Translate

الاثنين، 26 ديسمبر 2011

حزب العلم

محمد محمود ولد سيدي يحي

كتب أستاذنا الدكتور عبد الودود ولد الشيخ  في افتتاحيته لأحد أعداد مجلة الوسيط التي درج المعهد الموريتاني للبحث العلمي على إصدارها مناديا بضرورة  إنشاء حزب العلم في موريتانيا أيام  الإقبال الأول على تأسيس الأحزاب و الافتتان بالديموقراطية بعد انتشار موضتها.
ورغم أن كلمة العلم تعني في أذهان الموريتانيين حفظ النصوص والموسوعية في الثقافة الإسلامية الموروثة، إلا أن الباحث الاجتماعي الكبير كان يقصد العلم بمفهومه الأكاديمي المعاصر كما رسخته العلوم الوضعية التي تأسست عليها المعارف الإنسانية الحديثة.
لقد كان واضحا أن حزب العلم في تراجع آنذاك وأن أنصاره قليل لأنه حزب يطلب من مناضليه الكثير من الانضباط  دون أن يعدهم بفرص حقيقية في الوصول إلى مراكز مهمة في هرم السلطة.
وحتى في مراكز البحث العلمي وفي أروقة الجامعة وبين دهاليز مؤسسات التعليم العالي، لم يظهر رواج يذكر للأفكار الجدية والفرضيات الجريئة التي أطلّت برأسها برهة من الزمان ثم انسحبت، كما انسحب الباحثون مهاجرين إلى بلاد الله الواسعة بحثا عن أسواق تستهلك بضاعتهم.
صحيح أن الجدل الفكري وازدحام الآراء رهين بهامش الحرية الذي يمكن أن تصول فيه القرائح وتجول، ولكن العامل الأكبر في تراجع الحيوية العلمية في بلادنا عائد  إلى حيوية الذاكرة الجماعية التي مازالت تقتات على "أساطير" الثقافة الشفوية القبلية، وتحيط البحث العلمي في الشؤون الاجتماعية والإنسانية بمحرمات كثيرة  تجعل الأشواك والمخاطر محدقة بالأفكار والفرضيات غير التمجيدية.
وأمام حصار المجتمع لحرية البحث العلمي لم تمتلك النخب المسيطرة في كثير من الأحيان شجاعة المغامرة برعاية معارف ونظريات تعتبر أنها تخلق لغطا قد يشوش على خطاباتها السياسية التبسيطية.
في الغرب والشرق ينفقون أموالا طائلة على البحث العلمي تصل في كثير من الأحيان إلى مستوى نصف العشر لتضاهي بذلك نصيب الزكاة في الإنفاق العمومي، ويجد البحث العلمي سوقه الرائجة في الشركات والمؤسسات الخصوصية التي تتسابق لمنح تشجيعات للباحثين في مجالات اختصاصها.
 ولا يقتصر الأمر هنا على البحث في مجال العلوم التطبيقية والتكنولوجيا؛ فكثيرا ما كانت المؤسسات حريصة على إجراء الدراسات والبحوث الاجتماعية حول الرضا الوظيفي لعمالها، ومشاكلهم الاجتماعية والنفسية. لأن محورية الإنسان في العملية الإنتاجية تجعله جوهر الاهتمام في كل شيء.
أما في بلدان العالم الثالث كما في بلادنا فإنهم يعتبرون ذلك ترفا لأن الإنسان محدد الهوية والتصنيف بناء على معتقدات جماعية متوارثة مما يجعله معروفا في نظر العامة باسمه واسم أبيه وفصيلته التي تؤويه.
 إنه الإنسان النمطي الذي يسلك كما كان آباؤه يسلكون كما قال الشاعر الكبير أحمدو ولد عبد القادر معبرا عن تلك الرتابة والتكرارية في حياتنا:
 رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون
وهانحن نبحر كما كان أجدادنا يبحرون.
لا جديد إذن مادام الأول لم يدع للآخر شيئا ومادام الشعراء لم يغادروا متردما كما أكد عنترة العبسي منذ أكثر من خمسة عشر قرنا!!
لقد كان في وسع الموريتانيين أن يكونوا أحسن حالا لأنهم ورثوا تقاليد الاحتفال بالعلم الشرعي وخلقوا في عصر السيبة حزبا لذلك العلم كان في بعض الأحيان قادرا على موازنة قوة السيف؛ حتى قال قائلهم "إن الناس لا يعيشون إلا في ظل ركاب أو كتاب"، إلا أنهم قعدوا في مجال العلوم الدنيوية التي أصبحت محك النظر الذي يوجه حياة الناس في عالمنا اليوم قياسا على حياة السلف أيام كانت نحلة المعاش معتمدة على حرف بسيطة تتوراثها العائلات دونما حاجة لعلوم نظرية تقوم عليها.
لقد كان العلم حينذاك وسيلة لرفع بيت لا عماد له كما قال الشعراء، ولكنه اليوم تجاوز الطابع الرمزي ليصبح الأداة الوحيدة الممكنة للنهوض بأمة لا عماد لها، في مجتمع التكالب على المعلومات والتسابق في استغلالها وإنتاجها.
وفي موريتانيا اليوم تنشغل النخبة السياسية بالمهاترات و الصراعات الضيقة بعيدا عن العناية ببناء مؤسسات راسخة تدمج الشوق إلى الإبداع والمعرفة في نفوس الأجيال الجديدة .
 إلا أن إنعاش حزب العلم لا يقتصر على عناية السياسيين وحدها ولا بد من وجود أوساط حاضنة في الجامعة ومؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، حيث ينبغي أن يولد تقليد جديد بتقديم البحوث والدراسات بين المختصين بشكل دوري، مما ينفي عن هذه المؤسسات غبار الرتابة والجمود، وهو ما يتطلب هامشا خاصا بحرية التفكير والتعبير يعطي الأولوية للجريء والجديد.
وسيكون من الضروري أن تلتزم الشركات والمؤسسات بتخصيص نسبة ولو يسيرة من موازناتها السنوية لتمويل الدراسات والبحوث حول قضايا تهمها.
لقد رأى أبو نصر الفارابي أن المدينة الفاضلة هي تلك التي يقودها الفلاسفة، ولكن شيخه أرسطوطاليس كان واقعيا عندما جعل استشارة الحكماء كافية لوجود الحكم الصالح.
وفي عالمنا اليوم تعتبر معايير الأمم المتحدة أن من مؤشرات النمو والتقدم التي لا غبار عليها تزايد ما تخصصه ميزانيات الدول للبحث العلمي، لأنه هو الآخر بوابة من بوابات محاربة الفقر التي لا يهتدى إليها إلا أولو الألباب.