Translate

الأربعاء، 1 يونيو 2011

الجنة المحرمة

محمد محمود ولد سيدي يحي
يستيقظ آلاف الشبان عبر العالم  ولكنهم لا يلبثون أن يستغرقوا في أحلام اليقظة؛ صور تترى ومغامرات توصل في النهاية إلى "الجنة المحرمة".
نضال كبير يخوضه الشباب الإفريقي، وسعي حثيث للوصول إلى الشواطئ الأوروبية والغربية عموما.
ولا شك أن الحيل التي يبدعها هؤلاء لنيل بغيتهم تنم أحيانا عن  أساليب إبداعية وعبقرية، فمنهم من يصبر على العيش أياما وليالي في حاوية للبضائع، ومنهم من يختبئ في كيس بين الأسماك، أو قرب محرك السفينة.
وفي أحيان كثيرة تتطلب الرحلة إلى بلاد السعادة توفير أموال لا بأس بها، يتم إنفاقها على المهربين عبر الشواطئ والحدود، وفي أعماق البحار.
 قوافل تترى ومخاطر لا تنتهي عند احتمالات اعتراض خفر السواحل الغربية التي أصبحت تجند الجيوش لإيقاف زحف "البرابرة" القادمين من كل مكان؛ لأن قراصنة البحر كثيرا ما يغدرون بالمهاجرين السريين في عرض البحر، وتروي قصص الناجين كيف يلقى بالمشاكسين في بحر الظلمات ليكونوا لقمة سائغة للحيتان.
وكثيرا ما كان الغرق في بحر لجي يغشاه موج مصير قوارب الموت التي تحمل هؤلاء إلى ظلمة القبر ووحشته قبل أن ينعموا بأنوار المدن الغربية وشوارعها الفسيحة.
ما يستغربه العالم  هو إصرار الشباب على المغامرة بالنفس والمال ومكابدة مخاطر مؤكدة رغم أن  سماء البحر ملئت حرسا شديدا وشهبا.
ولكن الغرابة تزول عندما يختبر المرء ما تتعرض له هذه الأجيال من حملات الإغراء والإغواء، ففي ظل الفضائيات وحضارة الموجة الثالثة يشاهد الناس يوميا بالصوت والصورة مفاتن العالم المتقدم التي تعرض عليه بكرة وأصيلا.
مجتمع الوفرة الذي يمكنك أن تعمل فيه كما تشاء وتقول ما تريد وتستمتع كما تحبّ، في مدن تراقب شوارعها بالكاميرات، وتعالج أمراضها بأشعة الليزر.
وفي المقابل تعمل حالة الإفقار العام والتصحر السياسي والاجتماعي والثقافي على فك الارتباط الطبيعي بين الإنسان ومحيطه، لأن جميع المؤشرات تقف سدا منيعا بين الشباب وبين الحلم بالنجاح أو تحقيق جزء يسير من الآمال العريضة على أرض الوطن.
ولا تبدو خطط التنمية ومحاربة الفقر التي يطبّل لها الغربيون إلا مهدئات لا تلبث أن يزول مفعولها سريعا، لتعود "أوجاع الإفاقة على التاريخ العاصف" على حد تعبير توفيق بكار.
قالوا لهم: اجلسوا في بلدانكم والبسوا أزياءكم الشعبية وارقصوا لنا وسوف نزوركم بين الفينة والأخرى سائحين لمشاهدة عالمكم البدائي  الغرائبي، وحتى لا تفسدوا علينا بيئتكم الطبيعية وتراثكم الذي سنصنّفه تراثا عالميا سنزودكم بقروض صغيرة ونجعلكم تعيشون على مبادرات "مدرة للدخل".
حاولوا أن تنظموا إنجابكم وتعدلوا قليلا من صورة هرمكم السكاني ليصبح متوازنا بين الشباب والكهول، غير أن ثالوث المرض والجوع والجهل يحرم تلك الوصفات التي تقدم كل مرة من أن تؤتي أكلها.
فالشباب بطبيعتهم "صادقون ومتحمسون" ويريدون أن يحظوا بالعمل في القطاع المصنف، ويقتربوا من رؤوس الأموال العملاقة التي كدستها الشركات متعددة الجنسيات هناك، ولا يمكن إقناعهم بالفتات مادامت روائح الأطعمة الشهية تزكم أنوفهم في العدوة الشمالية من البحر.
لقد تحدث فيلسوف التاريخ "أرنولد توينبي" عن خطر الهوامش على الحضارات، ولا دليل على أن ما فعله الهكسوس والوندال والمغول ذات مرة في حضارات الماضي غير قابل للتكرار في عالمنا اليوم.
إن أسراب المهاجرين السريين الذين يتحدون جميع الإجراءات التي تقام هنا وهناك لصدهم عن هذه الجنة المحرمة تعبير حقيقي عن أن رياح العولمة تأتي بما لا تشتهيه سفينة الأقوياء.
ويخشى أن يكون زمن الحلول الترقيعية لتثبيت البشر والرمال الزاحفة قد ولّى، كما أن الأساليب الاستعمارية التقليدية في استغفال الشعوب والانفراد بمباهج الحياة دونها لم تعد قابلة للاستمرار.
وعما قريب سينتشر فقراء العالم الثالث في تلك الشوارع الفسيحة وسترتمي على جنباتها قاذوراتهم وأوساخهم وأوبئتهم التي ترافقهم.
 ولن يكون بمقدور أصحاب الجنة أن يقولوا {لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين}، لأن آلاف خفر السواحل وحرس الحدود لا يستطيعون إيقاف سيل الملايين الذين يتدافعون للوصول إلى تلك الشواطئ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم في سبيل ذلك.
لا بد إذن من تجاوز الحلول المؤقتة، ومعالجة القضية من جذورها ومراجعة التوزيع الظالم للخيرات بين شعوب الأرض، وإلا فإن موسم الهجرة إلى الشمال سيشهد على "تغريبة هلالية" جديدة، وربما كانت أعمالنا السيئة سببا مباشرا في تحقيق نبوءة الكتب الدينية عن هجوم ياجوج وماجوج {وهم من كل حدب ينسلون}.
 وعندها سينشد لسان الحال على أطلال حضارتنا التي {أخذت زخرفها وظن أهلها أنهم قادرون عليها} مع الشاعر نزار قباني:
 واليوم لا نار ولا جنة
هذا جزاء الكفر يا كافر.

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق