Translate

الخميس، 18 يوليو 2013

صوم العوامّ !

صوم العوامّ !

 محمد محمود ولد سيدي يحي


اعلم وفقك الله لصيام هذا الشهر وقيامه أن صوم العوامّ عندنا مظنة الأجر والثواب إن شاء الله، لأن الأصل في الصيام هو المشقة وهؤلاء أمة مخصوصة بصنوف المشقات النفسية والبدنية في هذا الشهر وغيره.

 ولا داعي هنا لذكر ما يعانيه صغار الموظفين والعمال البسطاء وعامة الموريتانيين من مشاكل اقتصادية في الشهر الذي أصبح عنوانا للاستهلاك بعد أن أراده الشارع الحكيم موسما للزهد والتقشف.

وأكثر المشقات عنتا في الشهر العظيم اختلال برامج النوم والسهر الاضطراري، وخصوصا لأهل الأعمال والأشغال ومن لا يملكون فرصة القران بين الصوم والنوم، وهي فسحة اختص الله بها أهل البطالة والفراغ، على ما فيها من تضييع الصلوات والإخلال بالمعاني الدينية للشهر الفضيل والعياذ بالله.

ومنهم من يرى أن عظيم أجر هذا الشهر الفضيل على مشقتين خفيتا على الناس؛ أولاهما عرق يتصبب عند الإفطار فيذهب عن الصائم فرحته بانقضاء يومه والتحلل من صومه، والمشقة الثانية ذلك الاستيقاظ الضروري لتناول أكلة السحور لأنه على ما فيه من البركة ثقيل على نفوس من لم يتعودوا قيام الليل وصلاة الفجر في الجماعة وما أكثرهم.

ومن المشقات التي لا يتحملها إلا من جعل الله قرة أعينهم في الصلاة، صلاة التراويح وما أدراك ما صلاة التروايح؛ فشقاء بعضنا معشر العوام ببعض الأئمة ممن يطيلون القراءة ويراعون الأمداد الطويلة ومخارج الحروف يفوّت علي كثيرين نعمة الاستماع لكلام الله، فإذا اجتمعت شدة الحر وضيق المساجد مع إطالة الإمام فإن الضجر يحل محل التدبر والتفكر عافانا الله وإياكم.

 ومن أئمة التراويح طائفة بكاؤون على مذهب بعض أهل المشرق لا يراعون في دمعهم وخنينهم ما بين آيات الوعد والوعيد، ولهؤلاء مريدون وزبناء يهاجرون إليهم من أقاصي المدينة يبكون ويتباكون، وهم بلاء عظيم لمن جمعه الله بهم ممن أصابه داء قسوة القلب وهو مرض عمت به البلوى عصمنا الله وإياكم.

ولعل من المصائب التي تكاد تذهب بأجور الفقراء والعوام في هذا الشهر ما يشغلهم في عشره الأواخر وهي موسم الحصاد في عبادة الصوم، فهي تمر عليهم سراعا على جمر الاستعداد لعيد الفطر ومتطلباته الاجتماعية التي تنوء بها كواهلهم.

ولو أننا معشر العوام صرفنا النية الخالصة في مشقات الصوم ومجاهداته الكثيرة تقربا إلى الله تعالى لكان أجرنا مضاعفا إن شاء الله، وعزاؤنا الحديث القدسي "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"


رزقنا الله وإياكم إخلاص النية في جميع الأعمال والأقوال، وجعلنا وإياكم ممن صام هذا الشهر إيمانا واحتسابا فغفر له ما تقدم من ذنبه إنه سميع مجيب.

