Translate

الأربعاء، 25 مايو 2011

الأسماء المتغيرة في تاريخ موريتانيا برواية الحسين بن محنض


الأسماء المتغيرة في تاريخ موريتانيا برواية الحسين بن محنض

محمد محمود ولد سيدي يحيى
عندما تصفحت كتاب "تاريخ موريتانيا القديم والوسيط" للأستاذ الحسين ولد محنض لأول وهلة وقعت على العديد من العناوين والأفكار التي أسرتني، وألفيت نفسي لأول مرة ومنذ سنوات أمام كتاب لا يمكن لقارئه أن يصبر على الانتظار حتى يستكمله.

وخلال القراءة الأولى للجزء الأول والذي تناول تاريخ البلاد منذ ما قبل التاريخ إلى الانتشار الحساني، كانت المعلومات الغزيرة والجديدة سببا في تعطيل بعض المشاغل الضرورية أحيانا وتأجيلها غالبا، فالطرافة والإثارة تشدني إلى المواصلة وتذكرني بأيام القراءة الممتعة خلال فترة المراهقة للروايات والقصص البوليسية.
إنه التاريخ من البداية، وكما كان المؤرخون العرب القدماء يصدّرون كتبهم برواية ما جرى منذ بدء الخليقة، إلا أن الأستاذ الحسين المحدّث الذي ألّف في علم الرجال عدل عن أسلوب الرواية التقليدية التي تعتمد قصص الإسرائيليات حول أشعار آدم وصراع قابيل وهابيل، واختار أن يقدم التاريخ الموريتاني الموغل في القدم انطلاقا من نظرة موضوعية إن لم نقل إنها تطورية "داروينية"، فالإنسان المنتصب القامة ترك آثاره منذ خمسمائة عام في شمال "وادان"، والتاريخ هنا ربيب الجيولوجيا والتغيرات المناخية، وكانت ثقافة "تيشيت" التي نشأت قبل أربعة آلاف سنة نموذجا للتطور الذي حصل في العصر الحجري وسترثها مملكة "آوكار" وحفيدتها "غانة" و "أوداغست"، وكانت الهجرات الكبرى قبل 2000 سنة سببا في ظهور بلاد "قمنورية" التي أفناها الملثمون وخصوصا "كدالة" التي قدمت في القرن الأول قبل الميلاد، والتمس الحسين بن محنض عبر تشابه الأسماء في "قمنورية" سلفا مفترضا لمن سيعرفون لاحقا بأهل "كنار" وهم خليط أثيوبي مثل إخوانهم ممن عرفوا ب"إزكارن" واشتهروا بممارسة الزراعة ولعلهم أجداد بعض الحراطين كما تدل عليه كلمة " آزكير" التي تطلق على العبد الأحمر حسب ما يراه الحسين.
وتدل الآثار على شعب أبيض قدم بعرباته لحراسة طريق الذهب، وهو شعب " الجرمنت" الذين توجد عاصمتهم في جنوب ليبيا الحالية وتسمى "جرمة" قرب مدينة "سبها"، وهم من سيعرفون ب"أغرمان" أي خدم الرومان حسب التفكيك البربري للكلمة على عهدة الحسين، ومن هؤلاء مؤسسو مملكة "آوكار" التي نشأت شرقي البلاد قبل ثلاثة قرون من الميلاد وورثتها سلالات السراغولي "الرجال البيض" مؤسسي مملكتي غانة ولمتونة.
وفي القرن الثاني للميلاد هاجر اليهود من "برقة" بليبيا الحالية ونشروا اليهودية في الشعب "السوننكي"، ولعبوا دورا في التجارة و صياغة الذهب وتركوا خطوطا عبرانية على الجدران وفي الزخارف.
وفي القرن الخامس للميلاد قدم "البافور" وهم "البافار" الذين سكنوا ليبيا وكانوا أول من أدخل غرس النخيل وجلبوا الخيول والكلاب، وديانتهم يهودية أيضا، وسيجد مؤرخنا في هؤلاء سلفا لعائلات وأمم مثل شعب "الولوف"، وقد اعتنق معظمهم الإسلام على المذهب الخارجي الذي يرى له الحسين تأثيرا كبيرا سيفك من خلاله دلالة كلمات محورية خصوصا في منطقة "الترارزة" التي نشأ بها المؤلف، فتسمية "أودغست" نفسها عاصمة مملكة لمتونة إنما هي ترجمة بربرية لمفهوم "أهل القبلة" الذي يشكل تسوية بين المالكية والإباضية إبان ثورتهم المشتركة على سلطان العبيديين الشيعة، وهو مصدر كلمة "أهل الكبلة" الذي سيصبح علما على منطقة الجنوب الغربي الموريتاني حتى اليوم، بل إن كلمة "تشمشة" التي تعني حلف الخمسة إنما هي تقليد خارجي لمجلس أهل العلم الخمسة عند الخوارج !!
ويحذو الأستاذ الحسين في روايته للتاريخ الموريتاني حذو جده أبي المؤرخين الموريتانيين المرحوم "المختار ولد حامدن" في موسوعته فيصدق الناس في أنسابهم ويروي أن "الفلان" من سلالة أمير أموي وأم زنجية، أو أن جدهم صحابي اسمه عقبة بن ياسر وهو جد "السونغاي"، ويلتمس للأسطورة الصنهاجية (وكثير من الأنساب أساطير وأوهام كما يقول ابن خلدون) عن أصول حميرية لبعض قبائل المنطقة أحسن المخارج اعتمادا على ما يؤكده علماء الأجناس من هجرات سامية قديمة.
ويتفق الأستاذ الحسين مع الباحثين في التاريخ الموريتاني من أمثال الناني ولد الحسين حول العلاقة بين الأنباط ومملكة"أنبية" كما سماها المؤرخون باعتبارها مملكة لمتونة، ولا يستبعد علاقة الكلمة بأنباط البتراء رغم بعد ذلك من جهة طبائع العمران بالتعبير الخلدوني.

فراغ ما بعد المرابطين
ويتمثل الجهد الكبير الذي قام به الأستاذ الحسين ولد محنض في مؤلفه بمحاولة إضاءة تاريخ البلاد خلال عصوره المظلمة ما بين تفكك الدولة المرابطية الجنوبية والعصر الحساني وهي أربعة قرون يلفها الغموض.
وقد عمد المؤلف إلى المزاوجة بين تاريخ الثورات الفاشلة على الموحدين في جنوبي المغرب، والروايات الشفوية التي دونها مؤرخو "البيظان" والسودان بعد العصر الحساني، مع إشارات الرحالة والمستكشفين الغربيين (واستفاد هنا من كنز موسوعة جده المختار ولد حامدن استفادة كبيرة) ليقدم لنا تصورا لتلك المرحلة.
فقادة المرابطين الذين ثاروا على الموحدين وأرادوا أن يعيدوا مجد أسلافهم من أمثال "ابن غانية المسوفي" و"ابن الصحراوية اللمتوني" هم من أسس المحلات القوية لدولة المرابطين الثانية التي كان من أكبر ملوكها "الخظير بن يحي"، ويعضد ذلك على مذهب الحسين في رحلة الأسماء (وهذه إضافة من عندنا) أن كلمة "الخظير" اليوم تستعمل في حسانية منطقة "الركيبة" (لعصابه) لوصف من يتعالى ويتكبر على الناس، ومنها تفرعت سلطة "ابدوكل" و"بيلكة" الذين منهم "انريزيك" في منطقة الجنوب الغربي، وخلال نفس الفترة تأسست المدن الشمالية بفعل هجرة علماء هربوا من بطش الموحدين مثل الشريف عبد المؤمن مؤسس "ودان" ثم "تشيت"، ومع هذه المجموعات تأسست "تينيكي" و"تكبة" لاحقا.
ومن "انريزيك" وفي أحضانهم نشأت مجموعة "التونكجيين" الذين هم أسلاف "بني ديمان" من "تشمشة" بيت القصيد في رواية الحسين لتاريخ المنطقة، ويقبل الحسين الأصول الصنهاجية والعربية للعديد من البيوت الأميرية في ممالك الزنوج في حوض نهر السنغال، وهي على العموم رواية تذكرنا بأنساب أمم العجم التي دخلت الإسلام والتي تربط كل شريف فيها بأصول عربية نظرا لقداسة كل ما يمت إلى العرب ولإسلام.
ويربط الحسين الصراع بين طلائع "بني حسان" ومجموعة "ابدوكل" الصنهاجية على خفارة القوافل والسفن الغربية برواية شفوية سجلتها "الرسالة الغلاوية" عن حرب "شرببه" ويسميها "شرببة الأولى"، وهي فرضية فيها نظر.
ويقدم المؤلف في كتابه مصادر جديدة تنشر لأول مرة عن بدايات الحضور البرتغالي على الشاطئ الموريتاني، ويضيء تاريخ المرحلة بملخص عن ممالك الجنوب السودانية "تكرور، وغانة، والسونغاي، ومالي"، ومحاولات السيطرة السعدية على طريق الذهب.

