحية الشهيرة "الأصالة والمعاصرة، إشكالية ثقافية أم صراع طبقي؟"، وكان لابد أن يشكو المشاركون من الصرامة المنطقية للمفكر الكبير في تحليلاته وخلاصاته، وأن يعترفوا بميلاد فيلسوف عربي كبير.
وفي محاضرة للجابري بجامعة قطر نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، تصدر الشيخ المفكر الإسلامي يوسف القرضاوي مجموعة الأساتذة الحاضرين، وكان كاتب هذه السطور آنذاك طالبا من المتطفلين، ومما لا ينساه درجة الإعجاب الكبير الذي عبر عنه الشيخ القرضاوي بهذا المفكر الذي بدا كمن يتقن مفاهيم التراث تماما كما يتقنها خريجو الأزهر والجامعات التقليدية العريقة.
ما الذي أعطى محمد عابد الجابري هذا الألق وتلك الفحولة الفكرية وذلك الحضور المهيمن؟
لا يعرف الجابري نفسه كيف خرج بذلك المزيج الغريب من الحميمية مع التراث في نفس الوقت الذي كان يمسك فيه ناصية الثورة الإبستمولوجية التي فتنت أوروبا ما بعد الحداثة، ليتحفنا بتلك الأفكار العبقرية عن التراث العربي الإسلامي.
وفي سيرته الذاتية الطريفة التي كتبها عن ذكريات صباه"حفريات في الذاكرة من بعيد" لا يجد المرء مما يشبه سير العباقرة، اللهم إلا كونه وحيد أمّ شغلها الزواج عن تربيته لينال من حنان الجدين والأخوال نصيبا وافرا، ربما كما كان على بعض الأنبياء والعظماء أن يعيشوا طفولة مشابهة.
يسمي أسلافنا من يعجبهم من العلماء "فلتة زمانه" وأظن أن الجابري جدير بهذا الوصف رغم أن مدرسة العلوم الإنسانية المغربية أخرجت جيلا من معاصريه وتلامذته كانوا على مستوى مشابه من الهضم للثقافة الغربية التي اكتفى إخوانهم المشارقة بترجمتها ورصها بالتجاور مع تراثهم دون أن يفلحوا في استثمارها بالطريقة المبدعة للجابري وأترابه.
تلقت الأوساط الأكاديمية فكر الجابري بالقبول رغم مشاكسات المشاكسين، لأن الرجل كان منتميا بشكل قوي إلى التراث الذي عانق إشكالياته رغم صرامته تجاه معوقات التطور في ذلك التراث ممثلة فيما سماها سلطات: "النص والسلف والتجويز"، كما كان الجابري منتميا باعتزاز إلى الأمة رغم قسوته على المشارقة التي جعلته يرى كل إبداع مرتبطا بتيار المفكرين في الغرب الإسلامي والأندلس على حساب المشارقة والعجم الذين اتهمهم بإدخال عدوى اللاعقلانية إلى الفكر العربي.
كانت طرافة تصنيف الجابري لأنظمة الفكر العربي ممثلة في "البيان والبرهان والعرفان"، وانتصاره الصارم للعقل أهم إضافة قدمها للباحثين في الركام الذي تجمّع طيلة خمسة عشر قرنا من الزمان، ولم يقف حمار الشيخ المغربي في العقبة فكانت آليات التحليل تتجدد عنده كل مرة بحسب الموضوع مختلفة في العقل السياسي"العقيدة والقبيلة والغنيمة"عنها في العقل الأخلاقي حينما انحاز لأخلاقية الإسلام الأصيلة في تفضيل العمل الصالح على أخلاق المروءة العربية والفناء الصوفي.
وفي كل مرة يتناول الجابري موضوعا فكريا تساهم قدرة التحليل والتصنيف التي تمتع بها ذهنه الوقاد في لملمة أطراف ثقافة موسوعية تبهر القراء.
لقد قال دائما إنه لا يمكن لأمة أن تنهض دون الانتظام في تراث، ولكنه دعا قومه أن يتحولوا من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث، والفرق شاسع بين المقولتين.
حرك الجابري أحاسيس الكثير من المعجبين لأنه يزاوج دائما بين التحليل الصارم الرصين وإشراق العبارة وجزالتها ووضوح المواقف الذي يعبر عن التزامية تبتعد عن برود الوضعية الجافة وعدمية النسبية المطلقة.
لقد كرس حياته للمساهمة في "عصر تدوين جديد" كما يسميه، لأنه اكتشف بكل وضوح أن منظومتنا الفكرية ما زالت أسيرة عصر التدوين الأول في القرنين الثاني والثالث الهجريين، ورغم تأثره الواضح بالتيار اليساري الذي ناضل من خلاله سياسيا، كان محمد عابد الجابري ماركسيا مجتهدا، ووجد في عبقريته الشخصية حصنا منيعا ضد التحليلات المادية المبتسرة والمكرورة.
ورغم استفادته الكبيرة من المناهج الحديثة، كان الجابري يأنف الانزلاق في صرعات ما بعد الحداثة التي تسوي بين الشعر والمنطق، وبين العقل والأسطورة، معتبرا أنه في الأمم التي تعاني من التخلف ينبغي أن نتعوّد أولا على العقل وصرامة المنطق ولا نجاري الذين شبعوا من ثمار العلم فطفقوا يتسلّون بألوان التفكير الأخرى.
رحل الجابري عن عالمنا، ولكن أفكاره العظيمة وكتاباته الثرية ستظل مرجعا لا يمكن تجاوزه لكل المهتمين بثقافة الأمة العربية الإسلامية وتراثها.
وستصطف كتبه في نقد العقل العربي مع من اختارهم من المفكرين أمثال ابن حزم وابن باجه وابن رشد وابن خلدون والشاطبي والعز بن عبد السلام، ستظل ملجأ دائما عندما يحكّم الإنسان عقله، ويعيد مساءلة التقاليد والمرويات بحثا عن مستقبل فوق الأرض وتحت الشمس