الخميس، 11 يوليو 2013


حب المساكين

محمد محمود ولد سيدي يحي


من طرائف أقوال ابن حزم الأندلسي في كتابه البديع "طوق الحمامة في الألفة والألّاف" تأكيده أن الحبّ والكره عواطف اضطرارية لا شعورية ومن ثم فإن الأحكام الشرعية كالوجوب والمنع والحلية والتحريم لا تتعلق بها.
ويستأنس الفقيه الظاهري في ذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن عدله بين نسائه في الأمور الظاهرة واعتذاره عن ميل قلبه إلى عائشة من بينهن بقوله "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك".
ورغم أن حب الله ورسوله شرط في الإيمان كما تضافرت على ذلك النصوص المتكاثرة، إلا أن حقيقة الحب هنا ليس ذلك الميل القلبي الاضطراري  المرتبط بالعاطفة وإنما هو حب عقلي مبني على الاقتناع  ويقتضيه التعظيم، والمعروف أن التصديق الديني بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم متلازم مع التعظيم والإعجاب الذي يثمر الاقتداء والمتابعة.
 وإذا كان المتصوفة قد جعلوا من الحب الإلهي طريقهم للترقي في مقامات اليقين، فإن حب الضعفاء والمساكين ظل مرتبطا بالزهد والتواضع وروح الإحسان، ومن هنا فإنه لم ينل من الاهتمام ما نالته أنواع الحب الأخرى.
 ويسود لدى الغربيين وأبناء الحضارة المسيحية اعتقاد أن الشعوب الشرقية عالة في الحب على التصوف، ويتهمون العرب رغم ما سطره شعراؤهم من غزل عذري وغيره من المقدمات الطللية، يتهمونهم بالجلافة وجفاف العاطفة، ويستشهدون بمقولة عمر بن الخطاب المشهورة للرجل الذي جاء يشكو جفاء زوجته "إنما يأسى على الحب النساء".
صحيح أن حب الشهوة والرغبة الذي يكون بين الجنسين من طبائع البشر كما قال ابن حزم ولكن أنواع الحب الأخرى تحمل معان مختلفة ولعلها مرتبطة بدرجة الحساسية العاطفية التي تختلف بين الأفراد.
ويستدل علماء النفس المعاصرون على التعاطف الفطري بين البشر بالاستجابة الفورية التي تحدث لدى الأطفال عندما يشاهدون أترابهم يبكون، ومن هنا فإن حالة الرثاء لحال الضعفاء والمظلومين طبيعية في بني آدم بغضّ النظر عن اللون واللغة والدين، وهي عاطفة إنسانية لا تضعف في نظر المختصين إلا لدى الأشخاص الذين عاشوا جفافا عاطفيا في تربيتهم منذ الصغر ولم يشبعوا من حنان الأبوين التلقائي بسبب التفكك الأسري أو الاضطهاد و فقد العائل.
ولا ينفي بعض المحللين الغرض المادي عن حب البشر لبعضهم وخصوصا منه ما كان شفقة، لأن دافعه عندهم هو الحرص على الذات والخوف عليها من معاناة آلام مشابهة.
وقد وصل التطرف ببعض اليساريين الماديين إلى اعتبار الحب ترفا بورجوازيا رغم أن دافعهم لهذا القول هو الحمية للفقراء والكادحين.
وربما دفع هؤلاء إلى موقفهم الجاف يأسهم من حب الفقراء والمحتاجين لأن النفس البشرية مولعة بحب العظماء والناجحين ميالة إلى ازدراء المهمشين ومن يعيشون في أحوال رثة.
 ولاشك في أن سوق الحب في غالبها مادية المعايير ولو قمنا باستطلاع بين الفتيات حول سمات فتى الأحلام المحبوب لكان المال والسيارة الفارهة والمسكن الفسيح من أول المعطيات التي تجمع عليها الأغلبية الساحقة.
وحدهم السياسيون ملزمون بالتنافس في التعبير عن حبهم للفقراء والمساكين لأن هؤلاء غالبية المصوتين وخصوصا في البلدان الأكثر فقرا، ولكن البون يظل شاسعا في كثير من الأحيان بين من يقدم دليلا على حبه وبين مزاعم الحبّ الجوانية التي لا تتجاوز التعبير اللفظي أو الأغراض الانتخابية.
ولا جدال في أن حب المستضعفين ليس من الأنواع التي تدخل في باب الحب الذي لا يتأتى أجره إلا بالكتمان كما في الأثر الذي اختلف فيه المحدثون"من أحب فكتم فمات فهو شهيد" وقد نظمه أبو نواس في سنده المكذوب حينما قال:
 ولقد كنا روينا
عن سعيد عن قتاده
عن سعيد بن المسيّب
 أن سعد بن عباده
قال من مات محباّ
 فله أجر شهادة
ويمثل شهر الصيام بمعانيه الرفيعة في التعالي على الشهوات موسما إنسانيا للتعاطف مع الضعفاء والمهمشين والمظلومين، ومن هنا فإن ثلاثية الصيام والقيام والإطعام من مظاهر الشهر الكريم..
ولا يعني حب المساكين والفقراء في المفهوم الديني والإنساني الصحيح مجرد تعاطف أوشفقة ينتج عنها إحسان عابر، وإنما يضيف حبا حقيقيا كما في الحديث "أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ومن هنا فإن الاتجاه المطلوب في شهرالصيام ليس  مجرد تخفيف المعاناة وإنما السعي إلى  تغيير ظروف هؤلاء وإشراكهم في خيرات طالما استأثرت بها ثلة قليلة من دونهم.
لقد آن لحب المساكين أن يكون توجها عاما ليس لبرامج الدولة فقط وإنما لاستثمارت رجال الأعمال، ولعل من المخزي أن يكون إنفاقنا على السياسة ومواسمها أكبر من إنفاقنا على الكوارث والمحن التي يمر بها المساكين والمهمشون.
ويكفي من الفضائح أن يكون العمل الخيري غائبا عن اهتمامات أثريائنا بينما تسرح وتمرح تحت شعاره منظمات وهيئات من جميع البلدان ومختلف الأديان، تحت مسميات وأغراض لا يعلمها إلا الله.
ولو كان حب المساكين أمرا سهلا لما جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه حيث قال: "اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وإذا أردت فتنة عبادك أن تقبضني إليك غير مفتون"
رزقني الله وإياكم حب المساكين والحمية للمستضعفين، في شهر الصيام وخارجه إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.