فرضيات تنتظر التدقيق
ولعل أهم ما في تاريخ الحسين بن محنض (وخصوصا جزأه الأول) إضافة إلى جهده الجبار في جمع شتات ما تفرق في كتب التاريخ والروايات الشفوية والبحوث العصرية، أنه يمتلك جرأة كبيرة على تقديم فرضيات جديدة ودعم أطروحات أكاديمية هامة ستشكل مثار نقاش وجدل بين المتخصصين والمهتمين بالتاريخ والعلوم الإنسانية، وتقدّم العلم دائما يقوم على الدفع بالفرضيات كما يقول الفيلسوف "كارل بوبر".
ومن هذه الأطروحات الهامة دعمه لنمط القرابة الأمومي الذي كان مهيمنا على المجال الصنهاجي قبل تمكن الإسلام والتعريب الحساني، وهي فرضية كنا قد طورناها قبل عشرة سنوات في كتاب "المجتمع الفضفاض" وفسرنا من خلالها الكثير من غوامض البنية العائلية الموريتانية التي تتمتع فيها المرأة بمكانة كبيرة، وكان كشف الأستاذ الحسين عن أقدم وثيقة في الأنساب تتحدث عن الأمهات دليلا قويا رغم انه لم يرتب على هذه الأطروحة ما يترتب عليها من انتقاد لسلاسل الأنساب التي تأسست بعد القطيعة مع الذاكرة الصنهاجية، وكانت لباقة المؤلف وثقافته "الديمانية" وراء رواية الأنساب على ما يحبّ الجميع وتلك نقطة ضعف منهجية قلد فيها المؤلف جده المختارولد حامدن وتغفرها إكراهات مجتمع قبلي يرفض النقد العلمي.
ومن فرضيات الحسين التي تحتاج تدقيقا من الباحثين المتخصصين ما اقترحه تقليدا لجده من أن عاصمة المرابطين الاولى "كوكدم، أو آزوكي" كانت في إيكيدي الشمالي (الساقية الحمراء)، وزعمه أن رباط ابن ياسين كان في جزيرة قرب "تيكنت" ونهرها الناضب الذي اعتبره هو ما تحدثت عنه رحلة حنون القرطاجي، ومما يحتاج المراجعة ما رواه عن حرب شرببة الأولى بين "ابدوكل" وبني حسان "الودايا" اعتمادا على "الرسالة الغلاوية" التي يغلب على الظن أنها تتحدث عن تحوير شفوي لحرب شرببة الثانية في تراث المناطق الشرقية التي لم تتأثر بالتحولات التي تركتها تلك الحرب بين تشمشة والمغافرة كما كان عليه الحال في مجالها الحقيقي بالترارزة الحالية، ويشهد لذلك أن شروط المنتصرين عن تأمين المسافرين والضيافة والمياه هي نفسها كما في الحرب الثانية.
ولقد استطاع الأستاذ الحسين بن محنض أن يربط الكثير من الأحداث التاريخية عن طريق اقتفاء التشابه في الأسماء باعتماد منهج "فيلولوجي" ليس من أقوى المناهج، وهكذا ف"أغرمان" هم أحفاد "الغرمنطيقيين" و"النمادي" من بقايا "النوميديين" و"تجكانت" أبناء القائد الللمتوني "مدرك التلكاني" و"تندغة" هم بقية الدولة المرابطية الثانية لجدهم "ورتنداغ"، و"البافور" من "البافار"، وساعد المؤلف في هذه الروابط الظنية ألفته على ما يبدو بالصنهاجية التي يفسر بها الكثير من الغوامض، وهي ألفة طبيعية لأبناء منطقة الكبلة التي هي أحدث مناطق البلاد عهدا باللهجات الصنهاجية " كلام آزناك" وما زال بها إلى اليوم عدة قبائل تتكلمها.

"الكبلة" و"تشمشة" و"كابون"
ومن الفرضيات الغريبة في تاريخ الحسين بن محنض والتي تعود إلى رحلة الأسماء المتغيرة ما دافع عنه من أن التأثير الخارجي - الذي كان سطحيا في المنطقة - ترك بصماته على مفاهيم ومصطلحات هامة اليوم، ولعل دفاعه عن أن مصطلح "أهل القبلة" وهو مصطلح كلامي ليس من المرجح تداوله خارج كتب الفرق والمجادلات العقدية، سيكون أصل كلمة "أوداغست" وهو افتراض بعيد لأن المدينة عرفت بهذه التسمية منذ بواكير التاريخ الإسلامي قبل ترسخ هذه المفاهيم العالمة، والأغرب منه أن تكون تسمية منطقة الجنوب ب"الكبلة" بسبب هذا المصطلح الذي رأى فيه الحسين تسوية جمعت الخوارج والمالكية ضد الفاطميين، والأرجح أن تسمية الجنوب بالقبلة إنما هي تسمية حسانية انتقلت من مجالها الأصلي في الشام وشمال إفريقيا حيث قبلتهم تنحو إلى الجنوب، وهو ما وضحناه في كتاب "المجتمع الفضفاض" في معجم الجهات المعروف الذي يختلف بين ولاية الترارزة وعموم المناطق الموريتانية الأخرى لأنه معجم منقول من مجاله الأصلي مع الهجرة الحسانية، وإضافة كلمة"أهل" إلى "الكبلة" ليست معروفة في البلاد إلا في فترات متأخرة وربما بفعل التوظيف السياسي للجهة.
أما "تشمشة" وهو حلف الخمسة فإن من الغريب أن يعيده المؤلف لأصول خارجية مزعومة، وخصوصا أن هذا المجال ظل وثني الطابع على الأرجح حتى الحركة المرابطية ولا مكان فيه لتبيئة مصطلحات عالمة إلى درجة الترجمة كما تقضي به طبائع العمران.
ومن التفسيرات التي تبدو بعيدة ما رواه الأستاذ الحسين من تأصيل لكلمة "فظمه" في الصراع بين الخوارج والشيعة حول شخص فاطمة الزهراء عليها رضوان الله، والأغرب منه ولعله على سبيل المزاح الصحفي ما ربطه الحسين ولد محنض من علاقة بين تسمية "كابون" التي تطلق شعبيا على الدب وبين قائد بربري في شمال إفريقية استطاع أن ينتصر على الروم ببعض الحيل.
والمشكلة الكبرى في التاريخ الموريتاني هي ما يقوم به المؤرخون من الربط بين منطقة ليبيا الحالية وبين هجرات شعوبها إلى ما سيعرف لاحقا بموريتانيا، وهو أمر قد يبدو بعيد الشقة وصعبا نظرا للبعد المكاني بين المنطقتين والتضاريس القاحلة التي تفصلهما، و ذلك ما يجعلنا نضع كثيرا من الأطروحات في طور التخمينات التي تحتاج إلى المزيد من البحث.
وخلاصة القول أن كتاب الأستاذ الحسين ولد محنض جاء إضافة كمية ونوعية للمؤلفات التي بدأت تغزو المكتبة الوطنية مؤخرا حول تاريخ البلاد، وهو مثل صنوه كتاب"مجمل تاريخ الموريتانيين" للمهندس "كاكيه" وغيره من الكتب التي يكتبها أحيانا مؤرخون بالهواية، دليل على أن المثقفين في هذه البلاد مستاءون من تأخر البحث العلمي التاريخي في هذه المنطقة رغم الجهود الكبيرة التي بذلها ددود ولد عبد الله ومحمد المختار ولد السعد والناني ولد الحسين وحماه الله ولد السالم و أترابهم.
ومهما كان اختلافنا حول متانة المنهج الفيلولجي اللغوي الذي اعتمده الحسين بن محنض، فإنه أكد من جديد أن بعض المؤرخين بالهواية قادرون على منافسة المتخصصين، وهو بذلك يذكّر بالعمل الضخم الذي قام به صحفي مثل "ول ديورانت" في كتابه "قصة الحضارة"، وسيكون الفضل الأكبر ل"تاريخ موريتانيا القديم والوسيط" أنه جمع كمّا هائلا من المعلومات المتناثرة وقدمها في نسق مقبول، وأنه أصدر عشرات الفرضيات التي ستكون مثار بحث المهتمين.

هناك تعليق واحد: