Translate

الثلاثاء، 12 يوليو 2011

كتابنا المتشائمون

محمد محمود ولد سيدي يحي

قرأت مؤخرا الرواية القصيرة التي ألفها الزميل والكاتب المتميز محمذن بابا ولد أشفغ تحت عنوان "وادي النعام".
وتدور أحداث القصة التي وصفها الكاتب بأنها رواية في الخيال السياسي في موريتانيا بعد عقدين من الآن، وتتحدث عن دولة مازالت تسيطر عليها القبلية، وتتحكم في قراراتها مصالح الشركات الدولية والقوى العظمى ومخابراتها التي أصبحت تتدخل في أطراف اللعبة بشكل مهيمن وصارخ.
وتعرض القصة بأسلوب تقريري صحفي مباشر يكاد يخلو من المحسنات الأدبية حالة عالم تراجع فيه الاعتماد على النفط وأصبحت الطاقة النووية والصراع على اليورانيوم هو الشغل الشاغل للجميع، بينما تبحث القوى العظمى  بشكل سري وبطرق توظف فيها الأمم المتحدة عن مدافن للنفايات النووية في بلدان العالم الفقير.
وفي موريتانيا التي كانت أحلام حكومتها كما يتصور الكاتب منصبة حول التنقيب  في وادي النعام عن اليورانيوم  قرر الكبار في العالم أن يتوقف كل شيء وأن يقام بسياسة جماعية لترحيل الأرياف لحشر جميع السكان في العاصمة، في ظل اتفاق سري لتحويل المناطق التي سيتم إخلاؤها إلى مدافن للنفايات النووية التي ضاقت بها الدول العظمى.
ولا تخلو الرواية من مشاهد معبرة من فساد الطبقة السياسية الموريتانية لا تبتعد كثيرا عما نعيشه في مجتمعنا، كما تقدم صورا من الدعاية والطريقة الفلكلورية لمتابعة القضايا في الإعلام العالمي، حيث توجه أنظار الجمهور إلى أحداث ثانوية لصرف انتباهه عن مشاكله الحقيقية.
  وتنتهي القصة بمشهد غرق مدينة نواكشوط بفعل تغيرات مناخية دفعت البحر إلى التهام مجتمع تسيطر عليه النخب الفاسدة وتتحكم في ديموقراطيته المخابرات الدولية ولا يستمع فيه أحد إلى أصوات القلائل من الذين أصروا على مواصلة كشف الزيف والتلاعب الذي يواجه مصير العامة.
ولا يخطئ المرء أن يلاحظ في رواية الزميل محمذن بابا ذلك التفسير التآمري للحياة السياسية الذي يتهم به الكثيرون خط قناة الجزيرة الإعلامي .
إلا أن روح التشاؤم الشديد التي حكمت مسار الأحداث المتخيلة في وادي النعام عكست حالة عامة يبدو أنها تطبع مزاج الكتاب الموريتانيين بشكل أصبح لافتا.
ومن المنطقي أن يكون  ولد أشفغ قد تأثر برواية مدينة الرياح التي نشرت قبله منذ عشر سنوات، ولكن من الغريب هذا الإصرار على ربط مستقبل البلاد بالنفايات النووية الذي يتفق فيه مع الكاتب الكبير موسى ولد أبنو.
ويبدو أن التشاؤم لم يقتصر على هذا الجيل من الروائيين ذوي الخلفية الإعلامية. لأن روح التنبؤات المتشائمة
 وجدت طريقها إلى التحليلات المستقبلية ذات الطابع العلمي وحتى الديني.
ويحضرني في هذا المجال مقال الدكتور عبد الودود ولد الشيخ الذي نشرته جريدة القلم الفرنسية قبل سنوات عن مصير البلاد السياسي، والتعقيب الذي نشرته للتخفيف من الروح التشاؤمية التي توقعت مصيرا كارثيا للبلاد مع نهاية العهد الطائعي، وكان المقترح البديل الذي قدمته في كتاب "المجتمع الفضفاض" هو الأمل بأن الروح الاشتراكية للقبيلة الموريتانية والخطاب الديني قد يشكلان عوامل إيجابية للتغيير كما أثبتته لاحقا انتفاضات الجيش الموريتاني.  
وكان الزميل الحسين ولد محنض قد نشر في نفس الفترة كتابه المعنون" ضيوف القرن الواحد والعشرين" والذي أعاد فيه تأويل أحاديث الفتن وأسفار الرؤيا في كتب العهدين القديم والجديد مؤكدا أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر إيذان بعلامات القيامة واقتراب المهدي والدجال وقدم تواريخ محددة لذلك.
ولا شك أن محاولة التبنؤ بعلامات الساعة  تقليد قديم يتجه إليه المؤمنون في لحظات انسداد الآفاق وغياب بشائر الأمل وهي وضعية أحسها كثير من المسلمين إثر المحن التي تعرضوا لها مؤخرا، ولكن الاقتداء بالأنبياء والمصلحين يقتضي دائما زرع البشارة والأمل في قلوب الناس حتى وهم في أحلك اللحظات.
ومن المؤكد أن الكتاب والمبدعين والمفكرين هم عصب الأمة الحي  ورادار الإنذار المبكر الذي يطلق صيحات التنبيه عند الخطر، وقديما قال جان بول سارتر:"إن الأدب مأساة أو لا يكون".
ولهذا فإن التعامل السليم مع ما تجود به قرائحهم هو أن يصبح دافعا للأمة لتصحيح أخطائها ومواجهة الاختلالات الكبيرة التي تعاني منها في مسيرتها الطويلة لإعمار الأرض والقيام بواجب الخلافة الذي أناطه الله بالبشرية .
ويتذكر الكثيرون اليوم تلك التنبؤات القاسية التي أطلقها كارل ماركس حول مصير المجتمع الصناعي الرأسمالي  في القرن التاسع عشر مؤكدا أن استمرار أوضاع العمال والكادحين سيؤدي إلى ثورة تغير التاريخ وتكسر علاقات الإنتاج، ولكن النتائج الأهم لتك التنبؤات لم تكن في تحقق نبوءاتها المتشائمة بل في الإصلاحات الجوهرية التي تعرضت لها الرأسمالية لصالح العمال مما كان له أثر مباشر إطالة عمرها.
إن قصة "وادي النعام" ومثلها في ذلك قصة "مدينة الرياح" وغيرهما من الأعمال الفكرية المتشائمة تريد أن تنبه قادة الرأي والفاعلين في هذه البلاد إلى طبيعة المخاطر المحدقة التي تنتظر مستقبلهم ما لم يبادروا إلى التحكم في أمورهم وقيادة سفينتهم إلى بر الأمان.
وما لم نساهم جميعا في تنوير الرأي العام وتعزيز حصونه الأخلاقية وتجاوز "سياسة النعامة" التي تدفن رأسها في الرمل في مواجهة الخطر فإننا مهددون بسيطرة نفايات الحضارة العالمية ومعرضون للغرق تحت أمواج التاريخ العاتية.