Translate

الاثنين، 1 أغسطس 2011

هبة المحظرة


محمد محمود ولد سيدي يحي

روى الرحالة الاستعماري "رنيه كاييه" أو ما يعرف محليا ب"ولد كيج النصراني" معاناة عجيبة من تظاهره بشعائر الإسلام وادعائه العلم الشرعي بين أبناء المحاظر عندما زار البلاد في القرن التاسع عشر.
ويذكر بشكل مضحك كيف صادف قدومه إلى محاظر لبراكنه إطلالة شهر رمضان المبارك، حيث فوجئ بأن عليه أن يصوم في موسم صيف قائظ، وما تسبب له فيه ذلك من ألم شديد رغم أنه  كان يسترق الشراب كلما اختفى عن أعين الناس.
وسقط كاييه مريضا تحت تأثير إسهال حادّ، ليكتشف متأخرا أن ضرورة المرض تبيح له الإفطار!
وحملت ملاحظات المستشرق الساخرة حنقا شديدا على الانضباط الديني والمستوى المعرفي لهؤلاء البدو الأجلاف الذين سموا بهذا الدين سموّا كان بالنسبة له اعتزازا بالذات يصل إلى درجة الكبر لأنه يهدد رسالة الاستعمار التي سافر الرجل يمهّد لها الطريق.
لقد تعجب معظم الرحالة الغربيين -رغم تحاملهم الشديد- من اعتزاز البدو بدينهم وثقتهم بأنفسهم، وكان انتشار التعليم بين أبناء الصحراء الكبرى بسبب المحظرة أمرا لافتا للانتباه في مذكراتهم.
وفي العالم الإسلامي كانت المحظرة مؤسسة تعليمية حرة وبدائية الوسائل، ولكن خريجي هذه المؤسسة كانوا محط إعجاب، ووصلوا إلى منافسة جامعات دينية حضرية عريقة كالأزهر والزيتونة والقرويين.
 عندما تفتحون الصفحات الأولى من كتاب "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني الذي يعتبر أشهر كتب البلاغة العربية ستجدون أنه مصحّح بمراجعة علامتي المنقول والمعقول الشيخين محمد عبده والشيخ محمد محمود ولد التلاميد الشنقيطي، ونفس الملاحظة تجدونها على نسخ القاموس المحيط للفيروزابادي.
لم يكن إذن من المستغرب أن يبعث السلطان عبد الحميد في طلب الشيخ الشنقيطي ويكلفه بجرد المخطوطات العربية في إسبانيا، ولا أن يتشوّق ملك السويد لرؤية عالم اللغة العربية وحافظة الشعر الجاهلي في مؤتمر دولي.
إنه شيخ عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين الذي خلده في سيرته الذاتية الرائعة "الأيام" تحت اسم الشيخ الشنقيطي الذي أثبت من مروياته في الشعر الجاهلي مائة بيت على صرف "عمر" خلافا لما يعتقده النحاة منذ سيبويه إلى ابن مالك!!
يعرض الشيخ "آبّ ولد اخطور" في رحلته للحجّ إلى بيت الله الحرام جانبا من تنوع تلك الثقافة المحظرية في منتصف القرن العشرين، وكيف دارت مناظراته حول البلاغة والمنطق والأصول، واحتفى به العلماء طيلة الرحلة التي استمرت برّا من بلادنا إلى السودان عبورا إلى الحجاز.
 وفي البلاد المقدسة  كان تكريس الشناقطة علما للمعرفة الدينية إلى اليوم رغم ما ألحقه خلوف بذلك اللقب بعدما تغيرت حال الدنيا وهجر الأحفاد مآثر الآباء.
 وغير بعيد ما زال الشيخ عبد الله بن بيّه حفظه الله يمسك لواء العلم الشنقيطي، الذي  وجد المسلمون الأوروبيون في تأصيله المالكي لنوازلهم منزعا يعبّر عن روح اعتدال إسلامي طالما افتقدوه في كثير ممن يتصدون للإفتاء في هذه الأيام.    
وإذا كان بعض فقهاء المحظرة أفتوا بجواز التعامل مع المستعمر وفضلوا سلطته على فوضى عصر السيبة؛ فإن المحظرة وقفت حصنا منيعا دون تغلغل ثقافة المستعمر وحمت الهوية من المسخ الحضاري، حتى أن قرى عديدة في هذه البلاد ظلت ترفض المدرسة الحديثة إلى عهد قريب لأنها ارتبطت في أذهان ساكنتها بتسويق ثقافة المستعمر التي تقضي على آخر حصون الذات والهوية الإسلامية التي تأسس عليها المجتمع الموريتاني.
 لقد وحّدت المحظرة لغة المخاطبة والكتابة بين جميع أبناء هذه البلاد على اختلاف لغاتهم المحلية، ومازالت المخطوطات التي تركها علماء منطقة "فوتا" وغيرها شاهدة على أن الحرف القرآني كان أول حرف دونت به البولارية و السوننكية و الولفية.
و عندما قرر القائمون على الأمر ذات مرة - في صحوة ضمير- أن يعيدوا الانفتاح مابين الإدارة واللغة العربية كان آلاف الأطر من خريجي المحظرة جاهزين لتولي مناصب التدريس والقضاء دونما حاجة إلى تكاليف البعثات الباهظة.
لقد وصف المؤرخ اليوناني هيرودوتس مصر بأنها هبة النيل، ويمكننا أن نقول إن هوية شعب موريتانيا ومناعته الثقافية هبة المحظرة، ولكن المصريين بنوا سدا عاليا للاستفادة من النيل وتجنب آثار الجفاف والفيضانات.
 فماذا قدمنا نحن للمحظرة التي كانت أم الحضارة الموريتانية؟
 هاهو العالم من حولنا قد ارتفعت أصواته بحثا عن الإسلام الصحيح الذي يبتعد عن زيغ المغالين وتحريف الجاهلين، وهاهي بلاد الإسلام  تتعرض لنوبة ارتكاس وردة دينية عنيفة تذكر بعهد الحشاشين والقرامطة.
فماذا فعلنا حتى نمكن المحظرة اليوم من مواصلة دورها التاريخي في حفظ المناعة الحضارية والدينية لمجتمع يعاني من بوائق العولمة.
أين هي أساليب التحفيظ والأنظام والنصوص الجاهزة من واقع ثقافي يمور بمختلف "الصرعات" الفكرية؟
وهل يمكن أن ندّعي الحفاظ على ميراث الأجداد إذا كنا مجرد "كائنات تراثية" بدلا من أن نكون "كائنات لديها تراث" على حد تعبير المفكر الكبير محمد عابد الجابري؟
إن الفتى من يقول ها أنذا
ليس الفتى من يقول كان أبي!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق