Translate

الأربعاء، 25 مايو 2011

الجابري؛ وهج أفكار لا تموت / كتبت بمناسبة رحيل المفكر محمد عابد الجابري


محمد محمود ولد سيدي يحي

لا أظن أن مفكرا عربيا نال من الشهرة والاهتمام في الوسط الأكاديمي العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة مثلما نال فقيد الفكر والمعرفة المرحوم محمد عابد الجابري

ومنذ صدور كتابيه "تكوين العقل العربي" وبنية العقل العربي" بداية الثمانينيات من القرن المنصرم كان واضحا أن رؤية جديدة للفكر العربي عبر مساره الطويل قد ارتسمت مبتعدة عن ركام الدراسات "الخطابية" على حد تعبيره، وأن عقلا كبيرا قام بتعبيد طرق واضحة في تراث ظل عصيا على التصنيف والتقعيد.
وخلال التظاهرة الكبرى للمثقفين العرب في ندوة مركز دراسات الوحدة العربية بالكويت منتصف الثمانينيات"حول الـأصالة والمعاصرة"، كان على الجابري أن يتقدم جهابذة الفكر والثقافة العربية ليلقي مداخلته الافتتاحية الشهيرة "الأصالة والمعاصرة، إشكالية ثقافية أم صراع طبقي؟"، وكان لابد أن يشكو المشاركون من الصرامة المنطقية للمفكر الكبير في تحليلاته وخلاصاته، وأن يعترفوا بميلاد فيلسوف عربي كبير.
وفي محاضرة للجابري بجامعة قطر نهاية ثمانينيات القرن المنصرم، تصدر الشيخ المفكر الإسلامي يوسف القرضاوي مجموعة الأساتذة الحاضرين، وكان كاتب هذه السطور آنذاك طالبا من المتطفلين، ومما لا ينساه درجة الإعجاب الكبير الذي عبر عنه الشيخ القرضاوي بهذا المفكر الذي بدا كمن يتقن مفاهيم التراث تماما كما يتقنها خريجو الأزهر والجامعات التقليدية العريقة.
ما الذي أعطى محمد عابد الجابري هذا الألق وتلك الفحولة الفكرية وذلك الحضور المهيمن؟
لا يعرف الجابري نفسه كيف خرج بذلك المزيج الغريب من الحميمية مع التراث في نفس الوقت الذي كان يمسك فيه ناصية الثورة الإبستمولوجية التي فتنت أوروبا ما بعد الحداثة، ليتحفنا بتلك الأفكار العبقرية عن التراث العربي الإسلامي.
وفي سيرته الذاتية الطريفة التي كتبها عن ذكريات صباه"حفريات في الذاكرة من بعيد" لا يجد المرء مما يشبه سير العباقرة، اللهم إلا كونه وحيد أمّ شغلها الزواج عن تربيته لينال من حنان الجدين والأخوال نصيبا وافرا، ربما كما كان على بعض الأنبياء والعظماء أن يعيشوا طفولة مشابهة.
يسمي أسلافنا من يعجبهم من العلماء "فلتة زمانه" وأظن أن الجابري جدير بهذا الوصف رغم أن مدرسة العلوم الإنسانية المغربية أخرجت جيلا من معاصريه وتلامذته كانوا على مستوى مشابه من الهضم للثقافة الغربية التي اكتفى إخوانهم المشارقة بترجمتها ورصها بالتجاور مع تراثهم دون أن يفلحوا في استثمارها بالطريقة المبدعة للجابري وأترابه.
تلقت الأوساط الأكاديمية فكر الجابري بالقبول رغم مشاكسات المشاكسين، لأن الرجل كان منتميا بشكل قوي إلى التراث الذي عانق إشكالياته رغم صرامته تجاه معوقات التطور في ذلك التراث ممثلة فيما سماها سلطات: "النص والسلف والتجويز"، كما كان الجابري منتميا باعتزاز إلى الأمة رغم قسوته على المشارقة التي جعلته يرى كل إبداع مرتبطا بتيار المفكرين في الغرب الإسلامي والأندلس على حساب المشارقة والعجم الذين اتهمهم بإدخال عدوى اللاعقلانية إلى الفكر العربي.
كانت طرافة تصنيف الجابري لأنظمة الفكر العربي ممثلة في "البيان والبرهان والعرفان"، وانتصاره الصارم للعقل أهم إضافة قدمها للباحثين في الركام الذي تجمّع طيلة خمسة عشر قرنا من الزمان، ولم يقف حمار الشيخ المغربي في العقبة فكانت آليات التحليل تتجدد عنده كل مرة بحسب الموضوع مختلفة في العقل السياسي"العقيدة والقبيلة والغنيمة"عنها في العقل الأخلاقي حينما انحاز لأخلاقية الإسلام الأصيلة في تفضيل العمل الصالح على أخلاق المروءة العربية والفناء الصوفي.
وفي كل مرة يتناول الجابري موضوعا فكريا تساهم قدرة التحليل والتصنيف التي تمتع بها ذهنه الوقاد في لملمة أطراف ثقافة موسوعية تبهر القراء.
لقد قال دائما إنه لا يمكن لأمة أن تنهض دون الانتظام في تراث، ولكنه دعا قومه أن يتحولوا من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث، والفرق شاسع بين المقولتين.
حرك الجابري أحاسيس الكثير من المعجبين لأنه يزاوج دائما بين التحليل الصارم الرصين وإشراق العبارة وجزالتها ووضوح المواقف الذي يعبر عن التزامية تبتعد عن برود الوضعية الجافة وعدمية النسبية المطلقة.
لقد كرس حياته للمساهمة في "عصر تدوين جديد" كما يسميه، لأنه اكتشف بكل وضوح أن منظومتنا الفكرية ما زالت أسيرة عصر التدوين الأول في القرنين الثاني والثالث الهجريين، ورغم تأثره الواضح بالتيار اليساري الذي ناضل من خلاله سياسيا، كان محمد عابد الجابري ماركسيا مجتهدا، ووجد في عبقريته الشخصية حصنا منيعا ضد التحليلات المادية المبتسرة والمكرورة.
ورغم استفادته الكبيرة من المناهج الحديثة، كان الجابري يأنف الانزلاق في صرعات ما بعد الحداثة التي تسوي بين الشعر والمنطق، وبين العقل والأسطورة، معتبرا أنه في الأمم التي تعاني من التخلف ينبغي أن نتعوّد أولا على العقل وصرامة المنطق ولا نجاري الذين شبعوا من ثمار العلم فطفقوا يتسلّون بألوان التفكير الأخرى.
رحل الجابري عن عالمنا، ولكن أفكاره العظيمة وكتاباته الثرية ستظل مرجعا لا يمكن تجاوزه لكل المهتمين بثقافة الأمة العربية الإسلامية وتراثها.
وستصطف كتبه في نقد العقل العربي مع من اختارهم من المفكرين أمثال ابن حزم وابن باجه وابن رشد وابن خلدون والشاطبي والعز بن عبد السلام، ستظل ملجأ دائما عندما يحكّم الإنسان عقله، ويعيد مساءلة التقاليد والمرويات بحثا عن مستقبل فوق الأرض وتحت الشمس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق